مصر تودع "الثعلب" سمير الإسكندراني

السبت، 22 أغسطس 2020 05:57 م
مصر تودع "الثعلب" سمير الإسكندراني
سمير الاسكندراني
نرمين ميشيل

ابنتا البطل: اهتمام الدولة بوالدنا يؤكد ان مصر لم ولن تنسى اخلاص أولادها 
 
ودعت مصر الأسبوع الماضى، "الثعلب المصرى"، الفنان الكبير سمير الإسكندرانى، الذى أرتبط أسمه في أذهان المصريين بالضربة القوية التي وجهها لجهاز الموساد الإسرائيلي، حينما ساعد في الكشف والايقاع بشبكة تجسس إسرائيلية استهدفت مصر بعد أن حاول الموساد تجنيده عندما سافر إلى إيطاليا في منحة دراسية عام 1958.
 
وتقديراً لدوره الوطنى، فقد نعت المخابرات العامة المصرية الفنان سمير الإسكندراني، الذى رحل عن عالمنا أمس الجمعة عن عمر ناهز الـ 82 عاما بعد صراع مع المرض، وقالت المخابرات العامة فى نعيها: "إنا لله وإنا إليه راجعون.. المخابرات العامة المصرية تنعي بمزيد من الحزن والأسى الفنان سمير الإسكندراني، الذي قدم لوطنه خدمات جليلة جعلت منه نموذجا فريدا في الجمع بين الفن الهادف الذي عرفه به المصريون وبين البطولة والتضحية من أجل الوطن.. رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته. وللأسرة خالص العزاء".
 
WhatsApp Image 2020-08-22 at 5.06.42 PM
 
وقالت أبنتا سمير الاسكندرانى "نجوى ونيفين"، لـ"صوت الأمة" أنهما فخورتان بنعى المخابرات العامة لوالدهما الراحل، ما يؤكد أن مصر لم ولن تنسى اخلاص أولادها لها، لافتة إلى أن والدهما كان حريص على عدم الاسترسال فى قصة الصفعة التى وجهها للموساد الإسرائيلي، إلا فيما هو معلن، مشيرتا إلى وجود الكثير من الأسرار المرتبطة بالقضية، لكن لم يتم الكشف عنها.
 
قصة حياة الفنان الكبير سمير الإسكندرانى تحمل الكثير من التشويق والإثارة، بدأت عندما ظهرت فتاة خطفت قلبه وهى "الفاتنة يولندا"، التى احبها كثير وأحب كل ما هو إيطالى من أجلها، وأصبح ذلك الشاب مختلف كثيراً فى زمنه بعدما أجاد لغات كثيرة ومتعددة، كما تعمق في معرفة أسرار وعادات وتقاليد فئات مختلفة، سواء كانت لأديان أو شعوب اخرى مما ساهم فى حصوله علي منحة دراسية في مدينة بيروجيا الإيطالية، وبعد عودته للقاهرة للمرة الأولى تألم عندما علم أن حبيبته "يولندا" رحلت مع صديقها القديم "أورلاندو" ليتزوجا في أوروبا، لكن دفعه هذا إلى حصوله على منحه دراسية جديدة بايطاليا لاستكمال ما بدئه.
 
حينما ذهب سمير في منحة دراسية إلي إيطاليا بدأت اللعبة الخطيرة، ففى "بيروجيريا" تحديداً عام 1958  كان فى هذا الوقت شاب فى العشرين من عمره يتحدث خمس لغات متحرر يجيد الرقص والغناء ويرسم بورتريهات في الشارع، وحينها كانت إيطاليا مليئة بعيون صيادي الموساد لعلهم يقعون علي من يصلح لأن يكون فريسة سهلة للتجنيد.
 
WhatsApp Image 2020-08-22 at 5.06.44 PM
 
تحرر وانطلاق "الثعلب المصرى" ساهم فى رسو العطاء عليه هذه المرة، بعد أن تصوروا أن سلوكه المتحرر لا ينتمي للنموذج المصري المتحفظ الذي إعتادوه في الشباب المصريين الذين يدرسون في الخارج، وبالتالي يسهل تجنيده والتعامل معه، وذهب الثعلب المصرى كعادته إلى الجامعة وفى هذا اليوم التقى بشخص يدعى "سليم" الذى بهر الجميع بذكائه وباتقانه لعده لغات بطلاقه، ورغم انبهاره ايضاً به فى البداية إلا أن شيئا ما بعث الكثير من الحذر في أعماقه، خاصة بعد تحركاته المريبة ومعرفة بأنه يحمل جواز سفر أمريكى وهذا يعكس ادعائه بأنه شخص عربى، ولم ينسى سمير ما تعلمة فى هذه اللحظه عن طبائع المجتمع الأوريى واليهودى من خلال معاشرته لهم بالقاهرة، فخدع "سليم" ليعرف نواياه بعد أن أدعي أن جده الأكبر كان يهوديا، واسلم وليتزوج جدته، وسريعاً سقط "سليم " فى جلباب الثعلب، الذى عرف نوايا سليم، واوهمه بكراهيته للنظام المصرى وسخطه منه بحكم نشأته، وكذلك بحبه الشديد للمال، وهو ما شجع "سليم" لتقديمه إلى "جوناثان شميت"، الذي لم يكن سوى أحد ضباط الموساد الإسرائيلى، ويعمل تحت ستار منظمة الحبر الأبيض لمحاربة الشيوعية والاستعمار، والتى كان هدفها وقف زحف الشيوعية علي الشرق الأوسط، واسترداد الأموال التي اغتصبتها حكومة مصر من اليهود الذين هاجروا من مصر بعد حرب 1956، وعرض على سمير العمل في المنظمة مقابل راتب شهري ثابت، ومكافآت متغيرة، ومن هنا بدأت التدريبات المكثفة لسمير على الحبر السرى وكيفية جمع المعلومات العسكريه، ثم طلب "جوناثان" من سمير التطوع في الجيش، وأن يبرر حصوله على المال بأنه كان يعمل مغنيا فى احد النوادى الليليه فى روما .
 
WhatsApp Image 2020-08-22 at 5.06.43 PM
 
عاد الثعلب المصرى إلي بيروجيا ليستقبل شقيقه الوحيد "سامي"، وأطلعه على الأمر فى سرية، وبعدها توجه إلى مصر، وبمجرد أن وصلت الباخرة إلي الاسكندرية أخذ سيارة أجرة الي القاهرة وذهب على الفور إلي منزله وروى لولده  كل ما حدث وتعرض له في إيطاليا، فساعده عن طريق صديق له سبق وأن اشتري منه موبيليا وكان هذا الرجل وكيل المخابرات العامة.
 
داخل مبنى أنيق بمصر الجديدة جرت المقابلة الأولى بين سمير الاسكندرانى وضابط بالمخابرات المصرية، ويقول سمير في أحد لقاءاته الصحفية، أنه قدم نفسه باسم "جعفر"، مضيفاً "عندما طلب مني أن يعرف حقيقة الأمر قلت له أنا لا أعرف حضرتك، ولا أعرف الباشا وكلامي معناه حياتي ورقبتي لذلك أنا لن أتحدث إلا مع الشخص الذي اعرفه، وعندما سألوني من الذي تعرفه؟ قلت لهم الرئيس جمال عبدالناصر".
 
WhatsApp Image 2020-08-22 at 5.06.43 PM (1)
 
ويستكمل " الثعلب المصرى": حاول الرجلان اقناعى بالحديث لكنني رفضت تماما، فقالا لي لو غيرت رأيك اتصل بنا، وغادرت المخابرات، حتي تلقيت اتصالاً من المخابرات المصرية وطلبوا مني الذهاب إليهم في موعد ومكان محددين فذهبت في الموعد بالضبط، واخذوني معهم إلي فيلا بسيطة بمصر الجديدة وبمجرد أن وصلنا استقبلنا رجل أنيق فاكتشفت أن الرجل الذي سبق أن استقبلني في مكتبه باسم جعفر وكان يركب معي السيارة هو "صلاح نصر" مدير المخابرات العامة، ودخلنا صالونا به صور للرئيس جمال عبدالناصر وأولاده وصورة للرئيس محمد نجيب وبعد فترة اظنها لا تتعدي ربع ساعة دخل علينا الرئيس جمال عبدالناصر، فهجمت عليه وقبلته وحاولت تقبيل يده لكنه رفض، فقلت له انا محتاجلك، انا في مشكلة كبيرة، فقال لي: صلاح ابلغني عنك كلام كويس قوي علشان كده قابلتك وكفاية انك جئت لنا بنفسك، وقتها عرفت أن الفترة التي تركوني فيها قام رجال المخابرات بعمل مسح شامل عني وعن عائلتي، وحكيت للرئيس كل ما تعرضت له في ايطاليا فأعطي اشارة البدء لصلاح نصر للتعامل معي، وكانت الوسيلة التي استقرت عليها المخابرات هي ان استمر في العمل مع المخابرات الإسرائيلية ".
 
وأكمل سمير الأسكندرانى بقوله "اطلعت الرئيس على كل ما لدى وعلى تخطيطهم المتمثل فى اغتيال المشير عبدالحكيم عامر بعد ان فشلت محاولاتهم لنسف طائرة "اليوشن 14" عام 1956 في الجو علي اعتبار أنه بداخلها، وكانوا يجندون لتلك العملية جاسوسا مصريا اسمه "ابراهيم رشيد" كانت كل تقاريره مسئولة لأن ترسم للموساد تحركات المشير أولا بأول، وكان مدير المخابرات الإسرائيلية وقتها يكرر طلبه دائما لتوافر معلومات أكثر عن تحركات المشير، أما الأخطر فهو اغتيال الرئيس جمال عبدالناصر عن طريق وضع سم طويل المدي في طعامه، خاصة انه كان يمثل الخطر الرئيسي علي اسرائيل علي حسب قول اسحاق رابين رئيس وزراء اسرائيل وقتها، لكن وضع السم في طعام عبدالناصر لم يكن شيئا سهلا".
 
من القاهرة بدأ سمير العمل مع المخابرات الإسرائيلية تحت علم وبتخطيط من المخابرات المصرية، إلى أن تمكن من الكشف عن خيوط أخطر واهم شبكة تجسس إسرائيلية، ومعظمها من الأجانب المقيمين في مصر الذين يعملون بمختلف المهن، وقتها أدركت المخابرات المصرية أنها أمام صيد هائل، يستحق كل الجهد المبذول وقررت أن تعد خطتها بكل دقة وذكاء وتستعين بقدرات سمير الثعلبية، لسحق الشبكة كلها دفعة واحدة، في أول عمل من نوعه، في عالم المخابرات وبخطة ذكية وأنيقة، تحتاج الي مقال كامل لشرحها.
 
واستطاع "الشاب المصرى"  إقناع المخابرات الإسرائيلية بإرسال واحد من أخطر ضباطها إليه في القاهرة، وهو موسى جود سوارد، الذي وصل متخفيا، لكن المخابرات المصرية تتبعت خطواته في دقة مدهشة، حتى توصلت الي محل إقامته، والي اتصالاته السرية برجلين هما رايموند بترو، الموظف بأحد الفنادق وهيلموت باوخ، الدبلوماسي بأحدي السفارات الأوروبية، الذي ينحدر من أم يهودية، ويتولى عملية إرسال العمليات إلي الخارج، مستخدما الحقيبة الدبلوماسية بشكل شخصي، وبضربة مباغته، ألقت المخابرات المصرية القبض علي موسى، وتحفظت عليه، دون أن تنشر الخبر، أو تسمح للآخرين بمعرفته، وتمت السيطرة عليه ليرسل خطاباته بنفس الانتظام الي الموساد، حتى يتم كشف الشبكة كلها، والإيقاع بكل عناصرها، وتساقط عملاء الشبكة واحد وراء الأخر.
 
ثم كانت لحظة الإعلان عن العملية كلها، وجاء دور الإسرائيليين لتتسع عيونهم في ذهول، وهم يكتشفون أن " الثعلب المصري " ظل يعبث معهم ويخدعهم طوال عام ونصف العام، وأنه سحق كبريائهم بضربة ذكية متقنة، مع جهاز المخابرات المصري، الذي دمر أكبر وأقوي شبكاتهم تماما، وفكروا في الانتقام من الثعلب بتصفية شقيقه سامي، لكنهم فوجئوا بأن المخابرات المصرية أرسلت احد أفضل رجالها لإعادته من النمسا، قبل كشف الشبكة، وكانت الفضيحة الإسرائيلية عالمية،ونصرا مصريا أصبح حكاية وسط العالم كله.
 
واستمع " الثعلب المصرى " إلي التفاصيل وهو يبتسم، لقد دعاه الرئيس جمال عبد الناصر، ليكافئه علي نجاحه في تلك اللعبة، عندما تسبب نجاحه في استقالة مدير المخابرات الإسرائيلية هرطابي.
 
ولد سمير الاسكندرانى فى حي الغورية الذى عاش فيها مع والده الحاج فؤاد سهرات وسط جزيرة من الفن وغناء والده بصوته المميز فوق سطح منزله من خلال وأمسيات الأدب والفن والغناء، فوق سطح منزله هناك، وامتزج نموه بأشعار بيرم التونسي، وألحان الشيخ زكريا أحمد، وأحاديث السياسة والحرب والاقتصاد ، وانتقل بعد ذلك مع اسرته من الغورية إلي شارع عبد العزيز وهنا كانت محطة تنقل كبيره فى حياة ، فى هذه المنطقة الحيوية الممتلئة فى ذلك الوقت بالأجانب والجاليات إيطالية ويونانية وإنجليزية واليهود.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق