شمردل يكتب.. «الفساد» في لجنة دراسة حجم «الفساد»
الإثنين، 18 يناير 2016 10:13 م
بصدور تقرير لجنة التحقيق في تصريحات المستشار هشام جنينة حول حجم الفساد في مصر وإحالته لمجلس النواب تنتهي عمليا أحلام المصريين في نظام 30 يونيو، اللجنة التي شكلها الرئيس أسدلت الستار علي بقايا أمل في أن تتطهر مصر علي يد الرئيس والمؤسسة العسكرية التي ينتمي إليها من فساد ينخر في عظامها منذ سنوات طويلة، فلم يصدق كثير من المصريين ما ورد في تقرير لجنة الرئيس التي بدا أنها تستخف بعقول الناس بدليل أنها استهلت تقريرها بسقطة سياسية لا تغتفر عندما تحدثت عن تصريحات رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات بشأن "ما يسمي بالفساد" وكأن الرجل يتجني أو يتحدث عن شيء لا يحيط بنا ولا نتنفسه صباح مساء.
ركزت اللجنة علي إظهار خطأ هشام جنينه في الجمع والطرح والضرب، وإدانته بتهمة الإساءة لسمعة البلاد في محاولة مكشوفة لـ"الغلوشة" علي جوهر تصريحاته، ولفت الأنظار بعيدا عن مستنقع الفساد الذي يشعر به الجميع وتعوم عليه مصر منذ عقود، فأساءت إلى النظام بأكثر مما إفادته وأسقطت كثير من الأقنعة عن إعلاميين ونواب ومسئولين انبروا لانتقاد جنينه فانقلب السحر علي الساحر وفقدوا التعاطف وربما الاحترام.
أخطأ جنينة في اختيار توقيت تصريحاته، وهو خطأ جسيم بلا شك، واخطأ في منح ثقته لدائرة ضيقة من أعضاء الجهاز، ولكن من الواضح انه لم يتعمد ان يشعل الشارع كما روجت الأذرع الإعلامية بدليل انه امتنع عن تفنيد تقرير اللجنة إلى ما بعد مرور ذكري الثورة، علاوة علي أن من أشاع انتماء جنينه لجماعة الإخوان نسي أنه أول من كشف تضخم ميزانية الرئاسة في عهد محمد مرسي، وكان تقريره عن فساد الذمة المالية للإخوان واحد من أسباب عدة مهدت لزوال حكمهم وامتدحته آنذاك الأذرع الإعلامية إياها ورأت فيه مثالا للنزاهة والوطنية.
ولكن الرئيس يستطيع أن يستعيد ثقة المصريين في مستشاريه والمحيطين به، إذا عاد لحديثه الودي الصريح للشعب، وهو التقليد الذي استهل به مدته الرئاسية ووعد بالحفاظ عليه شهريا، ويستطيع أن يستعيد كامل رصيد الثقة لدي الناس لو كشف ملابسات تشكيل اللجنة وأسباب السرعة التي أنجزت بها عملها خلافا لتقاليد البيروقراطية المصرية العريقة التي صكت عبارة تحولت إلى مثل شائع "اذا أردت أن تقتل موضوعا شكل لجنة لدراسته"، الغريب أن لجنة الرئيس خالفت هذه الحقيقة وأنجزت عملها في أيام معدودات، وبدلا من أن تقتل الموضوع سعت إلى اغتيال جنينة معنويا من ناحية، والتشويش على أوضاع الفساد من ناحية أخرى، وقبل هذا وذاك نجحت اللجنة في إحباط قطاع واسع المصريين والوصول بروحهم المعنوية الي مستوي شديد التدني.
قد يراهن البعض علي أن تلاحق الأحداث سوف يدفع بالقضية الي غياهب النسيان.. ويمكن أن يتم العزوف عن مخطط إقالة جنينة عن طريق الأذرع السياسية في مجلس النواب بعد وصول ردود الفعل علي تقرير اللجنة إلى الرئيس، على أن يتم الاكتفاء بوضع جنينة في الثلاجة وتحّمل "رزالاته" في الشهور المتبقية علي رئاسته للجهاز.. نعم يمكن أن تتراجع الحكومة خطوة إلى الخلف وتلملم آثار جراح موقعة هشام جنينة، التي لم تكن تتخيل مدي تأثيرها السلبي وخرجت منها خاسرة بكافة المقاييس، ويمكن أن ينجح النظام في استرجاع الإقبال الجماهيري حوله بنجاحات في ملفات أخري، غير أن إصلاح الشرخ الذي أصاب قلوب الكثيرين ممن صدمهم أسلوب التعامل مع تقارير الجهاز المركزي أمر يستحيل تحقيقه إلا بشق الأنفس، فهؤلاء لا يريدون أن يصدقوا إمكانية أن ينحاز الرئيس إلى الجانب الذي لا ينحاز إليه عامة المصريين، ولا يغيب عن ذكائهم أن التنكيل بهشام جنينة بدأ بعد أن تحدث عن عدم تعاون جهات وهيئات رسمية حساسة ذكرها بالاسم ويعرفها الجميع جهة جهة وهيئة هيئة.
الصدمة من تعامل النظام مع تقارير وتصريحات جنينة جاءت بسبب أنها خالفت الصورة الذهنية المثالية المرسومة له، فالرئيس الذي أحبه المصريون ورفعوه فوق الأعناق وانتخبوه بما يشبه الإجماع وقالوا فيه ما لم يقله شعب في رئيسه حتي الآن بدأ عهده بالتنازل عن نصف ثروته، وشهد الناس في حكمه سقوط أول وزير بتهمة الرشوة وهو لا يزال في منصبه، واقتنع الناس بأنه لا يمالئ ولا يجامل في مكافحة الفساد، ولا يكل في البحث عن الكفاءات الوطنية الشريفة ليضعها في مواقع المسئولية، ويرفض أن تُلوث سمعة حكمه بشبهة محسوبية أو مجاملة علي حساب الوطن.
استقر في ذهن المصريين أن السماء رضيت عنهم أخيرا، وأرسلت إليهم من يحقق أحلامهم في حياة كريمة وعدالة ومساواة بعد أن خاب ظنهم فيمن سبقوه وهم إما فاسد وإما جاهل، وظلت هذه القناعة تحكم نظرتهم للرئيس إلى أن بدأت الثقوب تظهر واحدة تلو الأخرى في الثوب الأبيض الذي تزين بأوسمة ونياشين عديدة في مقدمتها الاستقرار الأمني وارتفاع معدل الإنجاز في مجالات متعددة، فلم تنجح مساعي الدولة في مكافحة الفساد، ولم يتراجع إحساس المواطنين به في تعاملاتهم اليومية، فلا تزال الرشوة هي المفتاح السحري للانجاز، وأراضي الدولة لا تزال غنيمة مباحة لمن يعرف الدهاليز، وينتصر الفاسدون في كافة معاركهم مع الوطن بدليل انهيار عمارة منيا القمح بعد أن سارع الفساد باستعادة نشاطه وتعويض خسائره عقب إقصاء محافظ الشرقية النشط الذي كان يحمل الكثير من سمات رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات.
لن يستعيد المصريون ثقتهم مرة أخري إلا إذا تلقوا إجابات مقنعة علي تساؤلاتهم، لن تفلح الأذرع الإعلامية في توجيه الناس أو تغييب وعيهم، وسوف يخطئ النظام إذا تصور أن بوسعه تصدير شعور زائف للناس عبر وسائل الإعلام، لقد حاول النظام ذلك أثناء حكم مبارك ودفع الثمن غاليا، ولن يجدي التعويل علي المخاوف من عودة الإخوان لكي يصمت المعترضين، فلا مكان للإخوان ولا مكان للفاسدين لان خطرهم واحد وضررهم واحد وموقفنا منهم واحد أيضا.
سوف يحسب البعض تقرير لجنة الرئيس كبوة، بينما يراها غيرهم فجوة حفرها الفلول والفاسدين والدولة الخفية لاستعادة كامل حريتهم في ممارسة الفساد المتوحش والتي يهددها جنينه بتقاريره وتصريحاته، وبين هذه الرؤية وتلك، يبقي أمل في أن يراجع الرئيس خياراته، ويستعيد حرارة التماس والتواصل مع الناس بعيدا عن مشورة المستشارين وحسابات المقربين ومصالح المنتفعين.