الشعراوى يحاسبهم من قبره

الأحد، 27 يونيو 2021 10:00 ص
الشعراوى يحاسبهم من قبره

أقوال الشيخ تكشف أسباب الهجوم الإخوانى السلفى المتكرر ضده
الإخوان هاجموه بعدما كشف عوراتهم ووصفهم بـ«بذرة لعن الله مَن أنبتها ومَن تعجل قطف ثمارها»
 
ما من شك أن الشيخ محمد متولي الشعراوي، (1911 - 1998) يعد ظاهرة لا يمكن إنكارها، فهو من أشهر علماء الدين، وأشهر الدعاة المسلمين، وأشهر مفسري القرآن الكريم في القرن الماضي، إذ فسره بطرق سلسة مبسطة، وبلغة عامية، وبفكر يتلاءم مع متطلبات عصره، وتصدى للرد على الاتهامات التي وجهها المستشرقون للإسلام؛ ما جعله يصل إلى جموع المسلمين في أنحاء الوطن العربي، ومعظم دول العالم، حتى لُقِّبَ بـ«إمام الدعاة».
 
وعلى الرغم من ذلك، لم يسلم الشعراوي من بعض المثقفين، أو «العلمانيين» الذين فتشوا في بعض آرائه وفتواه القديمة، واتهموه- بسببها- بـ«عدم الوطنية»، والتمهيد لنشر الفكر المتطرف في المجتمع، والإساءة إلى الدين، بينما اتهمه التيار السلفي بـ«إنكار السنة»، و«فساد العقيدة»! وأنه «صوفي قبوري مبتدع»! بل وصل الأمر إلى «تكفيره»، و«إخراجه» من الملة»!
 
عيسى والشعرواي والـ«مختلف عليه»
 
الكاتب الصحفي والإعلامي، إبراهيم عيسى، هو أحد «صنايعية» و«أسطوات» الصحافة. وحفر اسمه بين عمالقة المهنة الذين جددوها وطوروها، وجذبوا إليها شرائح جديدة من القراء، كما فرض نفسه على الساحة الإعلامية، فهو يعرف «سر الخلطة» التي تبقيه دومًا في دائرة الضوء، ومحل جدل لا ينقطع.. لكن «الجورنالجي» الموهوب، والإعلامي المتميز، يخسر كثيرًا بإصراره على ادعاء المعرفة في كل شيء، خاصة المعرفة التاريخية والدينية.. فتارة تراه يرتدي عباءة الجبرتي، وأخرى يتقمص دور عالم الدين، وفقيه، ومفتي الديار، ويُصر على اقتحام «المختلف عليه» في التراث الإسلامي، ويفسره لنا على هواه، ويطالبنا باتباعه!
 
في هذا الإطار، استوقفني عنوان مقطع فيديو منتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، لإحدى حلقات برنامج «مختلف عليه»، الذي قدمه إبراهيم عيسى، وكان عنوان الحلقة: «الرد على فتاوى الشيخ الشعرواي»، فقادني الفضول إلى معرفة ما يحتويه، على الرغم من معرفتي «المسبقة» بموقف ورأي الكاتب الصحفي البارز، في إمام الدعاة الراحل.. فهالني ما رأيت وما سمعت من استمرار محاولات «الأستاذ» لتشويه «الشيخ»، من خلال «تصيد» بعض الآراء والفتاوى التي نقلها الشعرواي عن بعض السلف، أو رأي الشيخ الشخصي في مسألة ما، والرد عليها بطريقة غير لائقة.. من أجل أن يقول لمتابعيه: أهذا هو الدين؟ 
بدأ مقطع الفيديو بظهور، إبراهيم عيسى، وهو يقول لمتابعيه، بطريقته «المسرحية» الاستعراضية، الاسترسالية: «هيا بنا فورًا، حالًا بالًا نسمع بعضًا محدودًا قليلًا جدًا من فيديوهات الشيخ الشعراوي.. فقط لنتذكر.. وبالمناسبة، ونعتبر».. قالها وهو يضغط على نطق بعض الكلمات، بطريقة ساخرة! ثم ظهر على الشاشة عنوان الفقرة: «فتوى من نوع خاص».. فزاد شغفي لمعرفة ما الذي ممكن أن تحويه هذه «الفتوى» التي وُصِفَتْ بأنها «من نوع خاص»!
 
الشعراوي وعلاقة المعاصي بالماء
 
بعد العودة من الفاصل، ظهر الشيخ الشعراوي، وهو يقول: «إذا أقبلت على الماء فقسمه أثلاثًا.. اشرب أول جرعة وقل باسم الله واشربها، ثم انتهي من الجرعة وقل الحمد لله.. وابتدئ الجرعة الثانية وقل باسم الله، ثم انتهي منها وقل الحمد لله.. ثم اختم بالثالثة وقل باسم الله، واختمها بقولك الحمد لله».. وواصل الشيخ: «إذا أخذت بهذه الطريقة، التي نُقِلت عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طالما كان في جوفك ذلك الماء فلن تحدثك ذرة بمعصية الله.. وجربها يومًا في نفسك».
 
وبعد انتهاء حديث الشعراوي، ظهر على الشاشة تساؤل: وما دخل المعاصي بالماء؟ وعقب عيسى: أكتر حاجة مزعجة بالنسبة لي، «الله.. الله»، إللي بيرددها المستمعين للقصة، وإللي لا يمكن لعقل ولا عاقل أن يقبلها. لكن مريدي ومحبي الشيخ لديهم رغبة لتصديق هذا الكلام.. وأن النبي قاله، وفعله.. وأنك لن تفكر أبدًا في الحرام، لو شربت الكوباية على ثلاث مرات، وقولت بسم الله والحمد لله في الآخر.. وكأن طرد الحرام من ذهنك أو فكرك أو سلوكك، قائم على أن تتمتم، أو تسبح.. لو المسألة كده كانت البشرية اتغيرت.. كان الكون اتغير، فهذه الأفكار، وهذه الطريقة في عرض الدين، لا تصح حتى مع الأطفال! وتساءل مستنكًرًا: هو دا الدين، والبعد عن الحرام، والتماس التدين؟ مختتمًا تعقيبه بقوله: شيء بائس الحقيقة!
 
أي بؤس يقصد الأستاذ إبراهيم؟ فحديث الشعراوي واضح، والشيخ لم يقل إن الرواية التي ذكرها من أركان الدين، أو فرع من فروعه، ولم يقل إنها حديث نبوي، وهي كذلك بالفعل.. فلم يثبت عن النبي أنه شرب الماء بالكيفية المذكورة، فقد ثبت أنَ رَسُولُ، الله صلى الله عليه وسلم، كان يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلاَثًا وَيَقُولُ: «إِنَّهُ أَرْوَى وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ». لكن بعض الصوفيين أرجعوا سبب عدم ميل النفس أبدًا إلى معصية الله؛ إذا شرب الماء بالطريقة السابقة، إلى أن مَن يفعل ذلك يستقبل النعمة بذكر المنعم، وينفض عن نفسه حوله وقوته في كل شيء! والمسلم حر، يشرب الماء بهذه الكيفية أم كما اعتاد، ولا إثم عليه.
إلا أن إبراهيم عيسى لوى كلام الشعراوي وحمله ما لم يحتمل، إضافة إلى قوله بأن كل ما هو ديني لا بد أن «يدخل العقل»، ويخضع للمنطق.. وهذا رأي لا يتفق مع الدين الإسلامي؛ لأن كثيرًا مما نؤمن به غيبيات.. «كلُ آمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله».. والله- عز وجل- يقول: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ..». فلو أخذنا بمنطق «عيسى» لقلنا: وما علاقة الاستغفار بجلب الرزق والذرية؟ فالعقل يقتنع بأن العمل هو الذي يجلب الرزق، والذرية لا تأتي إلا بالعملية الجنسية، ومراجعة الأطباء. فهل نكذب كلام الله من أجل إرضاء العقل العاجز عن إدراك الحكمة من وراء الاستغفار؟
 
كما أن مسح باطن الجورب (الشراب) أولى من ظاهره، هو ما يرضي العقل والمنطق؛ خاصة أن باطن القدم هي التي تتعرض للاتساخ أكثر من أعلاها، لكن ثبت في الحديث النبوي الشريف عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: «لو كان الدينُ بالرأي لكان أسفلُ الخف أولى بالمسحِ مِن أعلاه. وقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسَحُ على ظاهر خفَّيْه». والمقصود بالرأي في الحديث: أي بما يراه الإنسان صالحًا، من دون نظر إلى الشرع.. فهل نطبق ما تراه عقولنا، ويتفق مع المنطق، أم نلتزم بما أقره الشرع؟ 
 
الإمام وإفطار لاعبي كرة القدم
 
في الفقرة الثانية من حلقة «مختلف عليه»، عرض عيسى مقطع فيديو رفض فيه الشعراوي إفطار لاعبي كرة القدم، ولو كانوا يلعبون في البطولة الإفريقية، قائلًا: «يلعبوا حاجة تنفعهم»، ولما سأله المذيع: «يعني ما ينفعوش يفطروا؟»، انفعل عليه، قائلًا: «يفطروا إيه يا شيخ.. يروحوا يترموا في النار»، مرتئيًا أن الأفضل لهم ممارسة رياضة تنفعهم، مثل «السباحة والرماية وركوب الخيل».. فهاجمه إبراهيم عيسى، متهمًا إياه بالعصبية، وضيق الصدر، وأنه وأولاده لم يمارسوا السباحة ولا الرماية ولا ركوب الخيل.. وكان الأولى بالإمام أن يدعو للاعبين المفطرين بالهداية.
 
ربما أتفق مع عيسى في انتقاده رأي الشعرواي بشأن اللاعبين المفطرين، لكن في النهاية يبقى ما قاله الإمام مجرد «رأي شخصي»، ليس ملزمًا لأحد، خاصة وأن دار الإفتاء المصرية «أجازت» إفطار لاعب كرة القدم في رمضان، إذا كان مجبرًا على المشاركة في مباريات مع ناديه أثناء الصيام، شريطة أن يكون متعاقدًا على ذلك بشكل رسمي، ولا يكون له مصدر رزق آخر غير لعب كرة القدم. فالمسألة فيها رأيان، والقاعدة الفقهية تقول: «لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المجمع عليه».
 
النكسة والوطن عند الشيخ
 
وعرض إبراهيم عيسى مقطع فيديو من حوار أجراه الإمام مع الإعلامي طارق حبيب، وأوضح فيه الشعراوي سبب سجدته لله شكرًا، فرحًا بنكسة يونيو 1967. ورغم تفسير الشعراوي هذه السجدة مرارًا، بأننا لا بد أن نحمد الله في السراء والضراء، وأنه كان يعتقد أن عبد الناصر سينشر الشيوعية التي يرفضها، وكان لـ«حلمه» برؤية ناصر كلمة الحسم، عندما ذهب إلى ضريحه وقرأ الفاتحة واعتذر له.. ورغم ذلك رفض عيسى تبرير الشعراوي، مستنكرًا فرحته وسجوده، وحمده الله على هزيمة بلده، وارتقاء 6 آلاف شهيد في النكسة.. متسائلًا: هل يقولها إنسان وطني؟ وأجاب: أنا بقولك لأ.. إنما يقولها سلفي زي الشعراوي، الوطن بالنسبة له هو الدين!
 
إمام الدعاة والسلفيون والإخوان
 
رغم اتهام إبراهيم عيسى للشعراوي بأنه «سلفي»، وأن «الوطن عنده هو الدين»، إلا أن السلفيين أنفسهم يهاجمون الإمام، وينتقصون من قدره، ويحطون من شأنه.. فكيف يكون سلفيًا؟ فأحد رموزهم «نصرالدين الألباني»، ينتقد أداء ومنهج وأسلوب الشعراوي، ويدعي أنه أساء للإسلام، ولا يعتمد عليه في الفتوى! وأن كثيرًا من المسلمين ينخدعون بكلامه، بسبب لهجته العامية، وسهولة أسلوبه، وبساطة شرحه، مستغلًا علمه باللغة العربية.
كما يتهمه التيار السلفي بـ«إنكار السنة»، وأن لديه «أخطاء في العقيدة»، وأنه «صوفي، ومبتدع، وقبوري»، لأن الإمام الراحل لم يكن يرى حرجًا في الصلاة في المساجد التي بها قبور، أو أضرحة.. وهو- بالمناسبة- نفس رأي دار الإفتاء؛ معتبرًا أن مَن يصلى فى مسجد به ضريح، لا يصلى لصاحب الضريح، ولكنه يصلى من أجل الله وحده، لكن السلفيين كانوا، وسيظلون على رأيهم بأن الصلاة فى ضريح نوع من الشرك.
 
اتهامات السلفيين للشعراوى وصلت إلى حد «تكفيره»، وإخراجه من الملة، دون أن يعلنوا ذلك على الملأ، ويعمدون إلى تشويه إمام الدعاة وهو في قبره، ويتهمون محبيه ومريديه بذات الاتهامات التي يوجهونها لشيخهم. والحقيقة أن عاقلًا منصفًا لا يجرؤ أن يقول أن الشعراوي ينكر السنة، فالشيخ عندما يفسر القرآن يستدل بالسنة، لأن الله تبارك وتعالى عندما قال عن رسوله إنه أنزل عليه القرآن وعلمه مالم يكن يعلم وأنزل عليه القرآن ليبينه للناس، لكن إذا كان السلفيون يكفرون الشعراوي، وهو من هو، فما الذي يمكن أن يفعلوه في بسطاء العلم والمعيشة؟
 
ولم يسلم الشعراوي من الاتهامات التي كالتها له جماعة الإخوان، لأن موقفه منهم كان واضحًا، عندما قال لـ«طارق حبيب»، مقدم برنامج «من الألف إلى الياء»: إن الإخوان «بذرة لعن الله مَن أنبتها، ومَن تعجل قطف ثمارها». وشارك الشيخ في صياغة البيان الأول للجماعة، وكان يعرف مؤسسها ومرشدها الأول حسن البنا، وكان يعيب على الإخوان تعجلها في الوصول إلى السلطة، دون أن يعدوا لها عدتها، وهو ما تحقق فيما بعد؛ إذ تعجلت الجماعة الثمرة ففقدتها، وكانت تصارع على السلطة، ولما وصلت إليها فقدتها دون أن تدرى، وكان هذا طبيعيًا ومنطقيًا للغاية.
 
وطنية مولانا 
 
لعل الكاتب الصحفي والإعلامي، إبراهيم عيسى، الذي يتهم الشيخ الشعراوي بعدم الوطنية، يتذكر وقفة الإمام متولي الشعراوي في الجامع الأزهر، في نهاية ثمانينات القرن الماضي، إذ كانت الجماعات الإرهابية في أوج نشاطها، وتروع المصريين بعمليات إرهابية متتابعة، فاجتمع هو وشيخ الأزهر-وقتذاك- الإمام الأكبر جاد الحق علي جاد الحق، ووزير الأوقاف، محمد علي محجوب، والشيخ محمد الغزالي.
 
حينذاك، هاجم الشعراوي الجماعات الإرهابية، والذين يكفرون المصريين، وكل الذين يريدون بمصر وأهلها شرًا، قائلًا: «مًن يقول عن مصر إنها أمة كافرة، إذًا فمَن المسلمون؟ مَن المؤمنون؟.. ستظل مصر رغم أنف كل حاقد هنا أو خارج هنا، مصر الكنانة.. مصر التي قال عنها رسوله الله- صلى الله عليه وسلم: أهلها فى رباط إلى يوم القيامة.. مصر التي صدَّرت علم الإسلام إلى الدنيا كلها، صدَّرته حتى إلى البلد التي نزل فيها الإسلام، هي التي صدَّرت لعلماء الدنيا علم الإسلام، أنقول عنها إنها أمة كافرة؟! ذلك هو تحقيق العلم في أزهرها الشريف وأما دفاعًا عن الإسلام فانظروا إلى التاريخ: مَن الذى ردّ همجية التتار عنه؟ إنها مصر.. مَن الذي رد هجوم الصليبيين على الإسلام والمسلمين؟ إنها مصر.. وستظل مصر دائمًا رغم أنف كل حاقد أو حاسد، أو مستغِل أو مستغَل مدفوع من خصوم الإسلام هنا أو خارج هنا، إنها مصر ستظل دائمًا».
 
فكيف لعالم مثل الشيخ الشعراوي، حامل لواء الوسطية، وأحد مفسري القرآن العظام في القرن العشرين، وهاجم الإرهابيين والمتشددين بهذه الحدة.. ثم يأتي مَنْ يتهمه بالكفر، وإنكار السنة، وفساد العقيدة، والإساءة إلى الدين الإسلامي، وتمهيد الطريق أمام الفكر المتطرف في المجتمع المصري؟
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق