هشام السروجي يكتب: نفوذ القاهرة السياسي يزداد توسعًا وينعكس على ملفاتها العالقة

السبت، 29 مايو 2021 08:00 م
هشام السروجي يكتب: نفوذ القاهرة السياسي يزداد توسعًا وينعكس على ملفاتها العالقة

الرئيس السيسي يعيد صياغة عقيدة "الدولة المصرية" في المحيط الإقليمي

الأزمة الفلسطينية أكدت أن المدرسة الدبلوماسية المصرية لها من التأثير في محيطها ما يكفي لإن تكون رمانة الميزان في حل النزاعات والأزمات

برز الدور المصري في فض الاشتباك بين الفصائل الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلى، الذي اندلع على خلفية أزمة تهجير الفلسطينيين المقيمين في حي "الشيخ جراح"، لكن آنية وأسلوب تعاطي القيادة السياسية المصرية مع تلك الأزمة كانت تحمل من الدلالات والمعاني ما يستحق الوقوف عنده، وفك شفرة رسائله ومضمون خطابه، مع عدم اختصاره في بيانات المؤسسات المصرية المعنية بالشأن الإقليمي، ولا حتى الدعم المادي والمعنوي الذي قدمته مصر للفلسطينيين، بل أن كل ما سبق يأتي في إطار استراتيجية مصر المؤثرة في المحيط الإقليمي من خلال إعادة تفعيل أدواتها الفاعلة.

أكدت الأزمة الفلسطينية مؤخرًا على أن المدرسة الدبلوماسية المصرية لها من التأثير في محيطها ما يكفي لإن تكون رمانة الميزان في حل النزاعات والأزمات، والحفاظ على عقيدة الدولة المصرية العريقة، التي تعتبر الأمن القومي العربي جزء أصيل لا يتجزأ من أمنها القومي، كما كشفت بكل وضوح وسلاسة على أن مصر الأكثر همًا واهتمامًا بالقضية الفلسطينية التي لم تنطفئ شعلتها في نفوس المصريين حكومة وشعبًا، وهو ما يعيد التأكيد على أن الدبلوماسية المصرية قادرة على حل أكثر الأزمات تعقيدًا والتي تعتبر القضية المحورية للعالم كله (الصراع العربي الإسرائيلي) بكل هدوء وروية وتعقل.

من المعروف أن كلما تمددت نفوذك الدبلوماسية وامتلكت من أدوات القوة في محيطها، كانت لذلك انعكاسات في ملفاتك الساخنة، لما تحظى به من تأييد دولي في مواقف عديدة، وكذلك لما تمثله من رمانة من ميزان في منطقة –الشرق الأوسط- هي الأكثر اشتعالا على الكرة الأرضية، خاصة بعد الدور المتوازن والمؤثر لمصر في ليبيا والسودان والعراق ولبنان وفلسطين والأراضي المحتلة، بالإضافة للثقل السياسي الأزلي في البيت العربي، كل تلك المعطيات تؤدي إلي نتيجة واحدة، وهي أن القاهرة لم تستعد فقط مكانتها الإقليمية، بل تخطت الدور التراثي المعهود عنها منذ زمن، أو ما يسمى بـ"عقيدة الدولة" لتكون فاعلا لا رد فعل أو مفعول به.

القاهرة الأن تصنع الحدث ويأتي الباقي وراءها وتفرض رؤيتها المنطقية المتزنة في ملفات المنطقة، وبالمناسبة أن تلك الرؤية هي عقيدة مؤسسات الدولة الراسخة، والتي يمثلها الرئيس عبد الفتاح السيسي، ولو رجعنا بالتاريخ القريب للوراء لوجدنا أن الرؤية المصرية في الأزمة السورية والليبية كانتا يمثلان المنطق الراجح، والدليل على ذلك أن كل أصحاب الرؤى المختلفة في نهاية المطاف لم يجدوا حلا سوى تلك الحلول التي تبنتها القاهرة من البداية. الرؤى المصرية للحلول تأتي نتيجة تراكم الخبرات لدولة هي الأقدم في المنطقة، والأكثر دراية بطبيعة شعوبها وتركيبتها المعقدة المتداخلة، وكذلك القدرة على قراءة اهداف صُناع المشاهد ومستهدفهم الذي يديرونه من وراء الكواليس، ومن ثم قد نرى خلال الفترة القليلة القادمة انعكاس التمدد المصري على أكثر من ملف عالق وفي المقدمة ملف "سد النهضة".

الوضع الجغرافي والعمق التاريخي للقاهرة جعلها تمتلك خيوط التفاوض بين الجانبين، ومسؤوليتها عن القضية الفلسطينية التي تعتبرها قضيتها المركزية كانوا جميعًا عوامل حاسمة في إيجابية التدخل المصري، والوصول إلى نتائج حاسمة على الأرض، أجبرت جميع الأطراف الدولية الفاعلة على احترام تلك النتائج والإشادة بها، بعيدًا عن النعرات الحنجورية والمزايدات الطفولية التي لا تغني ولا تثمن من جوع، اللهم سوى الاستغلال المحلي وتبيض أوجه هؤلاء القادة الذين يتاجرون عاطفيًا بآلام الشعب الفلسطيني ودماءه.

حملت القيادة السياسية على عاتقها حلحلت القضية الفلسطينية بعد أن كانت دخلت مرحلة الموت السريري، بعد أن اشاحت بوجهها عن كل ما يُسرب أو تتناوله أحاديث الغرف المغلقة عن "صفقة القرن"، وكان الموقف الغير معلن واضحًا وضوح الشمس، لن يضيع الحق الفلسطيني ولن تتوانى القاهرة في دعم الفلسطينيين في حق الدولتين، ورغم الضغوط التي مورست على القاهرة والتي تحينت فرص الضعف الاقتصادي والسياسي، واشعال الجبهة الداخلية والمخاطر التي تتسرب إلى داخل مصر من دول الجوار التي تعاني حالات انهيار كامل، إلا أن كل ذلك لم يغير منظورها تجاه قضيتها المركزية في الجهة الشرقية.

مصر لم تكتفي بالوصول إلى حل من شأنه وقف القتال الدائر بين الفلسطينيين والاحتلال، ووقفت تنتظر الشكر من الجميع ثم تشيح بوجهها بعد أن حققت ما عجز عنه الجميع، لكن هذه المرة كانت تمتلك رؤية شاملة في تغيير الوضع الفلسطيني. رؤية واقعية قادرة على تغيير المعطيات التي يعيشها قطاع غزة، وكذلك الوضع في الداخل الفلسطيني على الأراضي المحتلة، خاصة أن في هذه الأزمة كان الحراك الفلسطيني في المدن المحتلة متزامن وبقوة مع الاشتباك في غزة، وهو ما عزز من موقف المفاوض المصري، بعد أن شعر الاحتلال أن ثمة فوضى شعبية قد تضرب الداخل لديه، وتهدد وضعه الأمني الشبيه بجبل الوهم الزائف.

ليست المرة الأولي التي تتدخل فيها مصر لوقف عدوان الاحتلال عن الفلسطينيين، بل هي ممارسة تقوم بها منذ عقود مضت، لكنها المرة الأولي التي يتسم فيها الموقف المصري بالفردية التامة ومساندة معتادة من الأردن، في ظل غياب كامل من دول الجوار العربي، سوى بعض الكلمات التي تحفظ ماء الوجه أمام عدسات الكاميرات وصفحات التواصل الاجتماعي والمحافل الدولية، واللافت للنظر ما لحق الموقف المصري الذي نجح في وقف العدوان، والذي يحمل دلالات عدة ورسائل مبطنة.

اعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي إعادة عمار غزة بمبلغ 500 مليون دولار (ما يقرب من ٨ مليار جنية مصري) كان رد عملي على محاولات الاحتلال تضييق الحصار وتقليص المساحة السكنية في قطاع غزة لخلق حالة ضغط سكاني على الحدود المصرية، فيما يخدم في أغلب الظن تطلعات صفقة القرن، ونقل كتلة سكانية فلسطينية إلى سيناء، وهو أمر يرفضه الفلسطينيين قبل المصريين، الشعب الذي يعيش نضال التحرر يوميًا لا يقبل بأوطان بديلة، وهو أمر دلل عنه بعض المختصين باستهداف قوات الاحتلال لمنشآت سكانية معينة (الأبراج السكنية) التي توفر التوسع السكاني الرأسي وهي استراتيجية معروفة في المدن المزدحمة التي لا تملك مساحات آراضي تسمح بالتمدد الأفقي.

القرار المصري يأتي في مقدمة أهدافه البُعد الإنساني، وتقديم كل المساعدات الممكنة للشعب الفلسطيني والتأكيد على الدور المصري المحوري في المنطقة، كذلك يحقق اعمار غزة تحجيم للقوى الإقليمية والدول الفاعلة في القضية الفلسطينية والتي حولتها لكارت تفاوض وضغط تمارسها لخدمة مصالحها الخاصة وتمرير اجندة سياستها الخارجية، والتي ينعكس تدخلاتها في غزة على الأمن القومي المصري، حيث تعتبر تلك القوة الحدود المصرية مع فلسطين "حديقة خلفية" لعملياتها الاستخباراتية واللوجستية التي تقدمها للفصائل المتعاونة معها، وبالتالي فإن التواجد المصري الفاعل داخل غزة يحجم بقدر كبير مثل تلك الممارسات التي تنتهك السيادة المصرية، أو ما يعرف اصطلاحًا بالتواجد في العمق الاستراتيجي الذي تتشارك فيه الدول ذات الحدود المشتركة.

المؤكد أن الدور المصري كان له كبير الأثر وحقق مردود دولي واسع، وفرض على العالم كله الاعتراف بمحورية الخصوصية التي تتميز بها القاهرة في محيطها الإقليمي، وقد تجلى ذلك في رد الفعل الدولي وخاصة الأمريكي، بعد أن تواصل الرئيس الأمريكي "جون بايدن" مرات متتالية مع الرئيس عبد الفتاح السيسي وأعلن شكره وتقديره لما قدمته القاهرة في الأزمة، في تغيير دراماتيكي لما كان يُشاع عن تعامل الوافد الجديد للبيت الأبيض مع القيادة السياسية في مصر، ولو افترضنا جدلًا أن المأمول كان حقيقة فإن ما تم خلال الأزمة أعاد نظر البيت الأبيض في التعامل مع الملف المصري، لأن الدول تحكمها المصالح وليس العواطف، ولو كان التفاعل المصري مع قضايا المنطقة يجنبها الدخول في أنفاق مظلمه تؤرق القوى الدولية فمن الطبيعي أن تجد القاهرة دعمًا معتبرًا في مواقفها الحكيمة التي تزيل عبء القضية الفلسطينية عن الدول الكبرى.

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة