«اللانظام» الذى يحكم مصر

الثلاثاء، 29 ديسمبر 2015 06:26 م
«اللانظام» الذى يحكم مصر
عبد الحليم قنديل

نعم، الخطر الأول فى أحوال المتاهة التى تبدو عليها السلطة والنظام، وليس فى الإرهاب المهزوم لا محالة، ولا فى مناهضة جماعات اليمين الدينى، التى تهلكها انشقاقاتها الداخلية، و"دعشنة" شبابها، وإدمانها الارتباط بدعم الخارج المتداعى الأثر فى الداخل المصرى.

تأمل ـ من فضلك ـ صورة السلطة الراهنة فى مصر، فهى فى حال من الفوضى، وزحام الأصوات، واختلاف النيات، وتصادم الطرق، وبما يشبه الاختلاط المألوف فى "محطة مصر"، وهى محطة السكك الحديدية الرئيسية فى القاهرة، وحيث يبدو اللقاء على غير موعد، والزحام كثيفا، والبشر من كل صنف ولون، فيهم من يحمل تذكرة سفره، وآخرون من "المزوغين"، والحقائب متفاوتة الأحجام ، واللصوص يتلصصون، ويتلمسون الفرص المتاحة للسرقة و"النشل"، والوجهات متضاربة فى النهاية، فمنهم من يزمع السفر إلى الإسكندرية، وآخرون يقصدون "أسوان"، وهذا ما تبدو عليه أحوال السلطة، فهى أقرب إلى "السلطة" بفتح السين واللام، لا يبدو الذى أعدها محترفا، ولا ذواقة للطعم وأقدار الملح، بل لا يبدو لها من معد ولا طباخ أصلا، فهى أقرب إلى مسلسل تائه، يكتب نفسه بنفسه، ولا يجلب عند المشاهدين سوى الحيرة والارتباك، والضحك الساخر أحيانا، والضيق النافر فى مطلق الأحوال.

إنها السلطة المبعثرة بأشلائها على "محطة مصر" ، تكاد لا تعرف لها هوية محددة ، فهى عديمة التجانس ومتناقضة داخليا، يضرب بعضها بعضا، ولا يبدو الرئيس فيها كقوة قابضة، ولا كرأس متحكمة فى حركة الأعضاء والأطراف، بل كطرف أقوى من غيره، بسبب شعبيته الظاهرة ، ودواعى الأمل التى تبقت فيه، وخط المشروعات الكبرى الذى يقوده ، ويستند فى سرعة وكفاءة إنجازه إلى قوة وإنضباط الجيش ، بينما تبدو الحكومة والبرلمان فى مكان آخر ، ويبدو جهاز الدولة الإدارى شبيها بالخرابة، وتبدو الأجهزة الأمنية متضاربة فى مصالحها وتقديراتها على مكتب الرئيس، بينما يبدو الرئيس ـ مع قوة الجيش.

وحيدا ، فبرغم مضى أكثر من سنة ونصف السنة على رئاسته الرسمية، لا تزال أحوال التناقض تتوالى بآثارها الفادحة، لايزال الرئيس الجديد يحكم بالنظام القديم ذاته، وهو ما يدفعه لمحاولة تضييق الفجوة، وإجراء تغييرات متوالية سريعة فى الحكومات وقيادات أجهزة الأمن، وإعلان الحرب على الفساد أحيانا، وفى ضربات متناثرة لا تؤتى أكلها المطلوب، فالفساد فى مصر أكبر من أن يكون ظواهر انحراف متفرقة، الفساد فى مصر مؤسسة عظمى، الفساد فى مصر نظام حكم وثقافة شائعة مهيمنة، قد تصيبها الضربات المتناثرة بجروح ورضوض، لكنها لا تهد حيلها، ولا تأخذ من عافيتها، ولا تمنع إعادة تمددها وتوحش أنيابها من جديد ، فالمصالح المحمية بالفساد تملك الحكم و"ختم النسر"، ولسنا بصدد "فلول" على حد التعبير السيار، بل بصدد "أصول" مسيطرة فى بنية الحكم، لم تتأثر بالثورة وموجاتها المتلاحقة، بل تعاملت مع الثورة كأزمة عابرة ، فالثورة لم تصل إلى السلطة فى أى وقت عبر خمس سنوات خلت، وظل تأثيرها محصورا فى وعى الشارع، والذى يتسم بيقظة غير مسبوقة، وبحالة ميل تلقائى إلى السخط والغضب ونفاد الصبر، وهو ما يدفع الرئيس فى غير مرة إلى الإعلان عن رغبته فى ترك الحكم طوعا ، ويضع شرطا هو توافر إرادة المصريين، وعلى نحو ما قال فى خطاب الاحتفال الأخير بالمولد النبوى الشريف، فالرجل يستشعر ضيق الناس ، وتصل إليه رسائلهم ، لكنها تصل فيما يبدو على نحو مشوش ، فليس من رغبة متوافرة عند غالب المصريين فى خلع الرئيس السيسى، وإن كانت الرغبة متوافرة فى خلع النظام الذى يحكم به، وهو ما يفسر موجة الغضب والإضرابات الاجتماعية الزاحفة، ويفسرميل المصريين قبلها إلى المقاطعة الواسعة لانتخابات البرلمان الأخيرة، والتى كانت بمثابة عصيان مدنى تلقائى على طريقة "خليك فى البيت"، وعكست غضبا صامتا، يبدأ فى التحول الآن إلى غضب اجتماعى ناطق ، فقد ضاقت الصدور بالحكم العائد للنظام القديم، وبأصوله التى تسمى فلولا، والمكونة من ثلاثة موارد لا تخطئها العين الفاحصة، وفى تحالف مرئى بين البيروقراطية الفاسدة، وعائلات الريف والصعيد المرتبطة تقليديا بالبيروقراطية الأمنية، وبقيادة "رأسمالية المحاسيب" التى تحكم الإعلام والاقتصاد.

وقد تردد الرئيس طويلا فى بناء نظام جديد يخصه، ومال إلى الحذر خشية مما يتصوره انهيارا للدولة ، وقع أسيرا لهذا التصور الخاطئ ، ولوضع قضية مواجهة الإرهاب فوق ما عداها، ولا أحد يستطيع التقليل من أهمية معركة هزيمة الإرهاب وجماعاته، لكن الإرهاب يظل الخطر الأصغر شأنا، ولا يقارن إلى خطر الفساد الذى ينخر فى بدن الدولة، ويعبر عن "مصالح تتصالح" فوق جثة البلد، وعلى نحو ما ظهر فى "المينى برلمان" الجديد الذى انتخبه "مينى شعب"، وبعملية شراء مباشر للمرشحين والناخبين، وحجز الأغلب الساحق من مقاعد البرلمان للقلة المتحكمة، والتى نسميها فلولا، بينما هى الأصول الراسخة فى الوضع الراهن، وفى بيئة قمع عام بدعوى محاربة الإرهاب، تميت حيوية السياسة، وتحل دواعى "المقاولة" محل معنى "السياسة"، وتتنافس فيها جماعات البيزنس من رأسمالية المحاسيب، وبتناغم محسوس مع جماعات الأمن المتضاربة، والتى يكيد بعضها لبعض، وهو ما يؤدى إلى تفاقم أحوال الفوضى وتكاثر الفضائح والانفلاتات، وتحويل القصة كلها إلى "سيرك منصوب"، وافتعال "أحزاب مقاولات" أشبه بأفلام سينما المقاولات، وفى إيهام بدائى مصطنع بوجود خلافات سياسية، وإقامة ائتلافات صورية تقوم لتنفض، بينما لا فروق جوهرية ولا شبه جوهرية، بل هو التنافس لا التناقض، والسباق المحموم على شراء "النواب الجائلين" بعد شراء أصوات الناخبين، ومع استخدام الأسلحة المتاحة، فبينما تملك "جماعات البيزنس" إغراءات المال، تملك جماعات الأمن نفوذ الزجر والردع، وهو ما يفسر هذا التوحد الظاهر فى الطبيعة الجوهرية، واضطرار "البيزنس" الفاسد لإحناء الرأس حفظا للمصالح ، فقد جرى اختيار ضابط أمن سابق رئيسا للهيئة البرلمانية فى حزب نجيب ساويرس عميد "رأسمالية المحاسيب"، بينما يحكم ضابط أمن سابق ـ أيضا ـ فى الجانب الآخر الموالى تقليديا لأجهزة الأمن، والمكون أساسا من "المستقلين" نواب العائلات مع أحزاب أمنية صريحة، ودون امكانية لضبط التصرفات والنزوات، ولا افتعال مظهر موحد، فكما يوجد التنافس بين مليارديرات البيزنس بأحزابهم وصحفهم وقنواتهم التليفزيونية، يوجد تنافس وتضارب محسوس بين أجهزة الأمن، كما يوجد التداخل الملموس بين قطاعات من جماعة الأمن وقطاعات من جماعة البيزنس، وهو ما يفسر اختلاط الصور، والفوضى الضاربة فيها، بالرغم أن الكل يدعى وصلا بالرئيس ودعما لسلطته، وهم فى الحقيقة يريدون حصار الرئيس، وتخويفه من المساس بمصالحهم المستقرة ، وإقناعه بأنه لا يستطيع حكم البلد بدونهم.

والمحصلة فيما نرى، أنه لا يوجد نظام ـ بالمعنى الكامل ـ يحكم مصر الآن، بل "اللا نظام" هو الذى يحكم عمليا ، وينتج الفوضى وتضارب القرارات ، ويثير الاضطرابات اليومية فى الصورة العامة، فتيار النظام القديم يمسك بمفاصل الجهاز الإدارى للدولة ، ويشكل الحكومات والبرلمان، ويتحكم فى الكثير من تقارير وسلوك جماعات أمنية، ويصور للرئيس أنه لا "استقرار" بدون العودة إلى ما يشبه صيغة "الحزب الوطنى" المنحل، وبدعوى ضمان "ظهير سياسى" للرئيس ، والتعامل مع قضية الثورة كمؤامرة على البلد، ومع دعوى "الاستقرار"، تأتى دعوى ضمان "الاستثمار"، والتى يرفع رايتها مليارديرات رأسمالية المحاسيب، والذين خلقوا لهم "ظهير سلطة" فى المينى برلمان الجديد، ويسعون للحفاظ على امتيازاتهم الموروثة، واستمرار "استعمار" البلد و"استحمار" أهله بدعوى صيانة حوافز الاستثمار، ولا يبالى هؤلاء بتطمينات الرئيس المتكررة، ولا بمناشداته، وهم فى حالة تربص دائمة بالرجل ، ولا يتوقفون عن تهريب الأموال بالمليارات، وحرق الاقتصاد بإشعال جنون الدولار، والاستحواذ والسيطرة على "البورصة" والمؤسسات المالية، ورفض تدخل الجيش فى الاقتصاد ومشروعات التنمية الكبرى، وهذا هو الأساس الموضوعى لحالة التربص والارتياب القائمة، فصحيح أن الرئيس لم يمس امتيازات "رأسمالية المحاسيب" الموروثة عن زمن المخلوع مبارك، ولا استرد الأموال الضائعة، ولا استعاد حق الدولة والشعب من الناهبين، لكنه ـ فى المقابل ـ لا يعطيهم فرصا جديدة يريدونها، ولا تذهب إلى جيوبهم العقود والصفقات الجديدة ، والتى تذهب غالبا إلى ما نسميه "رأسمالية الجيش"، التى تدير وتشرف على المشروعات الكبرى الإنشائية والصناعية والزراعية، والتى يعمل بها إلى الآن قرابة المليون ونصف المليون مهندس وفنى وعامل مدنى، ومئات من الشركات الحكومية والخاصة، وفى دولاب عمل غاية فى الانتظام والدقة والكفاءة، وبهوامش ربح محددة مقننة لشركاء القطاع الخاص، وهو ما لا يريح رأسمالية المحاسيب، التى تريد العودة لزمن النهب العام بلا ضابط ولا رابط، وتثير الفوضى فى الاقتصاد، كما الفوضى فى السياسة والإدارة والأمن، وتفاقم حالة "اللانظام" الذى يحكم مصر الآن ، وحتى إشعار آخر.

[email protected]

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق