الرياضة ومهرجانات تكريس القبح والسفالة!

السبت، 22 فبراير 2020 11:12 ص
الرياضة ومهرجانات تكريس القبح والسفالة!
أيمن عبد التواب يكتب :

في كتابه الشائق «حَيْوَنَةُ الإنسان»، الصادر في العام 2003، يحذرنا الكاتب والشاعر السوري «ممدوح عدوان» من تحولنا إلى حيوانات عن طريق آفة الاعتياد وخطورة التعوّد، وما يمكن أن تُخلّفه هذه الآفة في تكوين الإنسان، وتغير من طبيعته، وتُنبت فيه أشياء تتعارض مع فطرته السليمة التي فطره رب العالمين عليها.
 
الاعتياد على شيء- محمودًا كان أم مذمومًا- يكرسه ويرسخ وجوده في العيون قبل النفوس.. فالتعود على الجمال قد يبدأ بكلمة، أو بصورة، أو بمشهدٍ، أو بتصرفٍ حسنٍ، أو بسلوكٍ قويم.. بينما اعتياد القبح عكس الجمال في كل شيء، فاذا لم يُواجَه هذا الانحراف بكل حزم وحسم، فإنه يتمدد، وينتشر، ويتوغل، ويضم إليه جماعات من الناس لم يعيبوه، ثم ارتضوه.. ويربون أبناءهم على هذه السلوكيات المشينة، فكانت النتيجة أن صار لدينا قطاعات عريضة لا ترى في القبح ولا السفالة ولا قلة الأدب عيبًا، بل تظنها معيارًا للرجولة بكل ما تحمله من معنى!
 
ربما يُهّون القارئ من خطورة ما أرمي إليه، ويقول إن ما يفعلونه هم وأبناؤهم مجرد «عرض طارئ»، أو «تفاريح»، وسرعان ما يقلعون عنها.. لكن ألا يعلم هؤلاء أن معظم النار من مستصغر الشرر؟ وأن الإدمان يبدأ بـ«سيجارة فرايحي»؟ وأن «الزنا» يبدأ بنظرة؟ وأن «مقالب الزبالة» تبدأ بورقة لقيطة، أو قشرة موز، أو بقايا طعام؟ وأن ما يسمى بأغاني المهرجانات بدأت بشخص مغمور، وكلمات هابطة، ولحن صاخب نشاز؟
 
آفتنا التعوّد لتكريس كل قبح وسفالة وانحطاط.. بل وتكريس الظلم، والقهر أيضًا.. هل راقبت التغيرات التي تحدث داخلك وأنت تشاهد صورة، أو فيديو لعدوك وهو يقتل أحد أبناء وطنك أو عروبتك؟ ربما لا تطيق رؤية هذا المشهد في المرة الأولى.. لكن بتكرار المشهد في أوقات مختلفة، ربما تشاهده ودماء الثأر والانتقام تغلي في عروقك، ثم تشاهده في المرة الثانية وتدينه، ثم تشاهده ثالثًا، وتستقبحه، ثم رابعًا وتستقذره، ثم بتكرار المشاهدة تهدأ نفسك، وتتعود عينك على هذا المشهد، وتصل إلى مرتبة الحيوانية، وتصبح متبلد الحس، متجمد المساعر.. ولن تعد أنت هذا الذي كان ينتفض لرؤية طفل مقتول، أو امرأة مغتصبة، أو شاب محروق!
 
تنتشر آفات القبح، والسفالة، وقلة الأدب في فترات الضعف الحضاري والثقافي لأي أمة، حيث تختل المعايير، وينقلب الهرم السلوكي.. هذه الآفات تبدأ بآحاد الناس، كسلوك شاذ منحرف، فإذا ما وجدت بيئة صامتة أو مشجعة، أو ميوعة في مواجهتها، فإنها تكون كالعدوى، فتنتقل إلى خانة العشرات، ثم المئات، ثم الألوف.. حتى يتسع الخرق على الراتق!
 
لقد بدأ أحد المغمورين، أغاني المهرجانات بأغنية هابطة، بكلمات هابطة، ولحن سوقي.. وتقاعسنا في مواجهته.. فلما وجد صمتًا، وتشجيعًا من البعض، تحول إلى «فيروس» انتقل إلى العشرات، ثم المئات ممن يُطلق عليهم «مطربو المهرجات»، الذين اعتاد كثير منا على سماعهم، فحققوا شهرة عريضة، جعلت بعض المسؤولين يستعينون ببعضهم لإحياء حفل في استاد القاهرة، فكانت الكارثة حين حرضت إحدى أغنياتهم على شرب الخمور والحشيش!
 
وبدأت السفالة وقلة الأدب في الملاعب من أحد الجماهير المتعصبين، الذي ظن أن تعصبه الأعمى لفريقه، وشتمه لاعبي الفريق المنافس، هو تشجيع رياضي.. فلما لم يوقفه أحد عند حده، تحول إلى فيروس في المدرجات، وظهر مشجعون «شتامون»، ثم تطور الأمر بظهور روابط الألتراس التي خاضت في أعراض اللاعبين، وما تركت ناديًا أو لاعبًا أو إداريًا منافسًا إلا ونالت منه، وكالت له أقذع الشتائم.. بل إن ناديهم، ولاعبيهم، وإدارييهم لم يسلموا من سفالاتهم، وقلة أدبهم، وتعصبهم المقيت.. فماذا كانت النتيجة؟ أفقنا على كارثة مجزرة استاد بورسعيد، وما زلنا ندفع الثمن.
 
ثم انتقلت السفالة من بعض الجماهير إلى بعض اللاعبين الذين تقمصوا دور المشجعين المتعصبين، وراحوا يستفزون مشاعر الفريق المنافس وجماهيره بالكلام والأفعال، دون أن يحاسبهم أحد.. بل- للأسف الشديد- وجدوا صمتًا، وتشجيعًا من بعض المسؤولين، ومن بعض الصحفيين والإعلاميين الذين تخلوا عن رسالتهم، وتحولوا «طواعية» إلى مشجعين متعصبين، أو أجبرتهم «السبوبة» على القيام بهذا الدور القذر! 
 
وإذا كان انتشار السفالة بين الطبقات الدنيا خطير، فالأخطر انتشار ها بين الطبقات الأعلى، وكبار المسؤولين.. فها نحن قد اعتدنا على سماع التصريحات الاستفزازية، والتهديدات المستقبحة، و«البذاءات» المنتقاة، التي يطلقها رئيس نادٍ كبير بحق مسؤولين رياضيين وغير رياضيين، على الهواء مباشرة، عبر قنوات تليفزيونية، أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، دون أن يقترب منه أو يحاسبه أحد، محتميًا بحصانة برلمانية، رفض مجلس النواب رفعها عنه مرات عدة؛ حتى ترسخ لدى البعض أن هذا «الشتام»، «الغلّاط»، هو النموذج الذي يجب أن يكون عليه رئيس ناديهم.. فقلده بعضهم واتخذوه قدوةً، ومثلًا أعلى، حتى رأينا عشرات مثل هذه النموذج في دوريات المظاليم.. وأصبح لدينا مَنْ يدافع عن القبح، ويبرر السفالة، ويصقف لقلة الأدب!
 
والأخطر- حقًا- هو اختلال المعايير، فلم يعد شعار الرياضة: «التواضع عند النصر، والابتسام عند الهزيمة»، بل: «الغرور والاستفزاز عند الفوز، وضرب وشتيمة المنافس عند الهزيمة».. وللأسف، بعض اللاعبين توهموا أن البلطجة داخل الملعب «رجولة»، واستفزاز المنافس «بطولة»، وإهانة الآخر محبة لناديهم.. وتناسوا أن «كل إناء ينضح بما فيه»، و«الشيء من مأتاه لا يستغرب»- كما يقول المثل العربي- أو كما نقول في فلسفتنا الشعبية: «إن طلع العيب من أهل العيب ميبقاش عيب»! 
 
 
اللعنة على التعوّد.. فالاعتياد على القبح يكرس القبح، والاعتياد على السفالة يكرس السفالة.. والاعتياد على الفساد يكرس الفساد، والاعتياد على البلطجة يكرس البلطجة.. والاعتياد على القهر يكرس القهر.. هل سألت نفسك كيف اعتادت أذنك على سماع الصخب الضجيج الذي يقابلك في كل مكان؟ وكيف اعتادت أنفك على الروائح الكريهة المنتشرة في معظم الأماكن؟ وكيف تتعايش عينك مع الأشياء المنفرة المقزّزة التي تصدمك أينما وليّت وجهك؟
 
إنه التعوّدُ الذي يقتل فينا أشياء جميلة، ويحيي فينا أشياء قبيحة.. التعوّدُ الذي هو أعمق وأبعد أثرًا تخريبيًّا في الإنسان، من اللامبالاة والأنامالية، وعدم الاهتمام.. إنه الاعتياد الذي يميت داخلنا شُعيرات حساسة في مجرى الشم والسمع والبصر.. أو كما يقول «ممدوح عدوان»: «نحن لا نتعوّد إلاَّ إذا مات فينا شيءٌ، فتصوَّر حجمَ ما مات فينا حتى تعوّدنا على كلّ ما يجري حولنا.. فكم فقدنا من كرامتنا وإنسانيتنا؛ حتى صرنا نتعوّد الإذلال المحيط بنا، لنا ولغيرنا؟!».
 
بإمكان الدولة- لو أرادت- أن تفعل الكثير من أجل ترسيخ الجمال، وعودة الانضباط في حياتنا، ليس بقوة المنع، بل بمواجهة القبح بمزيد من الجمال، والتصدي لأغاني المهرجانات بتشجيع الشعراء والمبدعين على إنتاج المزيد من الكلمات والأغاني المحترمة، والتخلي عن الدراما «الهايفة» لصالح الدراما الهادفة، والتصدي للبلطجة والسفالة، وقلة الأدب بتطبيق القانون على الجميع دون استثناء، وإعلاء القيم والمثل العليا، وتعليم الأجيال أن المجد للعلماء والشرفاء والمحترمين، وليس للعوالم، والفاسدين، والسفلة، والبلطجية.. 
 
تقول الحكمة: «مَنْ أمن العقاب أساء الأدب». ويقولون في الأثر: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».. فهل يفيق مسؤولونا، ويتصدون لهذا القبح بكل حزم وحسم، أم سينتظرون حتى نستيقظ على مجازر أبشع من مجزرة بور سعيد؟!

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق