كيف تتعامل الهيئة الوطنية مع متجاوزي سقف الدعاية الانتخابية؟

السبت، 14 نوفمبر 2020 09:00 م
كيف تتعامل الهيئة الوطنية مع متجاوزي سقف الدعاية الانتخابية؟
الهيئة الوطنية للانتخابات
أيمن عبد التواب

من أين أتى المرشحون بالملايين التي أنفقوها في الانتخابات؟.. وما نرجوه أن يُحاسب كل مَنْ تجاوز سقف الإنفاق الانتخابي وتطاول على القانون
 
هناك نوع جديد من «التجارة» يتفنن أصحابها، ويتنافسون فيما بينهم على تقديم أفضل العروض؛ لضمان جذب «الزبون»، الذي يحرص الجميع على التودد إليه، ومخاطبته بكل مفردات الاحترام ومعاملته كملك متوج، و«شيله على كفوف الراحة»؛ لضمان راحته، وراحة مزاج سيادته، وما أن تنتهي الصفقة تعود ريما إلى عادتها القديمة، ولا يحصل «السيد البائع» على «خدمة ما بعد البيع» التي وعده بها المشتري! فيملأ الدنيا صراخًا وعويلًا، ويقسم على أنه لن يبرم هذه الصفقة في المرات القادمة، لكنه يحنث بقسمه، ويكرر نفس الفعلة، بنفس الغباء في كل مرة!.
 
لا أدري على أي أساس يُجزم بعضنا، ويؤكد أن الحمار حيوان «غبي»؟ فما أنا على يقين منه أننا نظلم «الحمار» حين نصفه بـ«الغباء».. فهذا الحيوان لا يحمل هذه الصفة على الإطلاق، وهو منها بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب! وإن لم تصدقني، احكم بنفسك.. هل رأيت حمارًا يقع في نفس الحفرة مرتين؟.. هل رأيت حمارًا يلقي بنفسه إلى التهلكة؟.. هل حمارك خذلك، وخيَّبَ ظنك وضل الطريق الذي رسمته له، واعتاد على السير فيه كل يوم، حتى ولو لم تكن تمتطيه؟ قطعًا لا.. والفلاحون أمثالي سيقولون: حاشا لله.. ما خذلتنا الحمير قط! وحدهم بني البشر الذين يخذلوننا، بغبائهم وتكرار أخطائهم!
 
الغباء في اللغة هو ضعف في الفهم، والتعلم، والذكاء، والإحساس، لأسباب فطرية أو مكتسبة أو مُفتعلة، ويُعرف الشخص الغبي بالأحمق، والمعتوه، والمغفل.. والغباء أنواع، منها ما يسمى بـ«الغباء المصلحي» الذي ينتشر عند الانتهازيين، وأصحاب «الغاية تبرر الوسيلة».. والطامة عندما تكون الغاية وضيعة والوسيلة أوضع، لأننا سنحصل على كائن يقتنع بأن كل شيء مباح طالما كان ذلك في مصلحته.
 
والغريب أن مَنْ باع صوته بـ50، أو بـ100، أو بـ200 جنيه أو أكثر هو الذي يشتكي من سوء الخدمات طول الوقت.. هو الذي يصرخ من الفساد في كل المؤسسات.. هو الذي يبكي من غياب الخدمات الصحية، ويُوَسِّط طوب الأرض من أجل علاجه على نفقة الدولة، أو لإيجاد سرير في مستشفى حكومي بالمجان.. هو الذي «يدوخ السبع دوخات» من أجل «واسطة» لإلحاق ابنه في مدرسة بعينها.. هو الذي «يولول» على حال أولاده لأنهم تخرجوا ولم يجدوا عملًا مناسبًا لمؤهلاتهم.. هو الذي يبحث عن النائب الذي باع له صوته؛ ليحصل على حقوقه، ولن يعثر عليه.. فمن باع بالرخيص لا يلومن إلا نفسه!
 
قبل نحو عامين، وتحديدًا في الأول من أكتوبر 2018، وافقت وزارة التجارة والصناعة على «تصدير جلود الحمير» إلى الصين.. وقتها، تخوَّفَ بعض النشطاء العاملين في مجال رعاية الحيوان بمصر، ورأوا أن قرار الوزارة سيكون له تداعيات سلبية، أهمها تناقص أعداد الحمير بشكل كبير، وربما انقراض «الحمير» خلال 20 عامًا! لكن مَن قال إن الحمير مهددة بالانقراض، عليه أن يراجع نفسه؟ فهناك ملايين يعيشون بيننا من البني آدميين، لكنهم يحملون نفس الاسم، ويفوقونه في صفاته، وتحديدا في الغباء!
 
في مثل هذه الأيام تزدهر تجارة «اللسان الحلو».. إذ ينتشر تجار الشعارات ومعسول الكلام في أرجاء المحروسة.. ويتفنون في عرض بضاعتهم على «السيد المواطن».. وتتحدد الأسعار وفق العرض والطلب.. و«الغاوي ينقط بطاقيته»، و«كيِّيف الـ... يشتري له مغرفة»!
 
فالأصل في مَنْ يرشح نفسه ليكون نائبًا عن الشعب أن يكون أمينًا في نفسه، صادقًا في وعده، ولا يجوز له أن يستخدم أمواله في تحقيق أغراضه الانتخابية بالتأثير على إرادة الناخبين.. في المقابل، فإن من النبل والشرف، أن يكون الشخص، «الناخب» أمينًا في كل شئ، وأن يكون صوته أمانة لمن يراه خادمًا لهذا الوطن.. والإنسان الشريف يحركه ضميره الحي اليقظ.. وكما لا يبيع عرضه، كذلك لا يبيع صوته.
 
لكن، وعلى الرغم من إنكار واستنكار بعضنا لعملية «بيع وشراء الأصوات»، ويرفع شعارات مناهضة لها.. إلا أن الواقع يفضحهم، ويعريهم، ويثبت أن الكل- «المرشح والناخب»- يبحث عن مصلحته، مرددين نفس الجمل السلبية: «نفع واستنفع».. «ما جاتش علينا».. «مش إحنا إللي هنعدل الكون».. «ما كلهم بيعملوا كده».. والنتيجة إفراز مجلس نيابي شكلي، ضرره أكبر من نفعه!
 
دفن الرؤوس في الرمال ليس الحل الأمثل لمواجهة الأخطار.. والاعتراف بوجود مشكلة أهم أسباب حلها، وإنكار الحديث عن وجود «مال سياسي» و«رشاوى انتخابية» لن ينطلي على «عيل صغير»، ولن يصدقه أحدٌ يحمل عقلًا في رأسه، وله عينان تبصران.. فالكلام عن سماسرة بيع وشراء الأصوات أصبح واقعًا ملموسًا، ومحسوسًا، بل و«معترفًا» به، وإن كان اعترافًا شفهيًا غير مكتوب، ولا منصوص عليه.
 
كما أن هذا المصطلح، «المال السياسي»، صار واقعًا، وبات يُستخدم في معظم دول العالم، حتى في الدول مضرب المثل في الديمقراطية، كالولايات المتحدة الأمريكية، التي رأينا فيها صورة فجة لهذا «المال» بين المرشحين الرئاسيين، جو بايدن ودونالد ترامب.. وتستخدمه كذلك مؤسسات وجمعيات ومنظمات وجماعات وأحزاب تجري فيها انتخابات، بما في ذلك جماعات وأحزاب «دينية»، ترفع شعارات دينية.. ضاربين بمبادئ وقيم وتعاليم الدين عرض الحائط!
هذه الأمور دفعتنا إلى البحث عن الأسباب التي تقف وراء بيع وشراء الأصوات الانتخابية، والتجارة بالدين، فوجدنا أن «الجهل» يقف على رأسها.. فكثير من المواطنين يجهلون حقيقة الدور الذي يجب على البرلماني أن يلعبه.. وجميع أطراف الجريمة يجهلون أهمية الانتخابات، وأثرها في إفراز مجموعة مشرفة، ونزيهة، وقادرة على الدفاع عن، الوطن ومتابعة قضايا المواطنين بكفاءة واقتدار.. وربما يكون جمعيهم، خاصة المواطن البسيط، يجهلون تبعات هذه الجريمة، التي هي محرمة دينيًا، باعتبارها «رشوة»، جميع أطرافها ملعونون، بنص الحديث الشريف: «لعن الله الراشي والمرتشي، والرائش الذي يمشي بينهما».. وهي في حكم «شهادة الزور»، المحرمة بنص الآية القرآنية: «فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور».. وتعتبر في عرفنا الشعبي «خيانة»، و«فسادًا»، ترسخ للغش والتزوير والتضليل بين أفراد المجتمع.
 
كما أن «تجار الأصوات» يستغلون حاجة الناس، وظروفهم الاقتصادية والمعيشية السيئة، ويشترون أصواتهم بثمن بخس، بعد إغرائهم بوسائل عدة، وتحت مسميات جذابة وبراقة مثل: «هدايا، حلوى المولد النبوي، لحوم أضاحي، معونات غذائية، صدقات، أعمال خير، مشاطرة في أحزان، مشاركة في أفراح».
وهناك ما يمكن أن نطلق عليها «إخراج المواطن من الفريزر» مع كل استحقاق دستوري.. واختزال دوره في «الانتخابات» فقط، ثم يُعاد إلى الفريزر مرة أخرى.. وموافقة المواطن على لعب هذا الدور الممل دون أي ابتكار أو تجديد!
 
ولا نغفل عدم وعي الناخب في اختيار مَنْ يمثله.. إذ لا يزال ينتخب بناءً على صلة القرابة، والمعرفة بالمرشح، ومنطقته الجغرافية.. وليس على قناعة بالمرشح أو برنامجه الانتخابي!
 
كما لا نغفل خبرة، وذكاء، ومهارة بعض المرشحين، و«لسانهم إللي بينقط شهد»، ولجوئهم إلى «معسول الكلام» لـ«تنويم الناخب»، والسيطرة عليه عاطفيًا، ودفعه دفعًا إلى التصويت له!
 
أما اهم الأسباب، في نظري، هو تراجع الدور «التثقيفي» و«التوعوي»، وترك الساحة السياسية لـ«محترفي الكلام الناعم»، و«الشعارات البراقة»، و«الوعود المزيفة»، بينما اكتفى المسئولين عن الدور التثقيفي بـ«التوعية الغليظة، المنفرة»، واتهام مَنْ يشارك في هذه الجريمة- (تجارة الأصوات)- بأنه خائن، ومزور، ومرتشي، وبأن مَن يبيع صوته يبيع كرامته، يبيع عرضه، يبيع أرضه، يبيع وطنه. 
 
لدينا عشرات الفتاوى الدينية التي تثبت- بالأدلة الشرعية- وبالعرف المجتمعي، أن بيع الشخص لصوته الانتخابي لمن لا يستحقه «حرام شرعًا»، وأن ما يأخذه مقابل ذلك يعتبر «سُحتًا»، و«رشوة»، ملعون مقدمها، وملعون آخذها، وملعون الوسيط بينهما، وأن المرشح الذي «يرشى» مَنْ يرشحه غير أمين على الشعب، وغير جدير بدخول البرلمان، وهذان الأمران كافيان لعدم اختياره.
 
وهناك فتاوى ترى أن التصويت في الانتخابات بمثابة الشهادة، والتزكية، والأمانة، فإذا بيعت الأمانة والشهادة بالمال نتج عن ذلك فساد عظيم، واجتمع فيها الكذب والبهتان وأكل المال بالباطل. فما يدفعه المرشح من مال للناخبين يعد رشوة.
 
لردع المرشحين عن تقديم «رشاوى انتخابية»، نص قانون مباشرة الحقوق السياسية رقم 73 لسنة 1956، والمعدل بالقانون رقم ‏124‏ لسنة ‏2011،‏ في مادته رقم 48 على معاقبة كل مَنْ يقدم أي عطية للغير «رشوة انتخابية»، لكي يحمله على الامتناع عن إبداء الرأي، أو إبدائه على وجه معين، بالحبس مدة لا تقل عن سنة، ولا تجاوز خمس سنوات، وبغرامة تتراوح بين 10 آلاف جنيه إلى 100 ألف جنيه.. كما نص على معاقبة مَنْ يتلقى تلك الرشوة الانتخابية، سواء لنفسه أو لغيره، بالحبس مدة تبدأ من سنة إلى 5 سنوات، وبغرامة لا تقل عن 10 آلاف جنيه إلى 100 ألف جنيه، وإلى الآن لم أر مرشحًا أو ناخبًا عُوقب بهذا القانون!
 
هل لأن أحدًا منهما لم يرتكب هذه المخالفة؟ أم لم يُضبطا متلبسين بهذا الجُرم، أم لأسباب أخرى؟
 
القرار رقم 42 لسنة 2020، الصادر عن الهيئة الوطنية للانتخابات، بشأن «ضوابط الدعاية الانتخابية»، وضع حدًا أقصى لما ينفقه المرشحون لعضوية مجلس النواب على دعاياتهم، «500 ألف جنيه»، يعني «نصف مليون» للنظام الفردي، و«200 ألف جنيه» حال الإعادة.. ويكون الحد الأقصى لمرشحي القائمة المخصص لها 42 مقعدًا «7 ملايين جنيه»، ويكون في الإعادة «مليوني و800 ألف جنيه»، ويكون «16 مليونًا و600 ألف جنيه» للقائمة المخصص لها 100 مقعد، وحال الإعادة يكون الحد الأقصى «6 ملايين و600 ألف جنيه».
 
هذا هو القانون.. لكن ما سمعناه بأذننا، وشاهدناه بأعيننا من «السفه الملاييني» في الإنفاق على الدعاية و«لوازمها»، من قِبل كثير من المرشحين، خاصة مع ظهور مرشحين على الساحة لم يُعرف عنهم الثراء، ولم يكونوا يومًا من زمرة الأثرياء.. وعلى الرغم من ذلك أنفقوا على دعايتهم ببذخ مليوني، تجاوز ما حدده القانون!
 
فهل آن لنا أن نعرف من أين أتى المرشحون بالملايين التي أنفقوها في الانتخابات؟ هل مصدرها «شرعي»، ومن تجارة ونشاط مشروع، أم من نشاط مؤثم مجرم، وغير شرعي؟
 
ما نرجوه ونأمله أن يُحاسب كل مَنْ تجاوز سقف الإنفاق الانتخابي، وتطاول على القانون، وهو المفترض أنه سيكون مؤتمنًا عليه، ومناقشًا له، ومشرعًا لبعض مواده، ومقرًا لبعض نصوصه، عندما يمارس دوره الرقابي والتشريعي تحت القبة.. فدخول أمثال هؤلاء البرلمان، سيكون له تداعيات سلبية خطيرة.. فمن أفسد الناخبين، واشترى أصواتهم بحفنة رز وزجاجة زيت، وكيس سكر.. ليس مستبعدًا أن يبث سموم فساده في أي مكان يحل فيه!

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق