و استطاعوا اليه سبيلا

الخميس، 30 يوليو 2020 01:50 م
و استطاعوا اليه سبيلا
معتز أبو زيد يكتب :

تأتي علينا مناسك حج المسلمين لبيت الله الحرام هذا العام تحمل مشهدا جليلا عظيما مهيبا تحن له القلوب و تتفكر فيه العقول و تتصاعد معه الأرواح و المشاعر بين الأمل و الرجاء في أداء الفريضة و الحنين الى العودة و المداومة ، ان للطقوس الدينية أثرا في النفس البشرية أساسها الارتقاء في سبيل التواصل الروحي مع الله فتحقق غاية الأديان في اصلاح النفس البشرية ، و لما كانت مناسك الحج من العبادات المشروطة بالقدرة و الاستطاعة و بلوغ التكاليف و المشقة فانها دائما ترتبط بكونها وعدا الهيا مقدسا يكتبه الله لمن اصطفاه من عباده و اختاره لجمال الرحلة و جلال الأجر و الثواب ، الا أن الاختيار بل و الاختبار الالهي لمن يؤدي مناسك الحج هذا العام جاء برسالة أخرى مختلفة تدعو القلوب و العقول الى التدبر و اعادة تناول الدين من منظور تصحيح المفهوم و الؤرسالة بل و مسئولية حمل هذا الدين .
 
 
يعود الحج هذا العام بشعار الاطمئنان و الارتياح لمشهد توجس الجميع خيفة ألا يتحقق ، و لكن مع قلة الأعداد عاد الطواف البيت و تقرر أداء المناسك و هلت الملابس البيضاء تعلن استمرار العبادة و استدامة الشعيرة ، فأرسل الله بذلك رحمته الى الأرض أن ارادته تنفذ بين مخاطر المرض و ابتعاد المسافات و أن الاذن بالتعبد على الأرض يأتي دائما بارادة السماء ، و أن تنظيمات الأرض عندما يرتبط الأمر بالشأن العقائدي أو الروحي يجب أن تعتبر مشيئة الله و قدرته و ارادته في حفظ الدين و نجاة العباد .
 
و لكن في ظل هذه الارادة التي تجلت في اختيار الحجيج و امكانية الاجراء و أداء العبادة فان ما تداوله البعض من لقطات طواف القدوم أو الوقوف بعرفة كشف عن رسائل أخرى لمن يعتبر و لمن يتدبر ، فقد كان الأمر في الطواف حول البيت الحرام يشع نظاما و كأنها حركة الأفلاك في الكون كما أرادها الله ، و كأنها الرسالة التي ينقلها الحج الى العالم أن الناس منازل و درجات متتالية و متعاقبة و متلاحقة لا أحد يسبق القدر أو المحل أو المكان أو المكانة بل و سمحت لنا هذه الفراغات و الأعداد بمزيد الفحص و النظر فنرى أرض المسجد الحرام أجمل و نرى زي الحجيج أجمل و نرى شعائر الاسلام أجمل .
 
تتجلى عظة أخرى في هذه المشاعر لمن يتذكر أو يتابع ما كان من تدافع و صراع للمس أو مقاربة مكان أو موضع مقدس كالحجر الأسود مثلا و بين ما كان عليه الحجيج في الطواف بعيدا عن البيت الحرام ، فقد استدعت الضرورة لحماية البشر و هي أسمى مقاصد الشرع و الدين أداء الفريضة دون لمس أو مقاربة مع عدم الشك في القبول أو نقصان العبادات مما يؤكد أن ما يدخله البشر من تزيد في الدين يحتاج الوقفة و المراجعة و العودة لأصل الرسالة و مفهوم الدين ، فالله قد أمر بما يحتاجه و يستطيعه البشر و لكن البشر قد يظنون بأن تحملهم ما فوق الطاقة به المزيد من التقرب الى الله و حاشا لله أن يكلف نفسا الا وسعها .
 
و لنظرة أبعد و أعمق ظهرت الشعائر في الحج هذا العام على أنها رسالة حضارة و قدرة بين المسلمين أمام العالم مع قلة العدد أن يقدموا للبشرية أنهم أهل نظام تقدمي رفيع ، و أن نظرية الاسلام و فكرته سليمة بعيدة عن أخطاء التطبيق في كل زمان و مكان ، و تأثيرتلك النظرية لا يزال له محل من الالهام في النفس البشرية ، انها انسانية الفرد و مراعاة حقوق الآخر كحقوق النفس و تدبر مقاصد الشرع و بشرية العباد في أداء المناسك و أن الركن الخامس من أركان الاسلام و مع استراط استطاعة السبيل اليه قد يقدم ما تقدمه الأركان الباقية التي لا تحتاج شرط الاستطاعة ،فكما كان العدد القليل محل انتصار و انتشار فيما قدمه المسلمون الأوائل كان العدد القليل بين حجيج هذا العام باعثا على التأكيد على روح الاسلام و جوهره و قدرته على التأثير دون الحاجة الى عدد ، و أن المسلمين ليسوا غثاء سيل و أن الحج قائم و لو بأفراد معدودين و الاسلام قائم و لو قل الحجيج .
 
فها هو الدين يخبرنا ثانية أن العبرة ليست بالعدد ، فمن سافر لأداء الحج له الثواب و من استقر في بلاده و أدى عمله و كان في أهله له الثواب و من ساعد غيره له الثواب و من تصدق له الثواب و من ساعد في خير له الثواب و من صام له الثواب و مهاما قل ظاهر المقدار لفعل الخير فله الثواب ، و جاء وفد الجحيج قليل العدد سفراد عن المسلمين الباقيين يدلنا على أن كل في مكانه يسعى للثواب دون اشتراط السفر و لبس زي الاحرام فظروف المرض و الوباء لا تحدد الدين بل ان اتساع و رحابة المعتقد أكبر من الاجراءات و محدودية الزي و المكان .
 
النتيجة ان الوباء و المرض لم يكونا الا اشارات لمن يتناول الدين أن المنع ليس حلا و لكن فهم العبادة هو الحل و الوصول لجوهر الدين هو الحل ، و أن عظمة الاسلام و صورة المسلمين و ان كانت تعلو بمشاهد الحج الا أنه دروب الخير كثيرة للوصول الى السماء ، و هو ما يمكن الانتهاء الى تحقق ما ثبت أن فريضة الحج دون باقي العبادات تستحق شرط من استطاع اليها سبيلا ، و لكن الحج هذا العام أكد أن للحج شرط الاستطاعة للسبيل و لكن السبيل الى الله لا تمنعه شروط الاستطاعة .
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق