أيمن عبد التواب يكتب: خرافة الطب النبوي والعلاج بالقرآن

السبت، 31 يوليو 2021 11:00 م
أيمن عبد التواب يكتب: خرافة الطب النبوي والعلاج بالقرآن

الدجالون استغلوا «العلاج بالقرآن» و«الطب النبوي» لتحقيق أرباح طائلة على حساب راغبي الشفاء

العلماء يؤكدون: ربط الطب بالدين يطعن في الإسلام لأن العلوم الطبية متغيرة والدين ثابت.. والله بعث محمدًا نبيًا رسولًا وليس طبيبًا مُعالجًا

دار الإفتاء: الادعاء بأن القرآن «علاج» وأن يمتهنه الشخص «لا يصح شرعًا».. شيخ الأزهر الأسبق الشيخ محمود شلتوت: الأمراض البدنية خلق الله لها عقاقير طبية فيها خاصة الشفاء

 

هل بعث الله، جل جلاله، محمدًا، صلى الله عليه وسلم، نبيًا ورسولًا، أم مُعالجًا طبيبًا؟.. هل بعثه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، أم مداويًا وحكيمًا؟.. وهل أنزل سبحانه وتعالى القرآن ليُتَعَبدُ به في صلواتنا، ونتقرب إلى الله بتلاوته، ونتدبره، ونأخذ العظة منه، أم أن الله أنزله لنبحث فيه عن وصفات دوائية، وعلاج للأمراض، خاصة الأمراض التي استعصت على العلم والطب ومراكز الأبحاث؟.. الإجابة عن هذه التساؤل تكشف لنا، بوضوح وجلاء تامين، عن حقيقة ما يسمى بـ«الطب النبوي»، و«العلاج بالقرآن».. ولماذا يلجأ بعض الناس إلى القرآن الكريم، وإلى ما يسمى بـ«الوصفات المحمدية»؛ للشفاء من أمراض بعينها، رافضين الذهاب إلى طبيب يشخص حالتهم، ويصف الدواء المناسب لهم!

العجيب، ونحن في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، أن نرى لافتات في الشوارع، وإعلانات وبرامج في بعض الفضائيات عما يسمى بـ«العلاج بالقرآن»، وأن نرى أناسًا يفترشون الأرصفة بمجموعة من الأعشاب مجهولة المصدر، ويوهمون «زبائنهم» بأنها «وصفات نبوية»، فهذه وصفة لعلاج أمراض الكلى، وثانية لعلاج الإمساك، وثالثة لعلاج الإسهال، ورابعة لعلاج البواسير، وخامسة لعلاج أمراض الكبد، وسادسة لعلاج أمراض القلب، وسابعة لعلاج السرطان.. إلخ. ويحاولون إقناع ضحاياهم بأن الذهاب إلى الطبيب خرافة وجهل! مبررين ذلك بأن القرآن فيه الشفاء التام من كل الأمراض، وأن في «الطب النبوي» ما يغني عن الطب التقليدي!

فإذا كان الأمر بمثل هذه البساطة التي يدعيها هؤلاء، فلماذا لم نسمع عن آية قرآنية بعينها، أو مجموعة من الآيات شفيت مريضًا أصيب بكسر في العظام مثلًا؟.. ولماذا لم نر مصابًا بالسرطان قد كُتِبَ له الشفاء عقب قراءته آية، أو بضع آيات من كتاب الله؟ وهل أفاق مريضًا، وخرج من غرفة العناية المركزة لمجرد أنه قرأ بضع آيات من كتاب الله؟.. وهل سمعنا عن مريض شُفِي من «البواسير» مثلًا، لمجرد أنه قرأ أجزاءً من القرآن الكريم، أو حتى قرأه كله، أو استدعى من يدعي العلاج بالقرآن فقرأ له عليها؟

العلاج القرآني

ربما يسمع المريض آيات قرآنية فيشعر بالراحة والطمأنينة، ويتحلي بالقوة في مواجهه المرض، ويزداد تحمله للألم.. لكن هل ذلك يجعلنا نعتقد ونجزم، ونصدق ونؤمن أن المصاب سوف يُشْفَى بهذا؟.. وماذا عن المريض غير المسلم؟ هل نسمعه، ونقرأ عليه القرآن ليُشْفَى أم ماذا؟ يكاد يكون هناك شبه إجماع على أن مَن يصدق أن القرآن علاج للأمراض، خاصة العضوية منها، هو شخص واهم، وذو خيال مريض، وأسير للموروث الديني والثقافي عبر الأجيال. فبحسب الدراسة العلمية التي أجراها الطبيب النفسي «باول» عام 2003، توصل إلى أن هناك علاقة بين الإيمان والشعور بالصحة، لكن اتضح أن تلك العلاقة أكثر تعقيدًا مما كانوا يعتقدونه وأكثر فهمًا؛ لأن ثمة اختلافات بين الطب والقرآن.

فوفقًا للمعنى اللغوي للقرآن، فقد سُمِّي بهذا الاسم؛ لأنه يجمع السور والآيات؛ لأن أصل الكلمة تدل على الجمع، والضم. ومنه وقَوله تَعَالَى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}.. وبحسب المعنى الاصطلاحي، فإن القرآن الكريم هو «كلام الله المعجز، المتعبد بتلاوته، المنزل على النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، عن طريق الوحي، ونقل إلينا بالتواتر، ومجموع في مصحف واحد مبدوءًا بسورة الفاتحة، ومختوما بسورة الناس.

أما كلمة الطب فتعني  «ars medicina»، وهي لفظة لاتينيّة معناها فن العلاج، والطب هو العلم أو المجال الذي يولي فيه الطبيب الاهتمام بصحّة الإنسان الجسدية والنفسيّة.. وقد بدأ الإنسان تجارب الطب قديماً؛ بالأعشاب، ووسائل تقليديّةٍ أُخرى؛ كالنار، والضرب، فيما حاول العديد من العلماء القُدامى، سبر أغوار هذا المجال المُهم، وقدموا ابتكاراتٍ واكتشافاتٍ، ساعدت البشرية على فهم طريقة عمل الأعضاء البشرية، إلى أن تطورت مظاهر الحياة، وفتحت الجامعات والمعاهد أبوابها؛ لتدريس مهنة الطب، وتلقي الطلبة التدريبات، والشروحات اللازمة لأن يُصبحوا أطباء.

معنى ذلك أن علوم الطب تكاد ان تكون هي الوحيدة المختصة بصحّة الإنسان الجسدية والنفسيّة، لكن بعضهم اعتقد أن في القرآن شفاءً من أمراض عضوية، كالسرطان، والفشل الكلوي، والفيروسات، وأمراض الكبد، والعيون، والمخ، وغيره. صحيح هو مجرد كلام، لكن ولأنه كلام الله المنزل على رسوله، صلى الله عليه وسلم، فله قدرات خاصة، والتبس بهذا الاعتقاد إجراءات وطقوس خرافية، كقراءة القرآن على مياه، ثم شربها، أو قراءة القرآن على حجاب، ثم ارتداؤه.. ثم انحرفت هذه الطقوس إلى أعمال محرمة، استغلها المشعوذون والدجالون لتحقيق أرباح على حساب راغبي الشفاء.

هل القرآن شفاء أم لا؟

هل معنى ما سبق أن القرآن ليس علاجًا لبعض الأمراض؟ هناك انقسام في الإجابة عن التساؤل السابق، فبعضهم يرى أن كتاب الله فيه شفاء لأمراض القلوب وعلل النفوس، وشفاء للماديات وجميع أمراض البدن، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ». وقوله تعالى: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ». لكن هذا القول مردود عليه.. فالقرآن هنا يخاطب «المؤمنين»، فماذا عن غير المؤمنين؟ وهل يفرق القرآن بين مريض مسلم وغير مسلم؟ وإذا كان الأمر كذلك، ألا تتعارض هذه التفرقة مع الغاية، والرسالة التي بُعِثَ بها النبي، صلى الله عليه وسلم، في قوله تعالى: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»؟!

ولو افترضنا أن القرآن شفاء للأمراض المادية، فأي منهجية نستخدمها للعلاج؟ وأي آية تعالج أي مرض؟ وكيف تتم خطوات التداوي؟ ولو كان القرآن شافيًا، فلماذا نلجأ للطب؟ ولماذا تطبب النبي نفسه، وأوصى بالذهاب إلى الأطباء؛ باعتبارهم أهل الذكر والعلم؟ ولو كان القرآن شافيًا مدمرًا للبكتيريا والفيروسات، فكيف يقتصر على المؤمنين فقط؟ فتركيب الجسد لا يختلف بين مؤمن وكافر، والأمراض البدنية لا تختلف أيضًا حين تصيب مؤمن أو كافر، فكيف يصبح الدواء الواحد للمرض الواحد شافيًا للمؤمن دون الكافر؟ أما لو كان المقصود: شفاء من الضلال والانحراف، فهو بلا شك علاج لمن آمن به، واختار الهدى، واتبع الحق.

لكن ما نميل إليه أن القرآن قد يشفي الأمراض المعنوية دون المادية، وهو رأي كثير من الفقهاء، انطلاقًا من القاعدة الفقهية: «يُحمل المطلق على المقيد». فالآيتان السابقتان ذكرتا كلمة الشفاء مطلقة، لكن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ..} بيَّن أن الشفاء شفاء معنوي، يحمل الهداية للضالين، والنور للمتخبطين. وبذلك فالشفاء (المطلق) يُحمل على الشفاء (المقيد بالأمراض المعنوية).

ففي تفسير ابن كثير: {شفاء ورحمة للمؤمنين} أي: يُذهِب ما في القلوب من أمراض، من شك ونفاق، وشرك وزيغ وميل.. بينما يقول الطبري: وننزل عليك يا محمد من القرآن ما هو شفاء يستشفى به من الجهل من الضلالة، ويبصر به من العمى للمؤمنين. فالقرآن كتاب هداية للبشر لقوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}.. وهو كتاب ذكر: {ان هو إلا ذكر للعالمين}، ومن أوصافه أنه شفاء. وقد تكرر هذا الوصف في أكثر من موضع في القرآن. والمقصود بالشفاء أيضًا، شفاء لما في الصدور أي العقائد، فالقرآن لم يشر إلى الأمراض العضوية بتاتًا، بل إشاراته هي الشفاء من الأمراض المعنوية كالجهل والكفر، وحيثُ ذُكر المرض يُقصد به مرضُ القلوب.

شيخ الأزهر الأسبق، الشيخ محمود شلتوت، يقول: إن الأمراض البدنية قد خلق الله لها عقاقير طبية فيها خاصة الشفاء، وأرشد إلى البحث عنها والتداوي بها. والقرآن لم ينزله الله دواء لأمراض الأبدان، وإنما أنزله كما قال دواء لأمراض القلوب وشفاء لما في الصدور.. وإذا كانت أمراض الأبدان أمراضًا مادية وشفاؤها بأدوية مادية، فأمراض القلوب أمراض معنوية، وشفاؤها بأدوية معنوية. والقرآن قد عالج مرض الجهل بالعلم، ومرض الشبهة بالبرهان، ومرض الشهوة بالحكمة.

وفي السياق ذاته، يقول الشيخ محمد رشيد رضا: لم يثبت بالتجارب الصحيحة المطردة أن تلاوة القرآن الكريم، أو كتابته في الصحف تُحمل، أو الصحاف يؤكل منها ويُشرب، سبب للشفاء من الأمراض وقضاء الحوائج، ولو ثبت لاستغنى به الناس عامة أو المسلمون خاصة عن الطب والأطباء، وعن اتخاذ الأسباب والوسائل المعروفة لسائر الحاجات والمصالح. فهذا دليل عقلي في الموضوع.. ودليل ثانٍ على ذلك: وهو أنه لو أنزل القرآن لأجل المنافع الحسية الجسدية كما نزل لأجل الهداية لذكر فيه ذلك، وعُدَّ من المعجزات؛ لأنه يكون خارقًا للعادة ولتحدى النبي بذلك، ولكن شيئًا من ذلك لم يكن، ولم يذكر العلماء في وجوه إعجاز القرآن ما ذكر، ولم يعلم أن الصحابة أو الأئمة احتجوا على منكر بذلك.

الطب النبوي

بعض المصطلحات والأسماء تكون براقة، لامعة، جاذبة، خادعة.. ولأن الإنسان بفطرته يميل إلى الدين، وينحاز إلى كل ما هو ديني؛ تجده ينجرف «لا شعوريًا» إلى كل شيء يعتقد أنه يقربه إلى الله- عز وجل- من هنا استغل بعض المتاجرين بكل شيء، حتى بالدين هذا الإحساس الطيب داخل الإنسان، وراحوا يلصقون كل شيء بالدين، لضمان ترويج بضاعتهم الكاسدة، الفاسدة، فأصبح لدينا «لباس إسلامي»، و«فرق زفاف إسلامية»، و«فرح إسلامي»، و«غسل شرعي»، و«جنازة إسلامية»، و«رقية شرعية»، و«علاج بالقرآن»، و«طب نبوي» إلخ.. على الرغم من أن ما يعرف بـ«الطب النبوي» لم يظهر في عهد النبي-صلى الله عليه وسلم- ولا الصحابة- رضي الله عنهم- وإنما ظهر في القرن الرابع الهجري.

نعم.. مصطلح «الطب النبوي» لم يظهر إلا في القرن الرابع الهجري. وبحسب ما وصل إلينا، فإن أبا عبيد بن الحسن الحراني كتب عام 369هـ كتاب «الطب النبوي»، وتوالت المصنفات- بعدئذ- بهذا الاسم لأبي نعيم الأصفهاني عام 430هـ، وأبي العباس المستغفري عام 432هـ، وأبي القاسم النيسابوري عام 406هـ، وغيرهم وصولًا إلى القرنين الثامن والتاسع الهجريين، إذ نجد مصنفات للذهبي سنة 748هـ، وابن قيم الجوزية سنة751هـ، والسخاوي سنة 902هـ، والسيوطي سنة 911هـ، وغيرهم.

وبهذه الكتب راح المنتفعون يروجون أن الوصفات الطبية الواردة في الكتب، سالفة الذكر، ما هي إلا «وصفات دينية»، وأنها وحي من عند الله، عز وجل، أوحى بها إلى نبيه الكريم، صلى الله عليه وسلم.. وبالتالي هي محل ثقة تامة، فيلجؤون إليها دون الرجوع للطبيب! كما أنها تمثل إعجازًا علميًا؛ إذ سبق الوحي أحدث الاكتشافات العلمية! هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تصيَّد بعضهم أخطاء طبية في الأحاديث النبوية، وبذلك يراها دليلًا على بطلان هذا الدين بالكلية، فكيف يأمر نبي بأدوية خاطئة؟ ونبيكم قال إن التمر يشفي من السم، فها هو التمر وذاك السم، فكلوا التمر واشربوا السم، وإن شفاكم، آمنا برسولكم!

وخروجًا من هذا اللغط، يمكن تصنيف أقوال النبي، في هذا الباب، إلى قسمين: الأول: نصائح عامة بالتداوي والنظافة العامة، كالحث على غسل الأسنان بالسواك، والأمر بالتداوي، وإعطاء الجسد حقه، وكل ما يفيد عناية الإسلام بالجسد، وهذه ليست محل خلاف على الإطلاق.. الثاني: وهو متعلق بالوصفات الطبية للتداوي من الأمراض، كالحجامة، والعلاج ببول الإبل، وقوله: لا عدوى، وأن التمر يقي من السم… إلخ.

الوصفات «النبوية».. وحي أم اجتهاد؟

القسم المتعلق بوصفات التداوي من الأمراض، كالحجامة، والعلاج ببول الإبل وغيرها، هو ما يعنينا، لأنه يقودنا إلى سؤال فارق: هل الوصفات الطبية «النبوية» وحي من الله، أم اجتهاد من الرسول؟ فكثير من المسلمين يعتقدون أنه مجرد نسبة قول أو فعل للنبي دليل على أنه وحيٌ إلهي، وهَدْيٌ ديني، وتشريع إسلامي مُلزِم.. لكن علماء الشريعة قسَّموا أقوال النبي إلى قسمين: أحدهما متعلق بتبليغ الرسالة، وفيه قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا}، فهذا مستند إلى الوحي. وثانيهما ليس متعلقًا بتبليغ الرسالة، وفيه قول النبي: إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر، فمنه الطب، ومنه ما فعله النبي على سبيل العادة دون العبادة.

إذًا، أقوال النبي منها وحي إلهي ديني، ومنها اجتهاد بشري. فهل أقوال النبي الطبية تشريع ديني أم اجتهاد بشري؟ بمعنى آخر، هل أقوال الرسول «طب نبوي» أم الطب الذي كان يمارسه العرب وقتذاك؟ فالقرآن حدد دور النبي ووظيفته في آيتين، الأولى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ..}، والثانية: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}.

فوظيفة النبي الدينية تشمل: تبليغ القرآن، وتعليمه، والحكمة، والتزكية. وهي وظائف لا تشمل إطلاقًا المجالات التخصصية، كالطب، أو الزراعة؛ فلم يوحِ الله إلى نبيه وصفة طبية، أو طريقة زراعية، أو نظرية علمية، وليس هذا دور النبي ولا المنتظر منه. بل هناك مؤشرات تشير إلى أن الوصفات الطبية جاء بها النبي كانت اجتهادًا واكتسابًا من عادات قومه.. فقد روى البخاري ومسلم قول النبي: إن كان في شيء من أدويتكم خير، ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار توافق الداء.. فالنبي قال: أدويتكم. فنسب العلاج إلى ما تعارف عليه الناس، وليس إلى الوحي الإلهي.

ومن المسلم به أن الطب ابن البيئة، فمثلًا بعض الوصفات التي تناسب المقيمين في البادية قد لا تناسب المقيمين في الحضر، وربما تتسبب هذه الوصفات في تدهور صحة مريض الحضر، الذي لم يعتد جسمه على هذه الوصفة التي يعتادها البدوي، أو الريفي.. ولماذا نذهب بعيدًا.. فأبناء جيلي، والأجيال التي تسبقني، كان إذا جُرِحَ أصبعه مثلًا ينصحونه بـ«لعق» الدماء النازفة منه.. أو يُنصح بـ«التبول» على الجرح، بينما إذا شُجَّتْ رأسه مثلًا، فيُنصح بـ«كبس» الجرح بـ«البن»، أو يضع على الجرح «تراب أحمر ناعم» من تراب الفرن البلدي! إلى غير ذلك من الوصفات، التي- أعتقد- لو استخدمها بعضنا الآن فليس من المستبعد أن يصاب بتسمم، أو غرغرينا، وفي أحسن الأحوال، يكون مثارًا لسخرية المحيطين به!

وما يؤكد أن هذه الوصفات- التي يدعي أصحابها أنها «وصفات محمدية- نقلها النبي عن عادات قومه، أنها كانت موجودة قبل بعثة النبي. فالحجامة مثلًا تعود لعصر اليونان؛ إذ كان اليونانيون يعتقدون أن تخليص الجسم من الدم الزائد يحسن الصحة! وكان النبي نفسه يأمر باللجوء إلى الطبيب في حضرته. فقد روى مالك أن رجلًا في زمان رسول الله أصابه جرح، فاحتقن الجرح الدم، فدعا الرجل رجلين من بني أنمار، فقال لهما رسول الله: أيكما أطب؟ فقالا: أو في الطب خير يا رسول الله؟ فقال النبي: أنزل الدواء الذي أنزل الأدواء.

وفي رواية أخرى، دخل رسول الله على مريض يعوده فقال النبي: أرسلوا إلى طبيب. فقال قائل: وأنت تقول ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم، إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له دواء. فلو كان الطب ينزل على النبي، لعالج المرضى دون احتياج لأطباء غيره، إلا أنه أعلن أن العلاج ليس من اختصاصاته، وإنما هو اختصاص الطبيب. وقد عُرف عن عائشة تعلمها الطب، وحين سُئلت: ممن تعلمتِ الطب؟ قالت: إن رسول الله كان يسقم عند آخر عمره، وكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فتنعت له الأنعات، وكنت أعالجها له. فالنبي بُعث ليعلمنا الشرائع، ولم يُبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات.

الطب في عهد النبوة

قبل بعثة النبي، صلى الله عليه وسلم، كانت فئتان تمارسان الطب في الجزيرة العربية: الأولى: «العرافون» الذين يتكهنون بأسباب المرض وأسراره وعلاجه، والاستعانة بالنجوم والتعاويذ والرقى والسحر، وكان لكل قبيلة عرَّاف يرجع إليه أفراد القبيلة فيما يُصيبهم من أمراض وعلل وأحداث مختلفة، وكانوا يُنزلونه منزلة الكاهن من حيث الاحترام والتقدير. أما الفئة الثانية فتعتمد الأساس المادي في التطبيب، وتزاول العلاج بالكيِّ والبتر والفَصد والحجامة والحمية والعقاقير والأعشاب الطبية، وترفض الاستعانة بالجن والشياطين.

والنوع الثاني من الأطباء كان يُخالط أفراد القبيلة في حلّها وترحالها، وكانوا أثناء ذلك يراقبون ما يَحدث من حمل وولادة ومرض للإنسان والحيوان.. وقد علمتهم هذه الملازمة الكثير مما يتعلق بالصحة وخصائص الأعشاب، وشيئًا عن تشريح الحيوان وأماكن أعضاء الجسم ووظائف كل عضو وأثره في الصحة والبِنية، وازدادت مكانة هذه الفئة بمرور الزمن، واشتهر من حذق الصناعة حتى صار مضربًا للمثَل.. وفي هذا الزمان كانت تجرى عمليات جراحية، منها عملية «الـثقب»؛ أي: ثقب بلورة العين أو رفعها كليًّا في حالة إصابتها بالماء الأبيض «الكاتاراكت»، وعملية «الخزم» التي ابتكرتها العرب لمُداواة أنعامهم، ثم طبَّقوها على مرضاهم.

ومن أشهر الأطباء المخضرمين؛ الذين عاشوا في الجاهلية وأدركوا الإسلام: «ابن حذيم»، وكان ماهرًا في الطب، مضربًا للمثل. و«زهير بن جناب»، وكان سيد قومه، وشاعرهم، وطبيبهم. و«رباح بن عجلة» من اليمامة. و«الأبلق السعدي» من نجد. و«سعد الأسلمي» من يثرب، وكان خبيرًا بالتمريض التطبيقي. و«الحارث بن كعب»، قيل إنه شارك في مداواة عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قبل وفاته بالطعنة القاتلة. و«الحارث بن كلدة الثقفي» من الطائف، أشهر الأطباء العرب قبل الإسلام وفي عهد الخلفاء الراشدين، وأحدث ثورة علمية في الطب لدى العرب. و«يزيد بن عمر بن وعلة». و«أثير بن عمرو السكوني الكوفي»، وغيرهم.

ولم يقتصر الطب في صدر الإسلام على الرجال، ولكن زاولته النساء أيضًا وبرعنَ فيه نذكر منهنَّ: السيدة «عائشة بنت أبي بكر»- رضي الله عنها-: قال هشام بن عروة: ما رأيت أحدًا أعلم بالطب من عائشة، فقلتُ: يا خالة، ممن تعلمت الطب؟ قالت: كنتُ أسمع الناس يَبعث بعضهم لبعض فأحفظ، وعنه قال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين أعجب مِن بصرك بالطب! قالت: يا بن أختي، إن النبي لما طعَن في السن سقم، فوفَدت الوفود فسمعتُ. وفي رواية قالت: إن رسول الله كان رجلاً مسقامًا، وكان أطباء العرب يأتون فأتعلم منهم.. وفي هذا الحديث دليل على أن النبي كان يتطبب بطب عصره، ولم يكن له طب خاص به، وأنه لم يورث «طبًا نبويًا»

وبجانب السيدة عائشة، هناك نساء أخريات برعن في الطب، منهن: أسماء بنت عميس، زوجة أبي بكر الصديق. و«القابلة» سؤدة بنت مِسْرَح. والشفاء بنت عبدالله القرشية. ورفيدة بنت سعد الأسلمية.. إلى جانب عدد من «الآسيات»، أي الممرضات، منهن: نسيبة بنت كعب المازنية، واشتركت في غزوة بدر، ويُمكن اعتبارها أول ممرضة في الإسلام. وأميمة بنت قيس الغفارية، واشتركت في غزوة خيبر وعمرها 17 عاما، ولحسن بلائها، قلدها النبي قلادة تُشبِه الأوسمة الحربية حاليًا.

حكم العلاج بالقرآن

على موقعها الإلكتروني، أكدت دار الإفتاء أن الادعاء بأن القرآن «علاج»، وأن يمتهنه الشخص، (أي يتخذه مهنة يتكسب منها)، ويأتي إليه الناس بناء على ذلك؛ «لا يصح شرعًا». وبشأن حقيقة العلاج بالقران، قال الشيخ محمود شلبي، أمين الفتوى بدار الإفتاء، من أفضل ما يتقرب به الإنسان إلى ربه – عز وجل- هو قراءة القرآن. فإذا كان يشعر براحة نفسية عند قراءة سورة ما؛ يمكنه أن يداوم عليها؛ لأن الإنسان طبيب نفسه، مشيرا إلى أنه لا يوجد في الشرع ما يمنع من الأمر على هذه الصورة، مستندًا إلى قوله- تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}، لافتًا إلى أن المنهي عنه هو الإدعاء بأن هذا علاج وأن يجعل منه الشخص عمل يمتهنه ويأتي إليه الناس بناء على ذلك؛ فهذا مما لا يصح شرعًا.

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق