يوسف أيوب يكتب: كيف اقتربت لبنان من حافة الانهيار؟

السبت، 15 أغسطس 2020 08:30 م
يوسف أيوب يكتب: كيف اقتربت لبنان من حافة الانهيار؟
انفجار بيروت

العناد بين الفرقاء والقوى الخارجية الراقصة على اجساد ودماء اللبنانيين كان جرس انذار لتفجير المرفأ

سياسة مصر الـ"بيضاء" وعدم انحيازها لطرف على حساب الأخر جعلها محل ترحيب شعبى ورسمى

القاهرة تواصلت مع الفرقاء للوصول إلى أرضية وطنية مشتركة تنهى الشقاق.. وفتحت جسرين جوى وبحرى لتوصيل المساعدات والتخفيف عن كاهل اللبنانيين 
 
وكأن لبنان كانت بحاجة لهذا التفجير الدامى الذى دمر أكثر من نصف العاصمة بيروت مخلفاً ورائه قرابة الـ170 قتيلاً والاف الجرحى، لكى ينتفض الجميع منادين بإنقاذ لبنان من عثرتها.
 
تفجير مرفأ بيروت أيقظ النائمين من سباتهم، لكنه ليس جرس الإنذار الأول بإن لبنان كانت على شفا الانهيار، لأنها منذ سنوات وهى تعلن للملأ أنها قاربت على الانهيار، منذ أن ظلت لقرابة العامين بلا رئيس، وحتى حينما تم التوافق على الرئيس لم يكن بناء على توافق لبنانى وإنما أتفاق سياسى كان ينبئ منذ البداية أنه مقدمة لمستقبل أكثر خطورة، خاصة أن الاتفاق الذى أتى بالعماد ميشال عون إلى قصر بعبدا، لم يحدد الأطر الحاكمة للدولة، بقدر ما كان هدفه فقط أن ينال عون مراده وحلمه القديم بأن يكون في سد الرئاسة اللبنانية.
 
توافق كان مقدمة لانهيارات سياسية تبعتها سقوط لبنان في أزمة اقتصادية جعلت من "سويسرا الشرق" دولة مفلسة، لا تستطيع الوفاء بالتزاماتها، حتى أن مواطنيها لم يعودوا قادرين على الوفاء باحتياجاتهم الخاصة، فعادت مقايضة السلع إلى الواجهة مرة أخرى، وكأننا نعيش في أزمنة ما قبل الميلاد.
حدث ذلك ويحدث غيره الكثير منذ سنوات أمام كل اللبنانيين، سياسيين وشعباً، دون أن يتحرك أحد في محاولة لإنقاذ لبنان من هذه العثرة، بل زاد العناد بين اللبنانيين، وفشلت كل المحاولات لإثناء هذا الفصيل أو ذاك لكى يعودوا إلى المائدة الوطنية بحثاً عن حلول واقعية للازمات المتلاحقة التي تواجهها لبنان، حتى حينما دعا الرئيس عون قبل أشهر لمؤتمر وطنى جامع، لم تلبى القوى السياسية الأكبر الدعوة، ربما لخلافات شخصية، أو رغبة من بعضهم لإظهار "عون" ضعيفاً، أو أنه سبب الأزمة، وأن الحل ينطلق منه وليس من غيره.
 
لم يتلقى عون الرسالة بالشكل المناسب، بل ترك الحبل على الغارب لزوج ابنته، جبران باسيل، الذى قاد التيار العونى، ودخل في مناكفات سياسية مع بقية الفرقاء، لم ينتج عنها سوى مزيد من التعقيدات السياسية، وزادت من صعوبة المشهد، ولم يعد هناك أمل في التوصل إلى حلول ترضى الجميع، لإن الثقة غابت.
وزاد الأمر سوء أن القوى الدولية والإقليمية وثيقة الصلة بالوضع اللبناني الداخلى وقفت في مقاعد المتفرجين في انتظار ما ستؤول إليه الأحداث، والكل يمنى النفس أن لبنان ستأتيه راكعة في نهاية المطاف، حتى حينما بدأ الوضع السورى في الحلحلة، بما اعتبره المتابعون انه سيكون بداية إنفراجة للوضع في لبنان، لارتباط المصير بين الجارتين، لكن للأسف لم يحدث جديد، بل زاد الوضع اللبناني سوءاً، إلى أن رأينا تفككاً في جدار الحكومة اللبنانية حينما أعلن وزير الخارجية نصيف حتى استقالته، لأنه لم يعد يعرف كيف تدار السياسة الخارجية اللبنانية، التي هي من صميم اختصاصه، فضلاً عن اتساع الهوة بينه وبين قصر بعبدا، تجاه الوضع السورى، وهو ما بشر بانفجار وشيك في لبنان، واللافت أن استقالة "حتى" جاءت قبل ساعات من تفجير المرفأ!.
 
نعم أيقظ التفجير الأخير القلوب الغافلة والعقول التائهة، لكن السؤال الآن، إلى متى ستظل هذه اليقظة، فالحكومة استقالت، ونسمع يومياً عن استقالات داخل مجلس النواب ايضاً، وتهديدات هنا وهناك، لكن لم نسمع عن خارطة طريق تصحح مسار الداخل اللبناني، وهو ما يشير إلى أن الأزمة ستظل قائمة، ولن يكون هناك حل.
نسمع هنا وهناك أن أزمة لبنان الحالية اقتصادية، وهو قول يكشف إلى أي مدى وصلنا، فقد تجاهل الجميع أساس الأزمة وتمسك النتائج، فالأزمة أساسها سياسياً، وفى القلب منها ارتهان القرار اللبناني بقوى خارجية لا تبحث الا عن مصالحها فقط، وهنا مكمن الخطورة.
 
البعض ينظر أيضاً لاستقالة حكومة حسان دياب على أنها بداية الحل، وهو قول في رأيى يحتاج إلى مزيد من الدراسة والتدقيق للوضع اللبناني الداخلى، نعم الحكومة كانت مرفوضة من قطاعات شعبية كبيرة، خاصة في ظل استحكام الأزمة الاقتصادية، وفشل الحكومة في وصع حلول لها، بل وزعت الاتهامات يمينا ويسارا لكنها لم تضع يدها على الحل، وهو ما جعلها حكومة ملفوظة سياسياً وشعبياً أيضاً.
 
الاستقالة هي جزء من الحل، لكنها ليست كل الحل، فيجب اعتبارها مقدمة لحلول كثيرة تحتاجها لبنان، أهمها أن ينظر اللبنانيين لبلدهم وما تحتاجه، لا ما يحتاجه الآخرين منهم، أو بمعنى أدق أن تعود سياسة "النأى بالنفس" لتكون هي شعار كل اللبنانيين في الوقت الراهن، حتى تستعيد الدولة عافيتها، لأنه من غير المعقول أن تبقى لبنان رهينة لرغبات الآخرين، في حين أن رغبة اللبنانيين أنفسهم غير معترف بها.
 
الحل من وجهة نظر لبنانية الآن، العمل على تأليف حكومة جديدة تأخذ على عاتقها اعادة اعمار المناطق التي تضررت جراء الإنفجار واجراء الاصلاحات المطلوبة في الوقت نفسه لكي يخرج لبنان من كبوته الاقتصادية، وهو أمر صعب في ظل الظروف الحالية والتجاذبات المتعددة، فلاتزال هناك شكوك لدى أطراف لبنانية، وعلى رأسها حزب القوات ورئيسها سمير جعجع في إمكانية نجاح أي حكومة في ظل استمرار وجود السلطة الحالية، لذلك فهم يقترحون العمل من أجل الوصول إلى انتخابات نيابية مبكرة في أسرع وقت ممكن، باعتباره الطريق الوحيد لإحداث التغيير المنشود في البلاد وانطلاق عمليّة الانقاذ الفعلية.
والغريب فيما حدث بعد تفجير مرفأ بيروت، أن لبنان لم تتعافى من أزماتها، لأن القوى الخارجية التي كانت سبباً فيما وصلت إليه لبنان من أزمة، هم أنفسهم الذين ظهروا على المشهد محاولين استغلاله لمزيد من تحقيق المكاسب والرقص على مزيد من الضحايا اللبنانيين، وهو ما يؤكد أن أمام لبنان وسياسيها المزيد من الوقت، والكثير من الأحداث التي قد توقظهم من غفلتهم السياسية التي يعيشونها.
 
وقد تابعنا على مدار الأيام الماضية زيارات متتالية لبيروت، ولم يكن هدف أي منها انقاذ بيروت من نكبتها، بقدر إثبات الوجود، ولم يستثنى منها سوى زيارة واحدة، تلك التي قام بها وزير الخارجية المصرى سامح شكرى، وهنا لا أتحدث كونى مصرياً ومؤيداً لسياسة مصر الخارجية، خاصة المتعاطية مع الأوضاع الاقليمية، ولكن لإن المتتبع للخط المصرى سيجد أنها لا يتعامل بمنطق المصالح الضيقة، بقدر سعيه لتحقيق مصالح عامة للجميع، وهو الهدف الذى من أجله أوفدت مصر وزير خارجيتها لبيروت.
 
فقد سمعت من سياسيين لبنانيين كبار قولهم أن سياسة مصر تجاه لبنان "بيضاء"، بمعنى أنها لا تنحاز لطرف على حساب الأخر، وإنما ترتبط بعلاقات قوية ووثيقة مع كل اللبنانيين، لذلك التقى شكرى خلال زيارته رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، والزعيم السياسي الدرزي وليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، ورئيس الحكومة السابق زعيم "تيار المستقبل" سعد الحريري، ورئيس تيار "المردة" اللبناني سليمان فرنجية، ورئيس حزب (الكتائب) سامي الجميل، فضلا عن تواصله الهاتفى مع سمير جعجع رئيس حزب القوات، والبطريريك المارونى بطرس الراعى، وغيرهم من ممثلي كافة الطوائف اللبنانية، بما يؤكد أن أبواب القاهرة مفتوحة أمام كل اللبنانيين دون استثناء، لانها لا تستهدف سوى شيء واحد فقط، استقلال لبنان وعودتها مرة أخرى إلى مكانتها.
 
زيارة شكرى لبيروت جاء كما سبق وقلت في إطار السياسة والاستراتيجية المصرية الواضحة تجاه لبنان، فالرؤية المصرية لما يحدث حالياً في لبنان أنه ناتج عن تراكمات أدت إلى الكثير من المعاناة، لذلك فإن الأولوية التي يجب ان يجتمع الجميع حولها، هي تقدم لبنان واستقراره والحفاظ على سيادته مع ضرورة العمل على الأولويات الخاصة بالشعب اللبناني ومواجهة التحديات الإنسانية واحتياجات الإعمار والخروج بإطار سياسى يستطيع أن يواجه هذه الأزمة بشكل وثيق، يضمن الحفاظ على استقرار ووحدة لبنان ، ويعفى لبنان من التجاذبات الإقليمية التي لها وقعها خلال الفترة الماضية.
 
ومن هنا جاءت مشاركة الرئيس عبد الفتاح السيىس، الأحد الماضى، عبر الفيديو كونفرانس، فى المؤتمر الدولى لدعم لبنان، والذى نظمته فرنسا والأمم المتحدة، بمشاركة عدد من رؤساء الدول والحكومات، والذى استهدف حشد الدعم من قبل شركاء لبنان الدوليين الرئيسيين، وتنسيق المساعدات الطارئة من المجتمع الدولى فى مواجهة تداعيات انفجار مرفأ بيروت، لمساندة الشعب اللبنانى والاستجابة لاحتياجاته، سواء الطبية والغذائية، وتلك المتعلقة بإعادة تأهيل البنية التحتية، فخلال المؤتمر دعا الرئيس السيسى، المجتمع الدولى إلى بذل ما يستطيع من أجل مساعدة لبنان على النهوض مجدداً من خلال تجاوز الآثار المدمرة لحادث بيروت وإعادة إعمار ما تعرض للهدم، مناشداً الوطنيين المخلصين فى لبنان، على اختلاف مواقعهم، النأى بوطنهم عن التجاذبات والصراعات الإقليمية، وتركيز جهودهم على تقوية مؤسسات الدولة الوطنية اللبنانية، وتلبية تطلعات الشعب اللبنانى عبر تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الحتمية التى لا مجال لتأجيلها، بما يؤهل لبنان للحصول على ثقة المؤسسات المالية الدولية والدعم الدولى، الأمر الذى سينعكس إيجاباً على مسيرة لبنان نحو تحقيق الاستقرار والتنمية والرخاء.
ووضعت مصر نصب أعينها مسارين للتعامل مع الوضع اللبناني المستجد، الأول سياسى من خلال التواصل مع كل الفرقاء، على أمل الوصول معهم إلى أرضية وطنية مشتركة تنهى الشقاق وتعيد اللحمة اللبنانية مرة أخرى، والثانى من خلال المساعدة قدر الإمكان في التخفيف عن كاهل اللبنانيين الذين يعانون من أزمات اقتصادية متلاحقة، لذلك شرعت مصر فى أعقاب انفجار بيروت الأليم إلى تقديم يد العون للأشقاء فى لبنان عبر جسر جوى مُحمل بالمواد الإغاثية والأطقم والمستلزمات الطبية اللازمة لمساعدتهم على مواجهة تداعيات الحادث، كما فتح المستشفى العسكرى الميدانى المصرى فى لبنان أبوابه لتقديم الخدمات الطبية العاجلة، مع توصيل رسالة واضحة لكل اللبنانيين مفادها دعم مصر وتضامنها الكامل مع الشعب اللبنانى، واستعدادها التام لتقديم كافة أشكل الدعم من خلال المزيد من المساعدات الطبية والإغاثية اللازمة فى هذا الصدد، إلى جانب تسخير إمكاناتها لمساعدة الأشقاء فى لبنان بجهود إعادة إعمار المناطق المتضررة.
 
فتحت مصر جسرين جوى وبحرى لتوصيل المساعدات إلى الاشقاء اللبنانيين، حملت الأدوية الضرورية لصالح وزارة الصحة اللبنانية إلى جانب الدقيق اللازم لتعويض فقد لبنان مخزونه الاستراتيجي جراء انهيار وتلف صوامع التخزين المركزية داخل الميناء البحري، ومساعدات شاملة وبكميات كبيرة لصالح الشعب اللبناني الشقيق، تتضمن الجوانب الطبية والعلاجية والغذائية ومواد البناء وإعادة الإعمار، إلى جانب أطقم من الأطباء المتخصصين في مجالات متعددة يحتاجها لبنان في ضوء الأعداد الكبيرة من المصابين جراء الانفجار الذي تعرضت له بيروت، وقد لاقت المبادرة المصرية السريعة بإنشاء الجسر الجوي بين القاهرة وبيروت، ترحيبا لبنانيا كبيرا على المستويين الرسمي والشعبي، وتقديرا لدور مصر، حيث أكد اللبنانيون أن القيادة السياسية المصرية لطالما كانت سباقة إلى مساندة الشعب اللبناني ودعمه بصورة مستمرة وعلى كافة المستويات.
 
 ما قامت وتقوم به مصر تجاه لبنان، هو في اعتقادى النموذج الذى يبحث عن اللبنانيين من الخارج، فهم ليسوا بحاجة لمن يسكب مزيد من الزيت على النار المتقد، وإنما من يخفف عنهم المعاناة، ويكون بجوارهم في أزماتهم ومنحتهم، وأن يكون جسر تواصل بين كل الفرقاء، خاصة في ظل إنقطاع التواصل والاتصال بينهم.
 
فاللبنانيين ملوا من كثرة الكلام المعسول الذى يسمعونه يومياً من هذه العاصمة أو تلك عن مساعدة لبنان والرغبة في إنقاذها من عثرتها، لكنهم في الخلف يستبيحون دماء اللبنانيين من خلال زيادة الهوة والفرقة بين اللبنانيين، لذلك لم يكن مستغرباً أن نتابع الكثير من التصريحات لمواطنين لبنانيين وجهوا الشكر لمصر رئيساً وشعباً، لأنهم لم يحاولوا استغلال الوضع الأخير لتحقيق مكاسب خاصة، بل كان السعي المصرى منذ البداية، نحو تجنيب لبنان مزيد من الشقاق، ومزيد من الدماء. 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق