هل يوجد «كهنوت» في الإسلام؟

الأحد، 11 يوليو 2021 11:00 ص
هل يوجد «كهنوت» في الإسلام؟
أيمن عبد التواب

الإسلام حرر العقل من «السلطة الكهنوتية» ومنحه الإرادة الكاملة

«الكهنوتي المتأسلم» يحيط نفسه بهالة من القداسة ويوهم أتباعه بأنه حامل «صك الإله»

الشريعة اهتمت بتربية المسلم عقليًا وحثه على العلم والتعلم وفهم مسببات الأمور

الأصوليون أدخلوا «الكهنوت الإسلامي» في الدين واهتموا أكثر بالمظاهر والشكليات

بعض الدعاة يقنعون أتباعهم بأنهم «لا يُسألون عما يفعلون»

لماذا يُصر العلماني والتنويري على أن «الأصولي» هو الممثل الوحيد للدين؟

 

 

أفلا تعقلون؟ أفلا تتذكرون؟ أفلا تتفكرون؟ أفلا تتدبرون؟ أفلا تبصرون؟.. هكذا يخاطبنا الله- عز وجل- طالبًا منا إعمال عقولنا، في كل ما يستحق إعمال العقل في كونه الفسيح.. فقد منحنا- سبحانه وتعالى- عقلًا لنستخدمه في التفكير، والإدراك، والتدبر، والتعقل، والتحليل، والتحصيل.. لا لنهمله، أو نركنه، أو نسلمه إلى غيرنا طواعية؛ ليفكر به نيابة عنا، أو يملؤه بكل غث ورديء، ويُنَصِّبَ نفسه وسيطًا بيننا وبين ربنا؛ معيدًا بذلك الكهنوت الموجود في أديان أخرى.

والمراد بـ«الكهنوت» أن يكون لرجل الدين «الكاهن» سلطة أعلى من كل السلطات، كما في العصور الوسطى، إذ كان «القساوسة» يسيطرون على الحكم، وكانوا بمثابة الحكام الفعليين في البلاد، فقد كانوا يتحكمون في الشعوب والحكومات، بل وفي بعض الحكام أيضًا.. فكلمتهم كانت مسموعة، واحكامهم كانت نافذة أكثر من نفاذ القوانين؛ فحكموا، وسيطروا، وطغوا، وتوحشوا، وتجبروا.. ومنحوا أنفسهم «صك الإله»، و«وكلاء الله» في الأرض، على غرار ما كان يفعله قساوسة العصور الوسطى!.

وللأسف، هناك- الآن- مَنْ يعيش بيننا، ويحمل لقب «شيخ»، أو «عالم»، أو «داعية»، ويمارس العمل الدعوي، لكنه حاد وانحرف عن طريق الدعوة.. ورويدًا رويدًا، بدأ الداعية من هؤلاء يتحول من عالم دين إلى رجل دين، ثم إلى «كهنوتي»، ولكنه «كهنوتي متأسلم»، يحيط نفسه بهالة من القداسة، ويلزم أتباعه بفتواه، وآرائه، ولا يُسأل عما يفعل.. فيما يسفه من نظرائه الذين لا يسيرون في فلكه، ولا يتبعون عقيدته، وفكره ومنهجه، فيُحط من شأنهم، ويشكك في علمهم، وعقلهم، وربما يتهمهم بالضلال و«الكفر».. ويوهم أتباعه بأنه أحد وارثي العقيدة، و«حامل الأسرار الإلهية»، وأنه «المفوض من الله» لهداية الناس؛ حتى يضمن السيطرة على أتباعه ومريديه!.

  (1)

إن العقل من كمال الإنسان، وجماله أيضًا. وقد ميّز الله- تعالى- الإنسان بالعقل؛ وجعله مناط التكليف في الدنيا، والحساب في الآخرة.. ومنحه الإرادة؛ ليكون قادرًا على التصرف في الكون المسخر له.. وما من شك أن العقل هو أداة الإنسان للفهم، والإدراك، والتمييز والتفريق، بين كل المتناقضات، الخير والشر، والنافع والضار، الجميل والقبيح.. الحلال والحرام، والغث والثمين.. والأهم من ذلك كله، أن العقل وقدرته على الإدراك هو وسيلة الإنسان لإدراك ماهية الوحي ومقاصده، والعمل بما يقتضيه التوجيه والإرشاد الإلهي.

وكما اهتم الإسلام بتربية المسلم «دينيًا»، اهتم- كذلك- بتربيته عقليًا، بالحث الدائم على العلم والتعلم، ومعرفة الحقائق، وفهم مسببات الأمور والأشياء، وإدراك ماهيتها.. ويكفي أن نعلم أن أول ما نزل من آيات القرآن الكريم: «اقرأْ بِاسْمِ رَبَّكَ الَّذي خَلَق. خلَقَ الإِنْسَان مِنْ عَلَقْ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم. الذي عَلَّمَ بِالقَلَمِ. عَلَمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ».. كذلك حض الإسلام على التروي، والتبين، والتثبت من كل شيء، ومعرفة أسبابه قبل إصدار الحكم عليه، فقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوُا إِنْ جَاءَكٌمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوُا أَنْ تُصِيُبُوُا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوُا عَلَى مَا فَعْلْتُمْ نَادِمِين».

وفي كتابه «التفكير فريضة إسلامية»، يبرز الكاتب الراحل، عباس محمود العقاد، أهمية العقل ومكانته في القرآن الكريم: «والقرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يُلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه».

ويكفي الإسلام تكريمًا للعقل- والكلام للعقاد- وإعلاءً من شأنه أن جعله مناط التكليف، فلا يتوجَّه الخطاب الشرعي إلا للعقلاء من البشر، بينما يسقط التكليف وترتفع المسؤولية عن فاقدي هذه النعمة الإلهية والجوهرة الثمينة، ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حتى يكبر وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق».

(2)

من الأشياء التي كان يُعاب فيها على «كفار قريش»، أنهم لا يفكرون، ولا يُعملون عقولهم، بل ألغوها في بعض الأمور، خاصة المتعلقة بالإيمان وتوحيد الله- تعالى- مكتفين بترديد الجملة التي ذكرها القرآن الكريم: «هذا ما وجدنا عليه آباءنا».. لكن عندما جاء الإسلام حرص على تحرير العقل من أي سيطرة كهنوتية، وجعل الإنسان حرًا في تفكيره، ورأيه، واختياراته.. بل جعل من حقه مناقشة الرسل في بعض أمور الحياة؛ للوقوف على الحكمة من ورائها.

ففي غزوة بدر، نزل النبي- صلى الله عليه وسلم- بالجيش عند أدنى بئر من آبار بدر.. لكن الصحابي «الْحُبَاب بْنَ الْمُنْذِرِ»- رضي الله عنه- أشار عليه بموقع آخر أفضل، قائلًا: يَا رَسُولَ اللَّهِ.. أَرَأَيْت هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلاً أَنْزَلَكَهُ اللّهُ، لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ ولا نَتَأَخّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ.. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنّاسِ حَتّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ ، فَنَنْزِلَهُ ثُمّ نُغَوّرَ (ندفن) مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمّ نَبْنِيَ عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمّ نُقَاتِلَ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ.. فَقَالَ له النبي- مشجعًا: لَقَدْ أَشَرْت بِالرّأْيِ.

فالموقع الذي اختاره النبي، ونزل فيه بالجيش، لم يستقم مع عقل «الحباب»، ولا مع خبرته العسكرية.. ولم يمنع الصحابي الجليل كونه رسول الله أن يراجعه في قراره، وأن يبدي رأيه فيما قرره النبي، حتى وإن كان مخالفًا لرأيه صلى الله عليه وسلم.. فهذا ما يعلمنا الإسلام إياه ويوجهنا إليه.. فالحباب- هنا- يعرف حدود عقله، ولم يُبْدِ رأيه، ولم يُشِر على النبي- صلى الله عليه وسلم- باختياره إلا بعد علمه أن مكان نزول الجيش لم يكن وحيًا، ولم يكن اختيارًا إلهيًا؛ لأنه يؤمن أن أوامر الله ونواهيه يجب تنفيذها حتى لو جهلنا أسبابها والحكمة من ورائها.

(3)

في سبيل السلطة، يفرض قادة التيار الأصولي رؤيتهم على نظام الحكم، من خلال آليات وطرق الوصاية، وذلك حسبما تقتضيه الظروف التاريخية، ومدى العلاقة بينهم وبين الحكام.. فمثلًا، يسعى هؤلاء للوصول إلى الحكم بذاتهم، ويدعمون التظاهرات والاحتجاجات، والانتفاضات، والثورات، والإطاحة بالنظام الحاكم إذا جاء ذلك فى مصلحتهم، ليجلسوا بأنفسهم على كرسي السلطة، مثلما حدث فى تجربة «الإسلاميين» في الجزائر، والإخوان فى مصر! وإن لم يصلوا إلى الحكم، فإنهم يحرصون على التقرب من النظام، وإقناعه بفرض «وصاية دينية» على الشعب، وفقًا لرؤيتهم «الكهنوتية» للدين والدنيا.

وفي بعض الأحيان، عندما يفشل الأصوليون في الوصول إلى الحكم، ويفشل النظام في احتوائهم، فإن علاقة هؤلاء بالسلطة تقوم على سياسة «التحالف»، و«تبادل المصالح»، و«الشيء لزوم الشيء».. فالإخوان والسلفيون في مصر، مثلًا، لعبوا دور «المحلل الديني» للأنظمة المتعاقبة، مقابل بعض المكاسب التي حصل عليها هذا التيار!.. فـ«الثورات»، والانتفاضات، والخروج على الحاكم- في أحيانٍ- «حرام شرعًا»، بالأسانيد والأدلة الشرعية من القرآن والسنة.. وفي أحيانٍ أخرى «حلال»، و«واجب» و«جهاد شرعي»، وأيضًا بالأسانيد والأدلة من القرآن والسنة؛ وفقًا لمصلحتهم، والمكاسب والامتيازات التي يحصلون عليها!

(4)

يُصِرُ بعض المثقفين، والعلمانيين، أو «التنويريين»، أمثال الكاتب والروائي، يوسف زيدان، والمستشار، أحمد ماهر عبده، والكاتب، شريف الشوباشي، والباحث إسلام بحيري، والصحفي والإعلامي إبراهيم عيسى، وغيرهم، على وجود «كهنوت» في الإسلام.. ويعتبرون أن شيوخ التيار السلفي، والأصوليبن، هم وحدهم الذين يمثلون الإسلام، وأن الآراء والفتاوى الصادرة عنهم تمثل الدين، وتعبر عنه.. وهذا- للأسف- فَهْم سقيم، وحكم مغلوط؛ لأن هؤلاء الأصوليين لا يمثلون إلا أنفسهم، ولا يعبرون إلا عن رأي التيار المتشدد الذين ينتمون إليه.. بينما يتجاهلون- بحسن نية، أو لحاجة في نفس بعقوب- أن الأزهر الشريف والمؤسسات الدينية التابعة له، هو الممثل الشرعي للإسلام الوسطي والخطاب الديني المعتدل في مصر، وكثير من دول العالم الإسلامي.

كما يخلط هؤلاء بين فتاوى الأصوليين، وآرائهم الملزمة لأتباعهم وأنصارهم، وبين الآراء الصادرة عن دار الإفتاء، وبعض المؤسسات الدينية الرسمية، التي توضح الحكم الشرعي، وآراء الفقهاء وأئمة المذاهب الأربعة في قضية، أو مسألة ما، تاركة للسائل حرية الاختيار، إلا في الأمور القطعية الدلالة والثبوت، والتي أجمع الفقهاء عليها، على مر العصور، كحرمة ترك الصلاة مثلًا. وتحريم ترويع الآمنين، وتحريم قتل النفس الإنسانية إلا بالحق، مع ترك التنفيذ لولي الأمر، والجهات المعنية في الدولة.. وكذا تحريم الإفطار في نهار رمضان، إلا لعذر من الأعذار التي أقرها الشرع الحنيف! فالإنصاف يقتضي من هؤلاء التفريق بين فريقين متناقضين تمًامًا، الأول يميني، متشدد، متطرف.. والآخر وسطي، معتدل.. وينتصرون للفريق الثاني وممثليه!.

(5)

في حديث متلفز، اتهم شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، السلفيين والأصوليين بإدخال ما أسماه بـ«الكهنوت الإسلامي» إلى الدين، كاشفًا عن أن الخطاب الديني «انهار بعد خطيئة الكهنوت»، وأصبح أسير المظاهر والشكليات، والاهتمام بالقشور، وسفاسف الأمور، على حساب القضايا الكبرى والمصيرية، موضحًا أن الأصوليين، كالإخوان والسلفيين، يضغطون على الناس، فيجعلونهم لا يتحركون خطوة إلا بمنطق الحلال والحرام؛ بهدف السيطرة على عقولهم، والتحكم فى مصائرهم.. كما يفعل الكهان!

ومن جانبه، أكد مفتي الجمهورية السابق، عضو هيئة كبار العلماء، الدكتور علي جمعة، أن الخلط بين رجال الدين وعلماء الدين يجعل الأمر ملتبسًا على كثير من الناس، ويخلق ثنائية الدين والعلم، أو الدين والسياسة. مؤكدًا- عبر حسابه على موقع فيسبوك- أنه «لا كهنوت في الإسلام».. وأن الله- سبحانه وتعالى- لم يعط أحدًا من خلقه بعد نبيه- صلى الله عليه وسلم- حق التشريع باستقلال، وهذا شيء مختلف تمامًا عن وجود علماء في الدين؛ لإظهار أحكام الله، دون أن يشترط فيهم نسبًا معينًا، أو مكانةً اجتماعيةً أو حالةً اقتصادية، فكل المسلمين يستطيعون أن يكونوا من علماء الدين، دون شرط من جنس أو نوع أو لون.

فالخلط بين رجال الدين وعلماء الدين- والكلام للدكتور علي جمعة- يلبِّس الأمر على كثير من الناس، وينشئ ثنائية الدين والعلم، أو الدين والسياسة. والتفضيل بينهما يزيل تلك الثنائية؛ حيث إن النصوص الشرعية التي هي الوحي من قرآن أو سنة، خارجة عن الزمان والمكان؛ أي أنها ثابتة عبر العصور متاحة لأن يعمل كل عالم يمتلك أدوات الفهم فيها فهمه، ويلتزم بإطارها كائنًا مَن كان ذلك العالم، وعلى أي مشرب كان، لا يوجهه إلا أصول يلتزم بها، ويكون صادقًا مع نفسه فيها، ويقيم الحجة فيها مستنبطًا الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية.

(6)

إذا كان الإسلام حرر العقل الإنساني من أي قيد، أو سيطرة كهنوتية، إلا أنه ألزم العقل بالوقوف عند بعض الأمور، وفعلها دون مناقشة، حتى ولو كانت ضد قناعاته.. فما طُرِدَ إبليس من رحمة الله- عز وجل- إلا لإن عقله القاصر صوَّر له أن النار أفضل من الطين، فعصى أمر ربه، وأبى أن يسجد لآدم- عليه السلام- مبررًا رفضه بقوله: «قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين»! ولم يتطرق إلى عقله أن الطين ربما يكون أفضل من النار، وقد يكون السجود لآدم لا علاقة له بأفضلية المادة التي خُلِقوا منها، سواءً كانت النار لـ«الجن»، أو النور لـ«الملائكة»، أو الطين لـ«الإنسان».

فالعقل، أي عقل لأي مخلوق بكون محدودًا، ويعجز عن إدراك الحكمة من وراء بعض الأوامر والتكليفات الإلهية، وإلا كيف نقنع العقل برمي الجمرات في الحج؟ وكيف نقنعه بتقبيل الحجر الأسود، باعتباره من السنة النبوية؟ وكيف نقنعه بأن المسح على الجورب يكون على ظاهر القدم، وليس باطنها؟ وكيف نقنعه بأن مَنْ أراد أن يوسع الله له في رزقه، ويرزقه المال والبنين، ويدخله الجنة.. فعليه أن يُكثر من الاستغفار مع الأخذ بالأسباب: «فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارًا يرسل السماء عليكم مدرارًا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا».. وكثير من الأمور الدينية، التي لو قِيسَتْ على العقل لم يقبلها، فربما تكمن العلة، أو الحكمة في اختبار المسلم لمدى استجابته للأمر والتوجيه الإلهي، والنصوص الثابتة في القرآن الكريم والسنة النبوية.

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق