"الطبلاوى".. والتكريمُ الذي لا يزال غائبًا

الأربعاء، 05 مايو 2021 01:03 م
"الطبلاوى".. والتكريمُ الذي لا يزال غائبًا

في ذكرى وفاته الأولي التي تحلُّ اليومَ..يطرحُ هذا السؤالُ نفسه: ماذا لو استسلم القاريء الشيخ محمد محمود الطبلاوي لحالة الرفض المركبة التي واجهها من مسؤولي لجنة الاختبار في ماسبيرو التي رفضته تسع مرات على الأقل؟ الإجابة: ربما كان قد تاه وسط الزحام، مثل كثير من المواهب التي تفشل في الوصول بموهبتها إلى أقصى نقطة، وما أكثرَهم.
 
"الطبلاوي".. سيظلُّ – رغم الوفاة- يحتلُّ مكانة كبيرة في قلوب وعقول المسلمين، وسيظلُّ صوته العذبُ يقصده المسلمون للتدبر في آيات الذكر الحكيم، ويبقى علامة بارزة في تاريخ الترتيل والتلاوة في التاريخ الحديث.
 
كان "الطبلاوي"، الذي عاش 86 عامًا، معظم في خدمة كتاب الله، وسوف يبقى عَلمًا من أعلام دولة التلاوة المصرية، ولعله يكونُ ممن يُقالُ له: "اقرأ وارتقِ ورتلْ كما كنتَ تُرتلُ في الدنيا، فإنَّ منزلتك عندَ آخر آية تقرؤها"، جزاءَ ما أبدع وأخلص فى تلاوة القرآن الكريم، ولا نُزكِّى على اللهِ أحدًا. 
 
ولأنَّ اللهَ يرفعُ بقرآنه أقوامًا، فإنَّ "الطبلاوى" الذى بدأ حياته عاملًا بسيطًا بأحد المصانع، سرعانَ ما تغيرتْ حياتُه تمامًا بعد اعتماده رسميًا بالإذاعة المصرية العام 1970، بعد محاولات مريرة، وحقق شهرة طاغية فى وقت قياسي، حتى تم تعيينُه قارئًا للسورة بالجامع الأزهر، بعد وفاة القارئ الشيخ "مصطفى إسماعيل" العامَ 1978، فكانَ خيرَ خلفٍ لخير سلفٍ. 
 
كانَ "الطبلاوى" مُمتنًا للأقدار التى ساقته إلى أن يكونَ قارئًا للجامع الأزهر دون سواهُ من مساجد مصر وما أكثرَها، حيث وطدّ علاقاته مع كبار مشايخ وعلماء وأبناء الأزهر، كما جمعته أواصرُ طيبة مع شيوخ الأزهر: الدكتور عبد الحليم محمود، والدكتور محمد سيد طنطاوى، رحمهما الله، والدكتور أحمد الطيب، بارك الله فى عمره، وأعضاء هيئة كبار العلماء، كما كان صديقًا مُقربًا للشيخ محمد متولى الشعراوى رحمه الله تعالى، وكان يعبر دومًا عن سعادته بهذه الصداقات الأزهرية ويتباهى بها فى حواراته الصحفية والتليفزيونية.
 
 كان "الطبلاوى"، آخرَ عُظماءِ دولة التلاوة المصرية التى بدأتْ ونمتْ وترعرعتْ فى بدايات القرن الماضى عبرَ الرعيل الأول من القراء: أحمد ندا وعلى محمود ومحمد رفعت وآخرين، رحمهم اللهُ جميعًا، وقويتْ دعائمُها وطبقّتْ شهرتُها الآفاقَ، فيما بعدُ، من خلال عباقرة حقيقيين مثل القُراء: مصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد ومحمد صديق المنشاوى ومحمود على البنا ومحمود خليل الحصرى وآخرين، رحمَ اللهُ الجميع.
 
 ولأنَّ لكل شئ إذا ما تمَّ نقصانًا، فقد انطفأت شمشُ دولة التلاوة تدريجيًا، وما كان لها أن تنطفئ، حتى إنها تكاد تختفى مع رحيل الشيخ "الطبلاوى"، قبل عام بالتمام والكمال.
 
 ولعلَّ المُفارقة العجيبة والأليمة تتمثل في أنَّ كتابَ "ألحان السماء" الذى كتبه الراحل "محمود السعدنى" فى العام 1959، وصفَ "الطبلاوى" بأنه "آخرُ حَبَّةٍ فى سبحة عمالقة دولة التلاوة"، وهو ما يعنى أنَّ الشجرة الوارفة لقراء القرآن الكريم الحقيقيين والمُبدعين وذوى الشعبية الجارفة قد جفَّتْ أوراقُها منذ سنواتٍ طويلةٍ ولم تتجددْ أوصالُها مرة أخرى رغم العدد الكبير الذى تضمُّه سجلاتُ إذاعة القرآن الكريم، وكأنَّ البطنَ الذى أنجب كلَّ هذه اللآلئ قد عقمَ إلى الأبد، ولم تعد تتقيأ سوى حناجر شائهة وأصوات متشابهة.
 
 ورغم الموهبة الرائعة التى حظى بها "الطبلاوى" منذ سنواته الأولى إلا إنه واجه ممانعة شديدة عندما تقدم لاختبارات الإذاعة، وهو سيناريو شبيهٌ بما تعرض له شيخُ المُنشدين والمُبتهلين "نصر الدين طوبار"، وكلاهما حقق رقمًا قياسيًا فى الرفض، الأولُ برصيد تسع مرات، والثانى برصيد ست مرات، والغريبُ أن يُصبح كلُّ منهما بعد ذلك الأشهرَ والأكثر تأثيرًا فى مجاله، وكلاهما أصر على تحقيق هدفه إلى النهاية، وكلاهما جنى ثمارًا طيبة يانعة جراء هذا الإصرار والكفاح.
 
لم ييأسْ الشابُ الثلاثينىُّ يومئذ، رغمَ كل هذا الرفض المتكرر، حتى تحقق له المرادُ من ربِّ العباد، وتمَّ اعتمادُه رسميًا فى المرة العاشرة، وكان عمره يناهز 36 عامًا. ومع إذاعة التسجيل الأول له عبر أثير الإذاعة المصرية حقق شهرة طاغية ومدهشة وتكادُ تكونُ إعجازية. 
 
مضى "الطبلاوى" فى طريقه، غير هيَّاب، حتى صار معشوقًا للمصريين وغيرهم، وحققتْ مبيعاته أرقامًا أسطورية فى هذا الوقت. سافر "الطبلاوى" إلى أكثرَ من ثمانين دولة عربية وإسلامية بدعوات خاصة، ومبعوثاً من الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف، مُمثلاً لبلاده في العديد من المؤتمرات ومُحكِّماً للكثير من المسابقات الدولية التي تُقام بين حفظة القرآن الكريم من كل دول العالم التى حرص بعضُها على تكريمه ومنحه الأوسمة والنياشين. اشتهر "الطبلاوي" بأدائه المُتميز حتى عُرفَ بين الناس بأنه صاحبُ مدرسة مُميزة في القرآن، قوامُها: صوته الرخيم وقدرته على الوصول إلى آخر آية إنْ احتاج الوقفُ إلى الوصول لكلماتٍ معينة، وهذا التميزُ هو ما كان يهدفُ إليه الشيخ "الطبلاوي" منذ بداية حياته كقارئ.. فيقول رحمه اللهُ: "منذ نشأتي كقارئ للقرآن الكريم في المناسبات، كنتُ شديدَ الحرص على الاستقلال والتميز بشخصيتي وطريقتي، وهذا النجاح لم يأتني بين ليلة وضُحاها، ولكنه جاءني بالكفاح والعرق وبذل الجهد، لم أضع المال حاجزا بيني وبين الهدف الذي تتوق إليه نفسي، وهو الوصول إلى القمة في مجال تلاوة القرآن الكريم، فقد قبلتُ السهر في شهر رمضان المبارك بثلاثة جنيهات فقط ،ولكنها كانت كثيرة جداً بالنسبة لي".
 
ورغم كل ما حظى به "الطبلاوى" من شهرة شعبية فى الداخل، وشهرة رسمية وشعبية فى الخارج، كما أسلفنا، إلا أنَّ الرجلَ لم ينلْ ما يستحقُه فى حياته، كما جرتْ العادة، فلم يتم تكريمه تكريمًا رسميًا، ولم يحصلْ على أىٍّ من جوائز أو أوسمة أوأنواط الدولة المصرية، فهل يتم تداركُ هذا الخطأ الجسيم ويجرى تكريمُه بعد مرور عام على وفاته فى احتفال مصر بليلة القدر هذا العام؟ وفضلًا عمَّا تقدم، فإنَّ تسجيلات "الطبلاوى" القرآنية التى تقتربُ من مائة ساعة هى الأقلُّ إذاعةً عبرَ أثير محطات الإذاعة المصرية، كما أنَّ المُصحفَ المُرتلَ الذى سجله بصوته لا يزالُ حبيسَ الأدراج فى "ماسبيرو"، ولم يتم الإفراجُ عنه حتى الآن، فمثلُ "الطبلاوى" لا يجب أن يعيش ويموت مغبونًا، هذا لا يليقُ مع حفظة وحملة كتاب الله.
 
 رحم اللهُ القارئ الشيخ "محمد محمود الطبلاوى" قدرَ إخلاصه لكتاب الله تعالى وإبداعه فى تلاوته مُجودًا ومُرتلًا، وجزاهُ اللهِ خيرَ الجزاءِ.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق