الليبرالية ستنسف وهم «العالم الجديد».. ماذا بعد كورونا؟

الأربعاء، 08 أبريل 2020 06:00 م
الليبرالية ستنسف وهم «العالم الجديد».. ماذا بعد كورونا؟
كورونا

هل نحن مقبلون على عالم جديد في المستقبل القريب؟ هذا ما يتوقعه بعض الخبراء بعد انتهاء أزمة كورونا التي ضربت الكرة الأرضية، حيث وضع بعضهم سيناريوهات تتنبأ بتراجع الولايات المتحدة الأمريكية مع صعود الصين بدلا منها، حيث سيواكب ذلك تفكك الكتلة الأوربية، وسيختفي سباق التسلح مع اهتمام الدول بضخ مليارات الدولارات في مجال التعليم والصحة، كما سينقلب العالم علي الرأسمالية المتوحشة أو يُعيد الاعتبار لأيديولوجيات اليسار.

الشهور الثلاثة التي عاشها العالم مع فيروس كورونا جعلت البعض يضع سيناريوهات أقرب إلي الخيال هدفها إعادة هندسة المنظومة القائمة أو صياغة منظومة عالمية جديدة، بدون قراءة حقيقية عميقة للمشهد، أو استناد إلى مؤشرات واقعية تُرجح احتمالا أو تبشر بتحول.

والحقيقة أنه لا دليل على تلك الأمنيات، التي تصطدم بالواقع والتي تؤكد أن عالم ما بعد الوباء لن يكون مختلفا بصورة كبيرة عن عالمنا الذى صنعناه وعشناه قبل الأزمة.

كانت الأزمة مباغتة وبالغة الشراسة، إلى الحد الذى أخرج كثيرين عن حسابات المنطق، بدءا من ممارساتهم اليومية وآلية إدارتهم للشؤون الخاصة، وصولا إلى قراءة السياق العام وتوقع ما قد تؤول إليه الأمور. المقدمات لم تكن منطقية أو سلسة التدفق، لذا فإنها على الأرجح لم تقُد إلى استخلاصات أو نتائج على حظ مقنع من المنط!

الشعور العام بضغط الأزمة دفع الجميع تقريبا إلى ابتكار وتخطيط مسارات ذهنية متخيلة للمستقبل، بما يضمن لهم تفادى تكرار تلك الحالة أو التورط فى أزمة مثيلة.

المشكلة أن الأسباب البيولوجية للوباء لم تكن مقنعة لهم كمدخل وحيد لتفسير الحالة، إذ تشبه علوم الميكروبيولوجى بالنسبة للعامة ما تثيره الغيبيات وعلوم الميتافيزيقيا فى نفوس العلماء التجريبيين، لذا استسهل أغلب المشتبكين مع الظرف الراهن وتجلياته أن يُلصقوا المحنة فى جبين النظام العالمى القائم، وأن يستنتجوا من ذلك تصوراتهم الشخصية عن المستقبل وفق الهوى أو الطبقة أو المرجعية الأيديولوجية.

اعتبر المتفائلون أن وباء فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19" دليل على إخفاق المنظومة العالمية القائمة. ويري البعض ذلك تجسيدا لاختلال العلاقات الدولية وضعف المؤسسات الأممية،  في رحين يراه آخرون فضحا لتشوه علاقات السوق وآليات الإنتاج، في حين قطع فريق ثالث بأن هذه الأزمة هي إعلان موت لليبرالية نفسها وبداية لانهيار عصر القطب الأمريكى وتفكك الوحدة الأوروبية.

الحقيقة أن الجميع كانوا يعبرون عن أحلامهم وتطلعاتهم الشخصية، أكثر من كونهم يقدمون قراءة موضوعية للراهن والمستقبل، أى أنهم تحت ضغط المحنة وقسوتها تورطوا فى إنتاج حالة مخادعة من الطمأنينة الزائفة، لأنها تنبع من الداخل، من منطقة الهوى والانحياز الشخصى، بدلا عن أن تكون نتاجا عضويا لتفاعلات الأزمة ومسارات تطورها فى بيئتها وظروفها بدون أية مؤثرات غير موضوعية.

كتب هنرى كيسنجر، وزير الخارجية ومستشار الأمن القومى الأمريكى الأسبق، وربما الأشهر على الإطلاق، مقالا فى صحيفة «وول ستريت جورنال» تنبأ فيه بفشل العديد من المؤسسات الدولية والوطنية بفعل الأزمة، وأن يُسفر الوباء عن إعادة صياغة للمنظومة العالمية.

توقع اقتصاديون وماليون أن تتغير خريطة السوق وفق صياغة جديدة لآليات الإنتاج والتداول والتشغيل والأولويات النوعية والقطاعية. ورأى كتاب ومفكرون وسياسيون أن معادلة التوازن الدولى ستتغير وربما تتراجع واشنطن وتتقدم بكين.

وقال العلماء والباحثون والمهنيون والمعلمون والمرضى إن خريطة الإنفاق ستتبدل تماما بمزيد من الضخ لقطاعات الصحة والتعليم والبحث العلمى، وجزم الفقراء بأن العالم سيصبح أكثر عدالة ورحمة وتسامحا. للأسف لم يقدم أى منهم دليلا واحدا إلا الأمل، أو بالأحرى الوهم! سقط الجميع فى فخ الشعبوية بينما يُفترض فى أزمة ذات طابع بيولوجى أن تكون الرؤى علمية.

حتى الآن لا تتوافر أية شواهد أو مؤشرات تقود إلى توقع أن يتغير العالم بعد الخلاص من وباء كورونا المستجد، بل على العكس ثمة رؤى وتفاصيل دقيقة تُعزز احتمالية أن تظل الأمور على ما هى عليه فى أفضل التوقعات، وفى أسوأها أن تتحول إلى الأسوأ لكن على أرضية المنظومة القائمة ومكوناتها وموازين القوى داخلها.

ترتبط الصورة التى سيكون عليها المستقبل القريب بالمدى الزمنى للأزمة، كلما طالت المحنة تعقدت الأمور، لكن التعقد ومسارات الحل ستكون كلها على أرضية المنظومة القائمة وداخل هياكلها المستقرة، ولن يتجاوز الأمر حيز الضبط أو الترشيد أو ترتيب الأفكار ضمن موجة متوقعة لقراءة المشهد واستخلاص دروسه، وليس ضمن انقلاب فكرى وأيديولوجي على المعادلة المعمول بها.

باختصار ستظل اللعبة ليبرالية بقدر أكثر أو أقل من المكياج لكنها لن تتحول إلى صيغة شيوعية أو حتى تنويعة ماركسية على الديمقراطية الغربية كما ترى بقايا اليسار الرومانسى، وباختصار أيضا لن تتبدل علاقات السوق ولا أولوياته وإنما ستتوازى معا بأوزان ومقادير وفق احتياجات العالم وتطلعات مراكزه المالية وحسابات العوائد والجدوى، ولن يُصبح العالم أكثر إنسانية لأنه لم يكن متوحشا أصلا.

لا يُمكن إنكار أن الأزمة الراهنة أنهكت الجميع، لكن الإنهاك كان شاملا وموزعا بالتساوى، وكما طال الحكومات والمؤسسات والشركات ورجال الأعمال، فإنه طال المفكرين والسياسيين والمهنيين والعمال والمجتمع المدنى والقوى الطليعية، لذا ما زالت موازين القوى على حالتها القديمة، ما يعنى أن قيادة السياق العالمى بعد "كوفيد 19" ستظل فى أيدى قادته قبل الوباء، وأن حدود التغير التى قد تطرأ على المشهد سترتبط بتلك الأطراف أكثر من غيرها، وستكون استجابة للمواقف والسياسات التى ستُعتمد من تلك المراكز.

أسباب منطقية تقود إلى الأسوأ

لم تنشأ أزمة الفيروس بسبب الليبرالية أو النظام العالمى القائم، ولن يكون المخرج منها إلا بفضل تلك المنظومة نفسها، لذا فإنها على الأرجح لن تقود إلى تقويض السياق الليبرالى أو إعادة الاعتبار للماركسية أو حتى تغذية الاشتراكية الديمقراطية على حساب الرأسمالية الصريحة، حتى لو تجاوزنا حقيقة أن تلك الصيغة نفسها ليبرالية مُحسنة وفق مقاييس تتلاءم مع صيغة دولة الرفاه وبعض مجتمعات شمال ووسط أوروبا، وأن تجارب الماركسية السابقة بالكامل أنتجت رأسماليات حكومية مشوهة ومحكومة بالقصور الذاتى والعجز عن معالجة أزماتها الداخلية وكبح جماح البيروقراطية التى تشق طريقها باتجاه دوائر البرجوازيات الصغيرة ثم التغوّل الاقتصادى. بعيدا عن التنظير الأيديولوجى لا يُمكن استخلاص أن "كوفيد 19" سيكون ثورة على الليبرالية بوضعيتها الحالية.

فى المقابل تتعالى التوقعات بأن تستجيب الليبرالية للأزمة، ليس بتحسين اختلالاتها الحالية وإنما بتطوير قدرتها على تلافى الأزمات المستقبلية أو مواجهة تداعياتها، وهو ما يعني  يعنى تفكيك المراكز الصناعية الكبرى وتوزيعها على أرجاء الأرض، أى يعنى مزيدا من الاستثمار فى وجهات جديدة وتجفيفا للنشاط فى أسواق أخرى.

كما قد يقود إلى توسع الشركات فى آليات التشغيل المستقل والعمل عن بُعد، أى تقلص مساحة المؤسسات التنفيذية والإدارية الضخمة لحساب العمل المنزلى والعمالة حسب الطلب، والخطير فى هذا الاحتمال أنه قد يتسبب فى تجفيف مساحة غير ضيقة من سوق العمل التقليدية وخسارة ملايين الوظائف الدائمة!

افتراض أن الأزمة قد تقود إلى تعديل آليات الإنفاق، وتعظيم مخصصات الصحة والتعليم والبحث العلمى على حساب السياسة والتسليح والهياكل التنفيذية للدول ينطوى على قدر من التبسيط المخل، أو التفاؤل الساذج، لأنه يفترض رسوخ الأولويات الحالية المدفوعة بحالة الهلع وعبورها بالصورة والترتيب نفسيهما إلى مرحلة ما بعد الأزمة.

سيخرج العالم من محنة «كوفيد 19» خاسرا ومتجردا من شطر كبير من مخزونه وثرواته المتراكمة خلال العقود الأخيرة، وسيسعى بالتأكيد لتعويض تلك الفواقد. تلك المساعى ستقود إلى تسريع وتيرة المنظومة القائمة وليس تعطيلها أو استبدالها. الأمر نفسه على صعيد الأفراد الذين سيخرجون متعطشين لحياتهم القديمة ليصبحوا أكثر نهما وشراهة، وخائفين من محنتهم الطازجة ليُمسوا أكثر ثقة فى المنظومة التى أخرجتهم من الأزمة وأكثر توجسا من احتمالات تغيرها أو الاصطدام بما لا يعرفونه ولا يطمئنون إليه.

الأرجح أن وتيرة الإنتاج ستتسارع لتغطى طلبا محموما على السلع والخدمات عقب انتهاء الأزمة. سيزداد الإنفاق الاستهلاكى وتتراجع معدلات الادخار فى المرحلة الأولى، ثم يتجه فريق من الناس إلى تخزين القيمة فى أصول أو ودائع بنكية، تدور لاحقا من خلال آليات الإقراض لتغذية السوق والمراكز الاقتصادية المتحكمة فيها. أي أن قطاعات التصنيع البسيط والتحويلى والسلع الاستهلاكية والترفيه ستكون أكثر استفادة، وقد لا تنمو قطاعات الصحة والبحث العلمى بأكثر من معدلاتها الطبيعية ووتيرة نموها المعتادة.

ربما لو طال أمد الأزمة أو شهدت منعطفات مفاجئة فى المستقبل القريب، تتغير الصورة أو تتسع آفاق التوقعات واحتمالات ما قد تؤول إليه الأمور، لكن حتى الآن لا تتوافر أية مؤشرات مُرجحة لما يروجه البعض عن تحولات حادة فى بنية النظام العالمى القائم، أو إحلال نظام جديد بالكامل بدلا منه. 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق