أسرة عظيمة منسية «2-1»

السبت، 24 سبتمبر 2022 05:34 م
أسرة عظيمة منسية «2-1»
حمدي عبد الرحيم

ما يحيرني أن أسرة "عكرمة" تتمتع بكل تلك العظمة أهملنا أمرها فلا نتذكرها إلا تذكرًا عابرًا


نعرف أبا جهل، واسمه، عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرَّة بن كعب بن لؤي القرشي المخزوميّ.

ونعرف أنه طعن مسلمة في موضع عفتها فقتلها، ومن أجل فعلته الشنيعة استحق أن يصبح أبًا للجهل، ونعرف أنه كان عدوًا لله ولرسوله وقاتل على كفره حتى قتل يوم بدر الكبرى.

رجل بهذه الصفات لن يقدم لنا سوى نسخة منه.

تمهل فأنت هكذا لا تقر بأن الأيام دول، ولا تعترف بأن الفاجر قد يخرج من صلبه الصالح التقي.

ولد لأبي جهل ولد نعرفه باسم عكرمة، فكان في أول حياته مثل والده، لا يكره شيئًا كما يكره الإسلام، وكان متعلمًا وفارسًا لا يشق له غبار، وقد زاده الله بسطة في الجسم والقوة والوسامة.

حارب المسلمين في بدر، ورأى أباه قتيلًا، ثم حاربهم في غزوة أحد وكان قائد مسيرة قريش، ثم حاربهم في الخندق، وتجرأ على اقتحام الخندق بفرسه، اختصارًا لم تلح له فرصة للنيل من الإسلام ورسوله، إلا وانتهزها.

ظل عكرمة يعيد سيره والده حتى جاءت لحظة فتح مكة المكرمة، فأهدر الرسول دمه، مع عدد جد قليل من الذين مضوا في شوط العداوة حتى منتهاه.

خاف عكرمة فقرر الهروب إلى اليمن، بعيدًا عن جيش المسلمين.

كانت زوجته السيدة أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة من بني مخزوم، وهى بنت عمه من جهة وبنت شقيقة سيدنا خالد بن الوليد من جهة ثانية، وكان لها من اسمها نصيب، فقد أدركت أن زمن كفر قريش قد ولى إلى الأبد، فبعد إسلامها طلبت من الرسول الأمان لزوجها فتركم الرسول وقبل طلبها.

فأخذت معها غلام لها رومي، لكي تلحق بزوجها فتخبره بالأمان الذي حصلت عليه من فم الرسول، في الطريق تجرأ الغلام التعيس وراودها عن نفسها فجعلت تمنيه حتى قدمت على حي من عك، فاستغاثتهم عليه فأوثقوه رباطا.

يجدر بنا أن نتوقف عند حال عكرمة قبل وصول زوجته إليه.

فعن مصعب بن سعد عن أبيه يقول: وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة: أخلصوا فان آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا، فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص، ما ينجيني في البر غيره، اللهم إن لك عليَّ عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه آتي محمدا فأضع يدي في يده، فلأجدنه عفوا كريما، قال: فجاء فأسلم".

أما عبد الله بن الزبير فيقول عن  قصة إسلام عكرمة: "انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة فركب البحر، فجعل ملاح السفينة يقول له: أخلص!.

فقال عكرمة: أي شيء أقول؟
 قال الملاح: قل لا إله إلا الله.
 قال عكرمة: ما هربت إلا من هذا.

 فجاءت أم حكيم على هذا الكلام، فجعلت تلح عليه وتقول: يا ابن عم جئتك من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس، لا تهلك نفسك.. فوقف لها حتى أدركته فقالت: إني قد استأمنت لك محمدا رسول الله. قال: أنت فعلت؟

قالت: نعم، أنا كلمته فأمنك فرجع معها".

وهناك روايات تقول: إن أم حكيم قد أخبرته بخبر الغلام الرومي، فقام عكرمة بقتل الغلام.

نعود إلى رواية عبد الله بن الزبير فنجده يقول: "جعل عكرمة يطلب امرأته يجامعها، فتأبى عليه وتقول: إنك كافر وأنا مسلمة، فيقول: إن أمرا منعك مني لأمر كبير".

ثم ذهب عكرمة إلى الرسول فوقف بين يديه وزوجته منتقبة، فقال: يا محمد إن هذه أخبرتني أنك أمنتني.

فقال رسول الله: "صدقت، فأنت آمن".

فقال عكرمة: فإلى ما تدعو يا محمد؟

قال: "أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتفعل، وتفعل".

فقال عكرمة: والله ما دعوتَ إلا إلى الحق وأمرٍ حسن جميل، قد كنتَ والله فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثا وأبرنا برا.

ثم قال عكرمة: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

ثم قال: يا رسول الله علمني خير شيء أقوله، قال: "تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله"
قال عكرمة: ثم ماذا؟

فقال رسول الله: "لا تسألني اليوم شيئا أعطيه أحدا إلا أعطيتكه"

فقال عكرمة: فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها، أو مسير وضعت فيه، أو مقام لقيتك فيه، أو كلام قلته في وجهك أو وأنت غائب عنه.

فقال رسول الله: "اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها، وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد بذلك المسير إطفاء نورك، فاغفر له ما نال مني من عرض في وجهي أو أنا غائب عنه".

فقال عكرمة: "رضيت يا رسول الله، لا أدع نفقة كنت أنفقها في صدٍ عن سبيل الله إلا أنفقتُ ضعفها في سبيل الله، ولا قتالا كنت أقاتل في صد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله".

عهد عكرمة لم يكن كلامًا كغيره بل كان عهدًا وميثاقًا ألزم نفسه به، فقد كان يضع المصحف الشريف فوق عينيه ويقول " كلام ربي، كلام ربي".

ولأنه كان فارسًا وقائدًا فقد ولاه الصديق قيادة سرية عسكرية، ثم برز نجمه وهو يقاتل أعظم قوات عسكرية في زمانه وهى قوات الروم فشارك في معركتي أجادين ثم في معركة اليرموك التي سجلت انكسار الروم انكسارًا لم تقع لهم بعده قائمة.

في يوم اليرموك كان عكرمة يتقدم الصفوف فقال له قائد الجيش خالد بن الوليد: لا تفعل يا بن العم فإن قتــلك سيكون على المسلمين شديد.

فرد عكرمة قائلًا: تنحى عنى يا خالد جاهــدت بنفسي ضد رسول الله، أفأستبقيها الآن عن الله ورسوله.

ثم نادى في المسلمين: من يبايع على المــوت؟

فبايعه عمه الحارث بن هشام بن المغيرة وضرار بن الأزور في أربعمائة من المسلمين، فقاتــلوا أشد القتـال

أصيب عكرمة والحارث بن هشام في اليرموك، فأوتي لخالد بعكرمة جريــحًا فوضع رأسه على فخذه فجعل يمسح على وجهه ويقطر الماء في حلقه.

فدعا الحارث بماء ليشربه، فلما قدم له، نظر إليه عكرمة، فقال: ادفعوه إليه ثم قضى نحبه.

وقد وجد المسلمون في جسد عكرمة بضعًا وسبعين، من بين ضربة وطعــنة ورمية، وهكذا قد برّ عكرمة بما قطعه للرسول من عهد.

ما يحيرني أن أسرة تتمتع بكل تلك العظمة، قد أهملنا أمرها، فلا نتذكرها إلا تذكرًا عابرًا.

الأسبوع المقبل نكمل مع السيدة أم حكيم.


 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة