للقمر وجوه

السبت، 14 مايو 2022 05:15 م
للقمر وجوه
حمدي عبد الرحيم

شاهدت الكثير من دراما المرأة المقهورة المضحية التي تقدم عمرها قربًا على مذبح الأسرة لكن في الحقيقة عايشت يناقض تلك الصورة.
 
الدراما ليست نقلًا بالمسطرة من الواقع، وليست رسمًا بالكربون من الحياة، الدراما فوق الواقع وتحته وعن يمينه وعن شماله ومن أمامه ومن خلفه، كل هذه البديهيات ليس من اللائق طرحها للنقاش أصلًا.
 
نعرف المرأة أولًا ثم تأتي بقية الموجودات، لأن المرأة ببساطة هي أمنا، ألا يعرف الرجل منا أمه ويحبها ويحن إليها ويضع نعلها فوق رأسه وقلبه؟
لكن أكل النساء سواء، أكل النساء مضحيات متفانيات أمهات حبيبات شقيقات صديقات؟
 
الدراما البائسة التعسة هي التي تنظر بعين واحدة، وهي التي لا ترى إلا أحد وجهي القمر تراه نيرًا أو مظلمًا.
 
الدراما الحقيقية وليست المزورة هي التي تعرف أن في التنميط مقتلها فتهرب منه لتقدم الوجوه المتعددة بل والمتناقضة للقمر.
 
شاهدت الكثير بل الكثير جدًا من دراما المرأة المقهورة المضحية التي تقدم عمرها قربًا على مذبح الأسرة، ولكن في الحقيقة شاهدت بل عايشت بل اكتويت بما يناقض تلك الصورة، وما عايشته لم يجرؤ واحد على تقديمه، خوفًا من كسر صورة يراد لها الثبات والرسوخ، صورة المرأة المقهورة التي يسحقها الرجل القاهر، وكأن كل الرجال سواء وكأن كل النساء سواء.
 
كان فلانَا صديقي الصدوق، عرفته مبتسمًا محبًا للحياة يردد دائمًا: «إن الحياة قصيرة»، يغضب كما يغضب الناس، ولكنه سرعان ما يعود إلى هدوئه ثم يوبخ نفسه قائلًا: «إن الحياة قصيرة»، فيبادر بتقديم الاعتذار للذي أغضبه، لأن الحياة كلها لا تستحق تعكير الدم أو المزاج بالغضب!
 
ثم قدمني صديقي إلى السيدة زوجته فتأكدت من صحة مقولة «وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة»، فقد كانت مثله، نظيفة لامعة مبتسمة هامسة، مولعة بالحياة.
أصبح بيتهما ملاذي الآمن ورئتي الثالثة وقلبي الثاني، بيتهما هو بيت سقفه من محبة وأرضه من تراحم أصيل نادر.
 
ظننت أنني أصبحت أعرف عن صاحبي وزوجه كل شيء، فاتخذتهما مثالًا للرحمة والمودة، ثم جاء يوم وكانت قد مضت على صداقتنا سنوات لم يعكر شيء من صفوها، رأيت صاحبي مختنقًا وقد تحولت بشرته ناصعة البياض إلى اللون البني المحترق، كان صاحبي يعاني ما أهو أخطر من سكرات الموت، بالجملة لم يكن هذا هو صاحبي الذي ظننت لسنوات أني أعرفه كمعرفتي ببطن يدي.
 
قبضت على ذراعه بكل قوتي ورحت أجرجره لكي نذهب إلى مكان كان يحبه.
 
جلسنا في مكانه المفضل فلطم وجهه بكفيه لطمات سريعة عنيفة قوية، ثم تفجرت دموعه، تركته لبكائه حتى جفت هدأ، ثم سألته.
 
فقال: كل ما تعرفه عني هو زائف ومزور، وأنا في حقيقتي مجرم قاتل، لقد شاركت في قتل أبي، نعم أبي الذي أنا من صلبه.
 
كان أبي رجلًا متعلمًا رقيق الحال، وكانت أمي سيدة قوية يهابها الجميع، حتى ظننت أن الموت نفسه سيهابها، وكان لي شقيقان، رجل وفتاة، ثقلت مطالب حياتنا على أبي، فغادر العاصمة للعمل في محافظة نائية لكي يزيد راتبه جنيهات، يقدمها لنا لنعيش حياة كريمة لا تعرف العوز ولا الحاجة ولا الفقر، كان أبي يمكث في المحافظة النائية ستة وعشرين يومًا ويعود ليبقى معنا أربعة أيام، في أيام غياب أبي، تكون أمي متألقة ضاحكة سعيدة قوية، وما أن يطل أبي عائدًا من غربته، حتى تجتمع أمراض الدنيا والأخرة على أمي، السيدة القوية تبكي منهارة شاكية من ضيق التنفس، نحمل أمي لنطوف بها على الأطباء، بعد أن يغادر أبي إلى عمله بدقيقة واحدة تصحو أمي وكأن شيئًا لم يكن، تعود قوية ضاحكة متألقة!
 
مع تكرار تلك الأحداث سألنا أمي عن السبب، فتحدثت عن أبي كأنها السيدة مريم العذراء تتحدث عن إبليس الرجيم، لم تذكر أمي أبي بكلمة طيبة واحدة، لم تذكر عنه فعل خير مرة واحدة، كان أبي في عيني أمي وقلبها سواد في سواد في سواء.
 
كنت وأخوتي في مرحلة الصبا، لا نعرف غير ما نسمع ولا نمتلك القدرة على التحليل والفك والتركيب وموازنة الأمر.
 
لقد سقتنا أمنا سم كره والدنا قطرة قطرة، أصبحنا نرأه الشيطان الرجيم المخادع اللئيم يظهر العطف ويضمر الحقد.
 
لأنه المسئول الأول والأخير والوحيد عن أمراض أمنا.
 
لقد شحنتنا السيدة القوية بكل مشاعر المقت والبغضاء والعداء لأبي، أرى الآن عينيه وهما ترجواني أن أرفق به وأفهم سر الحكاية، ولكن هيهيات هيهات لقد مضى كل شيء نحو هدفه الحقيقي وهو تدمير أبي، لقد دمرناه تدميرًا بكراهيتنا الصامتة له.
 
عشت كل عمري لا أعرف لي صديقة أو حبيبة سوى أمي المسكينة التي يمرضها وجه زوجها!
 
لم نفرح بهدية أو مال قدمه أبي لنا، إنه مجرد بنك من حقنا عليه أن ينفق علينا، وهذه هى كل مكانته عندنا.
 
ظل الأمر كما هو عليه حتى حصلت على شهادتي الجامعية، وبدأت العمل، وفي سنة عملي الأولى ترك أبي العمل لوصوله إلى سن المعاش، لقد أصبح متفرغًا لنا، حاول الرجل جذبنا إليه ولكن كنا مثل الصخور الصماء التي لا تنبت شيئًا، ولكي تكتمل الكارثة فقد مرض أبي لشهر كامل، وكان مرضه في الشهر الثاني من خروجه إلى المعاش، وليلة موته جمعنا نحن أولاده الثلاثة حول سريره ونظر إلينا نظرة حزن وقال جملة واحدة: «ستعرفون وستدفعون الثمن».
 
ثم فاضت روحه، ثم عرفنا حقيقة أمي وعرفنا وجهها المظلم، وها نحن ندفع الثمن، لقد عرفنا أن أبي كان خير أب وأكرم رجل وعرفنا أن أمي كانت وكانت وكانت، غفر الله لها، وأنا الآن أمثل الابتسام والفرح والشغف بالحياة ولكن تأتي ذكرى من بعيد فتهدم كل شيء، حياتي رخيصة تافهة، فأنا لا أعيشها إلا ممثلًا وقامعًا لذكريات جريمتي في حق أكرم الرجال وخير الآباء.
 
هونت على صاحبي قدر ما استطعت ثم بدأت البحث في الدراما عن وجوه القمر المتعددة فلم أقع على شيء منها.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة