عبد الحليم قنديل يكتب : حزب للثورة اليتيمة

الأحد، 13 ديسمبر 2015 07:07 م
عبد الحليم قنديل يكتب : حزب للثورة اليتيمة
عبد الحليم قنديل

نعرف أن ثمة دعوات كثيرة لاستنساخ ثورة 25 يناير فى ذكراها الخامسة المقبلة ، وقد لا نكون فى حاجة لانتظار توالى الأيام إلى الموعد المضروب ، فلن تكون وقتها ثورة بل يحزنون ، بل ربما تنطوى هذه الدعوات بذاتها على مزيد من التمكين للثورة المضادة ، والسبب مفهوم ببساطة ، فأى وجود لجماعة الإخوان فى الدعوة لثورة جديدة ، تقلد الثورة الأصل ، أو تقلد 30 يونيو بالدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة ، لايعنى سوى الحكم عليها بالفشل المسبق ، فلم يكن الإخوان دعاة للثورة الأصلية ، ولم تكن جماعتهم ثورية فى أى وقت ، بل مجرد جماعة يمين محافظ ، تضيف رتوشا دينية باهتة على جوهر اختيارات اليمين الفلولى والليبرالى ، وهو ما ظهر جليا فى سيرة الثورة اليتيمة إلى الآن ، فقد التحق الإخوان بثورة 25 يناير 2011 ، ولم يكونوا أبدا من الداعين ولا المبادرين إليها ، وإنما وجدوها فرصة لركوب الموجة ، وبإغراء شعبية متضخمة طفحية ، توافرت لهم فى أربعين سنة من الانحطاط التاريخى فى مصر ، وظنوا أنها الفرصة المواتية للتمكين بالمعنى الدينى ، وبناء دولة على مقاس الجماعة ، بحكم البرلمان ثم بحكم الرئاسة ، والسعى لأخونة أجهزة وكوادر الدولة العميقة ، وكان حصاد التجربة القصيرة مؤلما وموحيا ، فقد راحت شعبية الإخوان تهبط بسرعة لافتة ، ونزلت معدلات التصويت لصالحهم ، من قرابة نصف المصوتين فى انتخابات البرلمان الأول بعد الثورة ، إلى قرابة ربع المصوتين بعدها بستة شهور فى الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة أواسط 2012 ، فقد حصل محمد مرسى فى الجولة الأولى على حوالى 24% من أصوات الناخبين ، وفاز مرشح الإخوان بالكاد فى انتخابات الإعادة ، وبدواعى خوف متعاظم وقتها من فوز أحمد شفيق مرشح الفلول ورجل مبارك المخلوع ، وجرى انتخاب مرسى على طريقة الاضطرار إلى "أكل الميتة ولحم الخنزير" كما كتبنا قبل انتخابه ، لكن مرسى خيب ظنون الآملين فيه من جماعة "عصر الليمون" ، وظل أسيرا لجماعته ومكتب إرشادها ، ونزلت شعبيته وشعبية جماعته بسرعة خاطفة ، وصار رئيسا معلقا بعد أقل من ستة شهور على بداية رئاسته ، وأكمل عامه الأول فى الرئاسة بالكاد ، وانتهت القصة على ما نعلم ، بفيضان شعبى هادر رافض فى 30 يونيو 2013 ، وجدت فيه الدولة فرصتها للخلاص من الإخوان ، وإنهاء حكمهم القرين ـ لا البديل ـ لحكم جماعة مبارك ، ولم تستوعب جماعة الإخوان الدرس ، ولا استوعبته قيادتها المتكلسة المتحجرة ، وراحت كعادتها القديمة ، تصور ما جرى كمحنة للإخوان الربانيين ، تواجهها بما تيسر من عنف وإرهاب و"دعشنة" ، وبطلب عون الخارج الذى ينفر منه الداخل المصرى ، ويؤدى إلى تفاقم ظاهرة عزل الإخوان شعبيا ، وهو ما يجعل دعواتهم للثورة مجددا خارج السياق ، لا يصدقها أحد يعتد به ، ولا الشعب مستعد لمسايرتها ، ولا التجاوب مع دعوات ثورية مزيفة ، لاتصلح عنوانا لغضب اجتماعى وسياسى تتراكم أماراته بالفعل فى مصر الآن .
وقد كانت جماعة الأخوان دائما صنوا لجماعة المخلوع مبارك ، كانت هذه الثنائية على السطح السياسى ، هى ما حكم إيقاع الحوادث فى سنوات مبارك وما بعدها إلى الآن ، كانت جماعة مبارك على كرسى السلطة ، وكانت جماعة الإخوان على كرسى المجتمع ، كانت جماعة مبارك تمثل "اليمين الثروى" ، فيما تمثل جماعة الإخوان رأس حربة "اليمين الدينى" ، ولم يلجأ مبارك أبدا إلى تصفية جماعة الإخوان ، ولا إلى حرب متصلة معها ، بل لجأ إلى التعايش معها مع محاولة إضعافها والحد من طموحها ، وكان خلع مبارك هو الثمرة المباشرة لثورة 25 يناير ، ودون خلع النظام من جذوره ، وهو ما ساعد على تبادل الكراسى ، ومع الحفاظ على جوهر اختيارات النظام ، فقد وجدت جماعة الإخوان ـ فى صورتها التاريخية الثانية ـ مع تأسيس نظام الانقلاب على ثورة 1952 بعد حرب أكتوبر 1973 ، وكان السادات حفيا بجماعة الإخوان ، حريصا على فتح السبل أمامها ، وفى سياق انفتاح "السداح مداح" ، وإطلاق موجات النهب العام ، وهو ما أدى إلى تكون صورة مختلفة للإخوان فى طبعتهم الثانية ، وبعد أن كانت الطبعة الأولى فنيت شعبيا فى حرب الصدام مع ثورة جمال عبد الناصر ، كانت الصورة الجديدة مزيجا من دواعى البيزنس الظاهر والعنف الكامن ، وآل حكم جماعة الإخوان إلى المليارديرات الملتحين ، وإلى تصور "قطبى" نسبة إلى فكر المرحوم سيد قطب ، أزاح من طريق القيادة عناصر متفتحة مستنيرة كعبد المنعم أبو الفتوح وغيره ، وجعل حكم الجماعة حصرا بيد الذين يستعدون لعنف اللحظة الفاصلة ، وهو ما يفسر سلوك الإخوان بعد زوال حكمهم ، وتغليفهم للدعشنة الكامنة بستار كثيف من دخان الكلام عن الديمقراطية ، وتناست جماعة الإخوان أبلغ دروس التاريخ الوطنى المصرى ، بل لم تكن مؤهلة أصلا لاستيعاب الدرس ، وهو أن أى جماعة عنف مهما بلغ جبروتها وتمويلها ، لا تستطيع هزيمة الدولة المصرية ، بل أن هذه الدولة على مالحق بها من فساد وترهل ، تستفيد بالعنف القادم من خارجها ، وتوفر به مبررات ومسوغات لمضاعفة معدلات القمع العام ، وهو ما جرى ويجرى فى غير إبطاء ولا تردد ، وبما يجعل دعوة الإخوان لثورة عملا فى غير محل ، ليس له أن ينجح هذه المرة ، تماما كما لم ينجح فى عشرات الدعوات السابقة التى كان الإخوان طرفا فيها ، فهم يريدون استعادة الملك الضائع ، بينما لا أحد ـ خارج الجماعة ـ يريد إعادة الإخوان إلى الحكم ، وقد جربهم الشعب المصرى ، وانتهت قصتهم الدامية ، وما من محل لتصديق دعواهم بانتحال صفة ثورة 25 يناير ، فهذا ظلم فاحش بين للثورة اليتيمة ، ولا يفيد سوى الذين ينتحلون صفة 30 يونيو ، ويصورون الثورة الأم كمؤامرة إخوانية ، ويريدون جعل حاضر ومستقبل مصر نهبا لتقاسم دورى بين الإخوان والفلول ، وعلى الطريقة التى سيطر بها الفلول على البرلمان الجديد كما توقعنا بالضبط .
وربما لا يكون من خلاص ولا خروج من هذه الدائرة الجهنمية المفرغة ، ولا انتصار للثورة اليتيمة بغير إدراك علة النقص فى المشهد كله ، فليس المطلوب ابتذال الثورة باستنساخ باهت ، فنحن لا نشترى الثورات من الصيدليات ولا من السوبر ماركت ، ولا تذهب الشعوب إلى الثورات بمجرد الدعوة إليها ، ولا التقليد الأعمى لحوادث جرت فى الطريق إلى الثورة الأصلية ، فلم تقم الثورة بسبب حادث المغدور الشاب خالد سعيد ، ولا بسبب نشاط محموم بدعوات "الفيس بوك" ، لم تكن تدعو أبدا إلى إسقاط نظام مبارك ، بل إلى مجرد إقالة وزير الداخلية ، بينما كنا فى "كفاية" ـ وحدها ـ ندعو إلى ثورة خلع ونراهن عليها ، وكان بيان كفاية هو الوحيد الذى دعا عشية الثورة إلى خلع مبارك ، وكان عنوان البيان بالنص "خلع مبارك هو الحل" ، بينما كان الإخوان خارج الصورة تماما ، وكانت أقصى أمانيهم هى الدعوة لإعادة انتخاب البرلمان ، وكل ذلك ثابت وموثق تاريخيا بما فيه الكفاية ، وقد لا يكون هو موضوعنا الآن ، فالمقصود هنا شئ آخر مختلف ، وهو أن الثورات لا تستنسخ ، وأن ثورة 25 يناير 2011 قامت ردا على انحطاط تاريخى طويل الأمد ، كان الاستبداد فيه عرضا لمرض ، وكان رأس النظام قد وصل إلى حالة "التيبس الرمى" ، تماما كالميت الذى يموت قابضا يده ، فلا تكون من فرصة لفك ولا لفرد أصابع اليد المقبوضة ، ولا يكون من بديل سوى قطعها ، وهو ما لا يتوافر الآن فى الوضع المختلط القائم ، والذى تداعى فيه وزن قطب للثورة المضادة هو الإخوان ، بينما عاد القطب الآخر ـ الفلول ـ للسيطرة على البرلمان ، ليس بتزوير إجراءات التصويت هذه المرة ، بل بحملة شراء محمومة للمرشحين والناخبين ، وباستفادة من نظام الانتخاب الفردى ، والذى يشجع دواعى المال والبلطجة والعصبيات العائلية والطائفية ، وبنفوذ مكثف لمليارديرات المال الحرام و"رأسمالية المحاسيب" ، والذين ألفوا "أحزاب مقاولات" ، واستعانوا بسيطرتهم المتفشية على قنوات الإعلام الأكثر ذيوعا ، وبصلات وروابط جماعة البيزنس مع جماعة الأمن ، وفى ظل بيئة منزوعة السياسة بالجملة ، تصرف فيها الشعب المصرى على طريقة الوعى الغريزى ، وأعطى ظهره للقصة كلها ، وقاطع ثلاثة أرباع الناخبين العملية برمتها ، وفى عصيان مدنى تلقائى فريد على طريقة "خليك فى البيت" ، بدا الغضب صامتا من عودة الفلول المتبجحة ، وربما يتحول الغضب الصامت إلى غضب ناطق ، تغلب عليه مظاهر الغضب الاجتماعى فى صورة إضرابات واعتصامات واحتجاجات من الفقراء والطبقات الوسطى ، وهم يشكلون قرابة التسعين بالمئة من الشعب المصرى ، يملكون بؤسهم وغضبهم المفرق دون سلاح سياسى جامع ، فلا تزال قضية الثورة عاجزة عن التقدم ، وبسبب غياب حزبها الوطنى الثورى الجامع ، وهو ما قد يصح أن يلتفت إليه الثوريون حقا ، بدلا من الجرى وراء أوهام استنساخ الثورات ، فالفجوة لا تزال مخيفة ومتسعة بين الثورة والسياسة ، وتمكين الثورة من السلطة يوجب ـ قبل وبعد كل شئ ـ بناء حزب الفقراء والطبقات الوسطى ، بناء حزب للثورة اليتيمة ، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون .
[email protected]

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق