حمدي عبد الرحيم يكتب: من بطولات أكتوبر الخارقة

السبت، 17 أكتوبر 2020 11:17 م
حمدي عبد الرحيم يكتب: من بطولات أكتوبر الخارقة
حرب أكتوبر

 
في ساعة المواجهة العظمى كانت أسرة شاهين القناوية تقدم لخط الجبهة ثلاثة أشقاء، الراحل الكريم عبد المنعم شاهين يقاتل في قطاع الخدمات الطبية، وبجواره شقيقه الراحل الكريم رفعت شاهين يقاتل في سلاح الدفاع الجوي، ثم الأستاذ الدكتور المترجم والكاتب طلعت شاهين يرتب خرائط توزيع سرايا الفوج 74 دفاع جوي بالجيش الثالث بعد العبور.
 
عبر الأشقاء الثلاثة قناة السويس ليشاركوا في استرداد كرامة الأمة. بعد قرار وقف إطلاق النار عاد إلى الأهل اثنان هما عبد المنعم ورفعت، أما الدكتور طلعت فقد ظل في موقعه حتى العاشر من فبراير من العام 1974، ولأن كل ميسر لما خلق له، والدكتور طلعت خلق من أجل الكتابة فقد استثمر الدكتور طلعت أيامه ولياليه على الجبهة لمعرفة بطولاته لم يلتفت إليها أحد، ثم تكرم علينا وأفرج عن بعضها بمناسبة حلول ذكرى نصرنا العظيم.
 
الذي يقرأ ما كتبه ونشره الدكتور شاهين من بطولات خارقة لأبناء مصر يحق له أن يسأل: لماذا لم نعرف شيئًا عن كل هذه البطولات؟
 
للحق نقول: إن من المستحيل تسجيل كل شيء، فالأبطال الذين تدربوا وقاتلوا عددهم فوق الحصر، وكلهم له بطولته بشكل من الأشكال، وتلك الكثرة تعجز المؤرخ فلا يعرف أي بطولة يسجل وأي بطولة يهمل.
 
ولا حل سوى أن تتبنى جهة قادرة ذات إمكانيات الدعوة إلى توثيق ما أهمله التاريخ الرسمي. أقول هذا من خشيتي على ضياع هذا التاريخ المجيد، فالذين قاتلوا وشاركوا في الملحمة يتناقص عددهم عامًا بعد عام، ثم ـ وهذه هي سنة الله ـ سيأتي زمن لن نر فيه وجه أحد من هؤلاء العظماء.
 
في شهادته على المعركة وضع الدكتور شاهين نصب عينيه أن يشهد بما رأى وأن تكون شهادته عن الذين لم يعرفهم أحد، ومن هؤلاء يبرز اسم "محمد عصافير".
 
كتب الدكتور طلعت شاهين: نسي الجميع اسم ولقب هذا الجندي البسيط الذي لم يتعد العشرين من عمره، وأطلقوا عليه اسم (محمد عصافير)، لأنه كعادة أبناء منطقة بحيرة المنزلة كان يحمل على صدغيه وشما لعصفور أزرق اللون، وأذكر انه كان سعيدا بهذا اللقب، ولم يكن ينظر إلى من يناديه به على أنه يسخر منه، لأننا لبينا له طلبا بسيطا، وهو أن يقضي فترة خدمته حارسا على أحد المخازن التابعة للوحدة العسكرية التي كنا نخدم بها، لذلك لم يكن متوقعا منه أي شيء سوى العمل كحمّال في المخزن نهارا، وأداء دوره في الحراسة على المكان نفسه ليلا لأنه كما قال وقتها، أنه لا يجيد الكتابة والقراءة، ويرى أنه من الصعب عليه التعامل مع المدفعية المضادة للطائرات المعقدة في نظره، خاصة أن مدافع تلك الوحدة المضادة للطائرات كانت من الأسلحة الحديثة التي بدأ الجيش المصري يستخدمها بعد هزيمة 1967 وتستخدم أحدث تكنولوجيا الرادارات والحواسب الآلية. ومرت ثلاث سنوات وهو يمارس حياته بيننا سعيدا، إلى أن حانت لحظات القتال في السادس من أكتوبر 73 وتقرر عبور الوحدة لتأخذ موقعا متقدما شرق القناة لحماية القوات الأمامية من طيران العدو.
 
بقي (محمد عصافير) في الموقع القديم غرب القناة حارسا على مخزن مهملات يضم بقايا ملابس الجنود القديمة المفترض تسليمها للمخازن الرئيسية بالقرب من القاهرة، وانشغلنا نحن بمجريات الحرب التي كنا وقودها، ونسينا ذلك الجندي البسيط الذي يحرس المخزن ببندقيته الآلية التي حفظ كل قطعة منها طوال السنوات التي قضاها في الخدمة. وعندما حدثت (ثغرة الدفرسوار) يوم 18 أكتوبر ,1973 ووصلت الدبابات الإسرائيلية إلى منطقة غرب السويس، لم نعد نعرف أي شيء عن (محمد عصافير) وعدد قليل آخر كنا تركناهم للحراسة في المنطقة الخلفية، ومر أكثر من شهر على هذه العملية دون أن نعرف عنه شيئا، إلى أن عبر القناة بعض زملائه الذين تمكنوا من الوصول إلى مدينة السويس، وعبروا شرقا بحثا عن وحداتهم وأخبرونا عما حدث لهم عند وصول الدبابات الإسرائيلية إلى المواقع الخلفية، وكيف قاوموها ببنادقهم وبكل ما استطاعت أيديهم الوصول إليه، وأخبرنا بعض هؤلاء الجنود أن (محمد عصافير) ربما تم أسره، لأنهم شاهدوه يقاوم بشدة ويرفض الاستسلام، وظل يطلق النار من بندقيته الآلية على القوات الإسرائيلية وتمكن من إصابة عدد منهم لذلك طاردوه من المنطقة الصحراوية المكشوفة بمنطقة (جنيفة) وحتى منطقة (الجناين) ذات الأشجار الكثيفة على حافة القناة. وأكد بعضهم أن الطائرات الإسرائيلية شاركت في مطاردة هذا المقاتل العنيد وكانت المطاردة عنيفة، ونيران العدو كانت كثيفة واعتبره بعض الزملاء شهيدا، بل أن بعضهم بكاه وطلب إقامة صلاة الغائب.
 
بعد أن أحكم العدو الحصار علينا، مر الوقت بطيئا حتى تلقينا في فجر أحد الأيام مكالمة تليفونية من احدى وحدات المشاة الرابضة شرق قناة السويس بالقرب من البحيرات المرة، في المنطقة الفاصلة بين قوات الجيشين الثاني والثالث الميدانيين، قريبة جدا من منطقة "الثغرة"، وطلبوا منا الحضور للتأكد من هوية جندي عبر البحيرات من الغرب، لا يحمل هوية، ويدعى أنه ينتمي إلى وحدتنا العسكرية، وطلب قائد الوحدة أن أرافقه للتعرف، عندما ذهبنا لاستلامه وجدناه بملابسه الداخلية وملتفا ببطانية قدمها له قائد الوحدة التي ألقت القبض عليه واعتقد في البداية أنه متسلل إسرائيلي. وقص علينا ببراءة كيف أنه تمكن من الاختفاء مع جنود مصريين آخرين وجدهم هناك في منطقة الجناين بين أشجار الفاكهة وكونوا مجموعة مقاتلة تمارس حرب عصابات، وظلوا يعيشون تلك الفترة ينامون نهارا على فروع الأشجار، ويقاتلون ليلا، حيث كانوا يرصدون تحركات الجنود الإسرائيليين، وتجمعاتهم الليلية، وعند حلول الظلام كانوا ينقضون عليهم فيقتلون منهم من استطاعوا عزله بعيدا عن تجمعاتهم، ويستولون على المؤن والذخيرة ليواصلوا القتال في الأيام التالية. وفي يوم من الأيام احس بالتعب، فقرر العبور إلى شرق القناة لينضم إلى وحدته رغم أنه كان بإمكانه السير غربا باتجاه القاهرة كما فعل بعض زملائه، فقام بحفر حفرة بالقرب من القناة دفن فيها سلاحه وذخيرته وملابسه، وبقي بالملابس الداخلية فقط، وعند حلول الظلام دفع بجسده داخل مياه البحيرات المرة التي يبلغ عرضها في تلك المنطقة عدة كيلو مترات، ولكن مهنته كصياد في بحيرة المنزلة ساعدته على السباحة طوال هذه المسافة، وعند الفجر بلغ الشاطئ الآخر ليعثر عليه جندي حراسة القى القبض عليه على أنه متسلل إسرائيلي، ولكن (عصافيره) كشفت عن هويته.
 
بعد استلامه من الزملاء الذين عثروا عليه، بقي معنا إلى أن توصلت مصر إلى اتفاقيات الفصل بين القوات المعروفة التي جرت في منطقة (الكيلو (101على طريق القاهرة ــ السويس. وبعد عودتنا إلى منطقة مرابض الوحدة القديمة قبل الحرب، منحته الوحدة إجازة عشرة أيام ليقضيها مع أهله، وفي يوم عودته من الإجازة طلب الذهاب إلى الوحدة الطبية لأنه كان يشعر بصداع، سخر منه بعض الزملاء، وطلبوا منه أن يبحث عن (أسبرينة) تخفف عنه الصداع. ولكنه أصر على الذهاب إلى الوحدة الطبية التي كانت تبعد عنا بحوالي ثلاثة كيلو مترات، وحصل عل إذن بركوب سيارة عسكرية متوجهة إلى الوحدة الطبية، كانت عبارة عن شاحنة من طراز نصر، صعد إلى ظهرها مع عدد آخر من الجنود، وخرجت السيارة من منطقة تجمع الوحدة باتجاه الوحدة الطبية، وبعد حوالي كيلو متر واحد فقط انقلبت السيارة عند صعودها أحد الكثبان الرملية، وأصيب من كانوا عليهم بإصابات طفيفة، ولكن إصابة (محمد عصافير) كانت قاتلة.
مات محمد عصافير.
 
وبعد هل تتقدم جهة لحماية هذا التراث الخالد؟
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق