بنك الوقت هو الحل

الأحد، 21 نوفمبر 2021 10:00 ص
بنك الوقت هو الحل
حمدى عبد الحيم

سويسرا فتحت البنك كضمان اجتماعي للناس وكل راغب فى الاشتراك لديه حساب زمن يقضيه فى الخدمة الاجتماعية

 

كتب الراحل الكريم الدكتور جلال أمين رحمه الله في سيرته الذاتية فقرات بالغة العذوبة وفائقة الأهمية في النظر إلى "الوقت" من حيث هو زمن سنعيشه مرة واحدة ولن يعود ثانية.

كان العلامة أحمد أمين والد الدكتور جلال من أولئك الذين يملؤون الدنيا ويشغلون الناس، ثم بلغ سن المعاش فغادر كل منصب ومكث في بيته ينتظر ساعة فراق الدنيا، كف هاتفه عن الرنين وقل عدد زواره، فوقع أسيرًا لوحدة خانقة، في تلك الأيام كان جلال وأخوته الكثر في شرخ شبابهم مشغلون بأنفسهم وبزمانهم وبوقتهم الخاص، ولذا لم يلتفت أحد منهم لمأساة والدهم العجوز الذي كان قبل قليل يملأ الدنيا ويشغل الناس.

يقول الدكتور جلال: كنت أعود من دار السينما إلى بيت أبي مسرعًا، متمنيًا قضاء وقت هادئ في غرفتي، كنت أمر بأبي قاعدًا على مقعده في صالة البيت، كان أبي يستوقفني ليسألني عن سهرتي، كنت أجيب بعجلة وبكلمات مقتضبة، كان يعود لسؤالي عن الفيلم الذي شاهدته وعن أبطاله وعن قصته، فأرد بكليمات سريعة ثم أتركه لأدخل إلى غرفتي!

عندما جاءت الحكمة شعر الدكتور جلال بذنب عظيم اقترفه تجاه والده الشيخ العجوز، الرجل لم يكن يريد تطفلًا على حياة ولده ولم يكن يريد حصاره والتضييق عليه، كان يريد بل يتمنى بعض الاهتمام وبعض المشاركة وبعض الاستئناس، ولكن أين تلك المعاني والمشاعر من شاب في شرخ شبابه؟!

ندم الدكتور جلال لأنه فهم حقيقة الموقف ولكن جاء زمن الفهم بعد رحيل الوالد الكريم.

قصة المسنين في مصر قصة موجعة، لا أتحدث عن العقوق ولكن أتحدث عن الرعاية الإنسانية التي يجب أن تتوفر لملايين، فقد أكدت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الصادرة في أوائل عامنا هذا 2021، أن عدد المسنين (60 سنة فأكثر) قد بلغ 6.8 مليون مسن بنسبة 6.7٪ من إجمالي السكان، ومن المتوقع ارتفاع هذه النسبة إلى 17.9 ٪ عام 2052.

الرقم ضخم وهو في طريقة للزيادة، والمأساة حارة وتحتاج إلى أفكار من خارج الصندوق، وقد وصلتني فكرة تأكدت من وصولها لملايين غيري، وظننتها من "هبدات" الجروبات المجهولة، ولكن بعد التعامل معها والنظر إليها من مختلف الزوايا قلت لنفسي: حتى لو كانت "هبدة" فما أحسنها وما أجملها، وليتنا نبني عليها.

تقول الرسالة الشائعة جدًا: "لاحظ طالب أجنبي يدرس في سويسرا ويسكن فى غرفة عند امرأة عمرها 67 سنة، كانت مدرسة قبل تقاعدها، وهي تتسلم راتب تقاعد مجزٍياً، لكنه رآها تذهب للعمل مرتين فى الأسبوع، وكان عملها هو رعاية المسنين، وكانت ترعى مسناً عمره 87 سنة.. أبدى الشاب إعجابه بما تفعل، وسألها إن كانت تعمل لكسب المال فقالت له إنها لا تعمل لأجل المال بل لتكسب الوقت، وأنها تودع لنفسها وقتاً فى بنك توفير الوقت أو بنك الزمن، وهي بعملها ذلك تودع الزمن لكى تستطيع الصرف منه عندما تحتاج له فى الشيخوخة.. أو عندما تصاب بحادث وتحتاج إلى من يساعدها".

يحكى الطالب أنها المرة الأولى التى يسمع فيها عن بنك الزمن أو بنك الوقت فسألها عن معلومات أكثر عن ذلك البنك، فقالت له: إن الحكومة السويسرية أنشأت ذلك البنك كضمان اجتماعي للناس، حيث يفتح كل راغب فى الاشتراك فيه حساب زمن بحيث يحسب له الزمن الذى يقضيه فى الخدمة الاجتماعية خصوصاً خدمة المسنين والمرضى الذين لا يوجد لديهم من يرعاهم أو يساعدهم من عائلاتهم، ويشترط على المشترك أن يكون سليماً صحياً وقادراً على العطاء والتواصل مع الآخرين والقدرة على التحمل، والرغبة فى تقديم الخدمات بنفس راضية وإخلاص، وعندما يحتاج الشخص المتبرع إلى مساعدة يرسل له البنك شخصاً متطوعاً من المساهمين فى البنك ليخدمه ويخصم الوقت من حسابه.. والخدمات التى يقدمها المتطوع إما تقدم للمحتاج فى المستشفى أو فى البيت كأن يرافق المحتاج للتسوق أو للتمشية أو لمساعدته فى تنظيف منزله.

في أحد الأيام احتاجت تلك المرأة للمساعدة عندما سقطت أثناء تنظيف نافذتها وكسر كاحل قدمها، واضطرت للبقاء في السرير عدة أيام.. أراد الطالب تقديم إجازة اضطرارية لمساعدتها، لكنها قالت له: إنها لا تحتاج لمساعدته لأنها تقدمت بطلب سحب من رصيدها في البنك وأنهم سيرسلون لها من يساعدها، وبالفعل جاء المساعد الذي عينه البنك، وكان يرعاها ويتحدث معها ويرافقها ويقضى لها بعض حاجياتها من السوق، وأرسل لها البنك ممرضة عندما احتاجت لذلك، وبعد أن تعافت من الكسر عادت للعمل مرتين في الأسبوع لتعويض ما خسرته من وقت في البنك.

بدأت أقرأ عن تلك الفكرة الأهلية تمامًا، فلا دخل للحكومات بها، إنها نشاط أهلي لا يكلف الميزانيات العامة شيئًا، وجدت تقارير منشورة في مواقع ذات حيثية مثل موقع دوتش فيلله الألماني الذي نشر تقريرًا صافيًا عن الفكرة في سياق الترويج لها والحث عليها، يقول ملخص التقرير: "بدأت تنتشر في أوروبا الغربية، وخاصة سويسرا ومن جديد في ألمانيا، واليابان ما تسمى "بنوك الوقت". تقوم تلك البنوك، والتي هي عبارة عن جمعيات مرخصة بشكل قانوني، بدور الوسيط بين الزبائن والعملاء لتبادل طيف واسع من الخدمات. العملة الأساسية هنا هي الوقت؛ إذ يتم حساب عدد الساعات التي يقضيها الزبون في تقديم خدمة لزبون آخر ويتقاضى عوضاً عنها عدد ساعات خدمة مماثلة من الزبون نفسه أو زبون ثالث، والخدمات التي يقدمها البنك متنوعة، فمنها خدمة مجالسة الأطفال والعناية بالمسنين، بل والاهتمام بنباتات البيوت والحدائق، إضافة إلى الإسعاف الفوري في حالة الكسور والحالات الصحية الطارئة.

تلك الفكرة التي تم تنفيذها في أكثر من دولة تشهد لأصحابها بالرقي الإنساني وبالتحضر، وأعتقد إننا أحوج ما يكون لفكرة كهذه ترفع الحرج عن الجميع ولا تكلف الدولة سوى عناء الإشراف.

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق