فلنستعد للربع الرابع

السبت، 11 مارس 2023 11:00 م
فلنستعد للربع الرابع
حمدي عبد الرحيم

قال الأستاذ نجيب محفوظ في ثلاثيته الخالدة: " كانت مريم وردة، وكانت عائشة وردة، ولكن الزمن عدو لدود للورود".. "نجيب محفوظ- السكرية".
 
قال محفوظ جملته ليضع أيدينا على تلاعب الأيام والسنون ببني البشر.
 
الخلود والكمال لله وحده لا شريك له، والفناء والنقصان هما سنة الله في خلقه، وكلنا إلى زوال وكلنا ناقص لا يعرف الكمال ولا التمام، ولكنها الأيام إذ تقبل فيظن الإنسان أنه قد لجأ إلى جبل يعصمه من الماء ومن الغرق ومن الفقر ومن المرض، ولكن هيهات فلا عاصم من أمر الله.
 
مولانا الخالق، خالق كل شيء ورب كل شيء قرر لنا مصير حياتنا قبل أن نغادر بطون أمهاتنا فقال: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ".
 
نعم عليم قدير ولذا يرشدنا إلى الربع الأخير، ربع الشيب، ربع الوهن والضعف والاستعانة بالغير، إنه الربع الأخطر في حياة الإنسان وطوبى للذي يعرف كيف يتعامل مع ربعه الأخير.
 
وقد عثرت على مقال طيب للغاية لعالم الاجتماع السويدي بير يوهانسون، يتحدث فيه عن الوقت، الذي هو عمرنا وكيف بدأ ويكيف يتسرب قطرة فقطرة من بين أصابعنا.
 
يقول يوهانسون: "بالأمس فقط كنت صغيراً وأبدأ حياتي الجديدة، لكن بطريقة ما بدا الأمر وكأنه منذ دهور، وأتساءل أين ذهبت كل تلك السنوات؟
 
أعلم أنني عشتها كلها دون نقص، لدي لمحات عن كيف كنت في ذلك الوقت ولمحات عن آمالي وأحلامي فيها، ولكن فجأة اكتشفت أني أعيش الربع الأخير من حياتي وقد أدهشني ذلك الاكتشاف".
 
مَنْ منا لا يدهشه اكتشاف سرقة عمره؟
 
ثم هل حقًا سُرقتْ أعمارنا؟
 
الحق أنها لم تُسرق وما كان لها أن تسرق، لقد عشناها ثانية فثانية ولحظة فلحظة، ولكنها الغفلة، وعندما يُكشف عنا غطاء الغرور ووهم الكمال نصرخ: لقد سرقوا أعمارنا.
 
يتقدم يوهانسون خطوة في طريقه لإزاحة أوهام الكمال فيقول: " كم قابلت وعرفت من كبار السن طوال حياتي، وكم اعتقدت أن الشيخوخة التي اتصفوا بها بعيدة عني، ذلك حين كنت في الربع الأول من رحلة العمر، وكان الربع الرابع بعيدًا عني لدرجة أنني لم أتمكن من تخيّل كيف يمكن أن يكون حين أبلغه".
 
ولأن الدكتور يوهانسون رجل بصير فقد أدرك أن الأرباع الثلاثة الأولى غير الربع الرابع والأخير، لقد ذهب كل شيء متعلق بزمن الشباب والفتوة، ذهب الذهاب النهائي الأبدي، ذهب ولن يعود.
 
تمني الأماني لم يعد مفيدًا والتمسك بالتصابي أصبح بدون معنى، ليس لنا في الربع الأخير سوى احترامه والعمل وفق آلياته، واكتشاف منابع جديدة لحياة تبدو جديدة.
 
يقول يوهانسون: "اليوم أصبحت أرى أن مجرد الاستحمام هو هدف حقيقي ليومي، والقيلولة لم تعد اختيارية بعد الآن إنها إلزامية، لأنني إن لم آخذ قيلولتي بمحض إرادتي فأني سأغفو حيث أجلس".
 
إن كل ما قاله العالم يوهانسون، هي أمور تجري تحت أعيينا وأنوفنا ولكننا لا نشعر بها ولا نلقي لها بالًا حتى تأتي لحظة الحقيقة، لحظة الاستعانة بالغير، وهي لحظة مقررة سلفًا وتنزل معنا من بطون أمهاتنا، فبعد الضعف قوة وبعد القوة ضعفًا وشيبة، فهل الاستسلام هو الحل؟
 
لا، وألف، لا، فعلينا أن نعمل ونأمل ونتحمس حتى يأتينا اليقين، الذي هو الموت، الحل في التواضع وفي الاستعداد للجزء الرابع، إنه نهاية الشوط وعلينا أن نتعامل معه تعامل أبطال الجري في سباقات المسافات الطويلة، إن تنظيمهم لجهدهم هو السبب الأول في بلوغه لخط النهاية متماسكين غير منهارين، وذلك لأن الإسراف في أي شيء، هو أمر ممقوت وسيدفع المسرف ثمن إسرافه.
 
وكم كان يوهانسون حكيمًا عندما ختم مقاله بقوله: "أخيراً.. وأظن ذلك هو خلاصة حكمتي في هذه الحياة.
 
نحن نعلم جيداً أننا لن نستطيع أن نضيف وقتاً إلى حياتنا، ولكننا يمكن أن نضيف حياة، إلى وقتنا".
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق