لماذا يكره التنويريون الشيخ الغزالى؟

الأربعاء، 23 سبتمبر 2020 03:28 م
لماذا يكره التنويريون الشيخ الغزالى؟
مختار محمود يكتب :

"كل دعوة تُحبب الفقر إلى الناس٬ أو تُرضيهم بالدون من المعيشة٬ أو تُقنعهم بالهون فى الحياة٬ أو تُصبرهم على قبول البخس، والرضا بالدنيَّة ٬ فهى دعوة فاجرة  يُراد بها التمكين للظلم الاجتماعى٬ وإرهاق الجماهيرالكادحة فى خدمة فرد أو أفراد، وهى قبل ذلك كله كذب على الإسلام وافتراء على الله".. هذه واحدة من العبارات الحكيمة والبليغة التى تركها الشيخ محمد الغزالى، الذى حلت ذكرى ميلاده الثالثة بعد المائة أمس، وسط تعتيم إعلامى يصل حدَّ التضليل.
 
لم يكنْ "الغزالى"، مُجرد عالمٍ أو فقيهٍ، ولكنه أوتى جوامعَ الكلم، كما أوتى الحكمة، ومَنْ يؤتَ الحكمة فقد أوتى خيرًا كثيرًا. بعيدًا عن مواقفه الرائعة ومؤلفاته الخالدة ومبادئه الناصعة التي دافع عنها طوالَ حياته، دون أن يخشى فى الله لوئم لائم، فإنَّ "الغزالى" صاغ عباراتٍ مُختصرة، وجملًا مختزلة، تُشبهُ التغريداتِ والتدويناتِ القصيرة في زمن الفضاء الألكترونى، في عدد كلماتها، ولكنَّ كلًّا منها ترصدُ، في بلاغةٍ لا حدودَ لها، ظاهرة وتطرحُ حلًا لها، أو تُشخِّصُ مرضًا وتكشفُ علاجه، أو ترصدُ عرَضًا وتقدمُ دواءَه.
 
" الغزالى"، الذي عاش بين عامى 1917 -1996، تجلت عظمته في أنه كان يترجمُ ويقولُ ما في عقول المسلمين وصدورِهم وقلوبهم بلا خوفٍ أو ترددٍ، لقد كان مُمثلًا أمينًا للمُستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها؛ لذا فإنَّ حضورَه، رغمَ الرحيل، لا يزالُ قويًا وطاغيًا، بل إن حضوره يفوق حضور علماء لا يزالون أحياء ويطاردوننا على المنبر وفى الإذاعة والتليفزيون، ولكنها أشياءٌ لا تُشترى، وهذا سَمتُ العلماءِ الحقيقيين الذين صاروا في زمننا الغادر عُملة نادرة، إن لم تكن معدومة الوجود.
 
كان "الغزالى" لا يلجأ إلى المناوراتِ، ولا يستصيغُ المواءماتِ، ويسترذل النفاق والمكر والتدليس الذي يتقنه علماء هذا الزمن أكثر من إتقانهم فى الدفاع عن شرع الله ومنهاجه، لذا فإن موقفُه من المعسكر الكاره للإسلام  كان واضحًا وجليًا، ولذلك فإنهم لا يخفون كراهيتهم وبغضهم للرجل رحمه الله حتى يومنا هذا رغم رحيله قبل نحو قرن من الزمان. ومن أقواله في ذلك: "إنَّ حضارة الغرب تكرهُ اللهَ، وتنفرُ من الحديث عنه وعن لقائه يومَ الجزاء، كما تكرهُ ربطَ القانون بمواريث الدين إجمالًا، وهي تتظاهرُ بأنها تُجافي الأديانَ جُملة، وهذا كذبٌ، فهي ناشطة في مُحاربةِ الإسلام وحدَه". ومما قاله عن الكيان الصهيونى، وهو جدير بالانتباه والتفكر والتدبر: "إنَّ زوالَ اسرائيلَ قد يسبقه زوالُ أنظمةٍ عربيةٍ عاشتْ تضحكُ على شعوبها"! أعلنَ "الغزالى" نفورَه من التشدُد والغُلو، حيث قال: "الإكراهُ على الفضيلة لا يصنعُ الإنسانَ الفاضلَ، كما أنَّ الإكراهَ على الإيمان لا يصنعُ الإنسانَ المؤمنَ؛ فالحرية هي أساس الفضيلة".
 
كما استشرفَ، رحمه اللهُ، حالَ المسلمين مُبكرًا في التعامل مع الدين، فكان مما قاله في تشخيص هذه الحالة: "هجرَ المسلمونَ القرآنَ إلى الأحاديث، ثم هجروا الأحاديثَ إلى أقوال الأئمة، ثم هجروا أقوالَ الأئمة إلى أسلوب المُقلدين، ثم هجروا أسلوبَ المفكرين وتزمتهم إلى الجُهَّال وتخبُطِهم". كانتْ نظرة "الغزالى" إلى جوهر الدين أكثر تقدمًا من جميع دُعاة التجديد و"أدعيائه"، حيث قالَ: "إنَّ كلَّ تديُّن يُجافي العلمَ ويُخاصم الفكرَ ويرفضُ عقدَ صُلح شريفٍ مع الحياة هو تديُّنٌ فقدَ صلاحيتَه للبقاء. التديُّنُ الحقيقيُّ ليس جسدًا مهزولًا من طول الجوع والسهر، ولكنه جسدٌ مُفعمٌ بالقوة التي تُسعفه على أداء الواجبات الثِّقال، مُفعمٌ بالأشواق إلى الحلال الطيب من متاعٍ".
 
حذَّرَ "الغزالى" مما وصفه بـ "التديُّن المغشوش"، باعتباره آفة كلِّ عصر، فكتب: "التديُّنُ المغشوشُ قد يكونُ أنكى بالأمم من الإلحاد الصارخ. إنما فسدتْ الرعية بفسادِ الملوك، وفسادُ الملوك بفسادِ العلماء، فلولا القضاة السوءُ والعلماء السوءُ لقلَّ فسادُ الملوك خوفًا من إنكارهم". كما سخرَ، رحمه الله، مما اعتبره "إيمانَ الأغبياء" و"تقوى العَجَزة"، فأعلنها صراحةً: "إني أكرهُ إيمانَ الأغبياء؛ لأنه غباوة تحولتْ إلى إيمان، وأكرهُ تقوى العَجَزة؛ لأنه عجزٌ تحوَّلَ إلى تقوى"! حمَّلَ "الغزالى" أصحابَ التديُّن الزائف وأهلَ الغُلو والتطرُّف مسئولية كراهية بعض الناس للدين، فقالَ: "إنَّ انتشارَ الكفر في العالم يحملُ نصفَ أوزاره مُتدينون بغَّضوا اللهَ إلى خلقهِ بسوءِ صنيعهم وسوءِ كلامهم".
 
الدينُ الحقيقىُّ عند "الغزالى" هو المُعاملة والتطبيقُ الصادقُ لجوهر الدين، لذا نراه يتساءلُ مُستنكرًا: ما قيمة صلاةٍ أو صيامٍ لا يُعلِّمانِ الإنسانَ نظافة الضمير والجوارح"؟! ثمَّنَ "الغزالى" إعمالَ الإنسان لفكره وعقله، حتى وإنْ ضلً، لأنه حتماَ سوف يعودُ إلى رشده، فقال: "أنا لا أخشى على الإنسان الذي يفكرُ وإنْ ضلَّ، لأنه سيعودُ إلى الحقِّ. ولكني أخشى على الإنسان الذي لا يفكرُ وإنْ اهتدى؛ لأنه سيكونُ كالقشَّة في مهبِّ الريح"! أدركَ "الغزالى" أنَّ الباطلَ قد يكونُ قويَّا يومًا، ولكنه لنْ يستمرَ طويلًا، مُشددًا على ضرورة عدم الافتنان به، فقال: "هناك ساعةٌ حرِجةٌ، يبلغُ الباطلُ فيها ذُروة قوته، ويبلغُ الحقُّ فيها أقصى مِحنته، والثباتُ في هذه الساعة الشديدة هو نقطة التحوُّل". 
 
وهكذا تترى حِكمُ ومواعظُ الشيخ "محمد الغزالى"، وتبدو مُعاصرة ومُتجددة، رغم ما مضى عليها من عقود، ما يجعلها جديرة بأن تضمها دفتا كتابٍ؛ حتى تكونَ مرجعًا لكل باحث، ومصدرًا لكل مهتمٍّ.. رحمَ اللهُ قائلَها، وأحسنَ مثواهُ، وأدامه خنجرًا فى خاصرة كل كاره ومُعادٍ لشرع السماء، وكاشفًا لكل عالم منافق مراوغ غير مؤتمن على ما ائتمنه الله.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق