فليت الذي بيني وبينك عامر (5).. الإمام الجنيد البغدادي: "سيد الطائفة" قلب صوفي وعقل فقيه

الإثنين، 24 أبريل 2023 03:32 ص
فليت الذي بيني وبينك عامر (5).. الإمام الجنيد البغدادي: "سيد الطائفة" قلب صوفي وعقل فقيه

ما من أمنية أعظم من العمار، بينك وبين ربك، وبينك وبين المحبين، وبينك وبين ذلك الخل الوفي، وبين ذلك السارح الممسك بمسبحته، يستغفر ويحمد ويدعو الله، عساه يريح ذلك القلب المجهد والروح التائهة.

الشوق أحد منازل العمار، إن لم يكن جُله، والهيام، والشعر، والموسيقى أيضًا.. لن يهم أحد الوسيلة بل الأهم غايتك في الرحلة، وتجمل روحك وراحك، وتدرك بذلك ماهية الحب غير المشروط ، أن تحب، بلا توجس، وبلا انتظار، وبلا سبب، كل ما عليك أن تجود بالوصل، أو تدين بالحب، ولله در الإمام محي الدين بن عربي: "أدين بدين الحب أنَّى توجهتْ ركائبه.. فالحب ديني وإيماني".

ومما كتب في الوصل، ما قاله الإمام أبو الحسن التستري، أحد شعراء الأندلس: "كلما قلتُ بقربي تنطفي نيرانُ قلبي.. زادني الوصلُ لهيبًا هكذا حالْ المحبِ.. لا بوصلي أتسلى لا ولا بالهجر أنسى.. ليس للعشق دواءٌ فاحتسبْ عَقلا ونفسا.. إِنني أسلمتُ أمري في الهوى معنى وحسّا..  ما بقي إِلا التفاني حبذا في الحب نحبي".

ويريد أن يقول: "إنه لا يمكن للعارف أن يقول إنه وصل أو شَرِبَ وارتوى لأن الحب شُربٌ بلا ري، وهو تجلي إلهي على عباده الصالحين والعارفين ومن لم يذقه شرباً ما عرفه، لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها".

على مدار شهر رمضان الكريم، نطرق أبواب المحبين علنا نصل، وعلّ نيران الشوق تنطفئ، ولهيبها يُخمد، نجول في عقلوهم، ونخطو على مهل نحو العمار، ساعين في الوصال والحب والإمدادات الروحانية، نجول بتلك الرحلة مع العارفين، نتذوق معهم معنى العشق الإلهي، لنرى بعيونهم، ونشعر بوجدانهم، ما ذاقوا خلال رحلاتهم، وإن كانت مختلفة، فهي متشابهة للبحث عن الذات، عن روح الله التي بثها في نفوسنا.

الحلقة الخامسة

الإمام الجنيد البغدادي.. "سيد الطائفة" قلب صوفي وعقل فقيه
رائد مدرسة التصوف السني.. المُربِّي بفنون العلم.. المُؤيّد بعيون الحلم.. المُنوّر بخالص الإيقان..  ثابت الإيمان
 
في الطريق عليك ألا تحيد، وإياك والزلل، فزلة العالم الميل عن الحلال إلى الحرام، وزلة الزاهد الميل عن البقاء إلى الفناء، وزلة العارف الميل عن الكريم إلى الكرامة، وزلة المحب ربط المحبة بسبب، فإذا زال السبب زالت المحبة، وحاشا لله أن نكون منهم.
 
أتعجب كثيراً من هؤلاء الذي لا يستكثرون الحب، على من لا يملون منه، رغم مرارته التي ذاقوها، أولئك الذين يفتشون في السرائر، يبحثون عن هدف بداخل الحانية قلوبهم، يعتقدون أن كل شعور جميل وراءه هدف، لا يدرون أن تلك القلوب الحانية تنبض بما يسمى الحب للحياة، ولأجل ذلك فهم على نياتهم يرزقون.
 
الدعوة إلى نشر الحب على وجوه العباد لهو جل اليقين، فاجعلوا الحب سمة للتعامل، دون مسميات، جردوه من كل مشاعر زائلة، ومسميات تفرضها الحاجة، فلا أصدق من صديق الرحلة، ذلك الذي جمعك به القدر، كالمتصوفين يعشقون إلهًا لم يروه، والرهبان أحبوا العزلة وهي عليهم شاقة، انظروا إلى قلوبكم مرة كي تعرفوا أين أنتم من حياة العاشقين، فالوصل يحي غرامًا جف منبته.
 
هل سألت نفسك: ما الفرق بين المراقبة والحياء؟ وما معنى المشاهدة؟.. سأجيبك: بأن المراقبة انتظار الغائب، والحياء الخجل من الحاضر، والمشاهدة معاينة الشيء بوجود ذاته، وهذا كلام "أبو القاسم"، الجنيد بن محمد بن الجنيد البغدادي القواريري الخزاز.
 
 
أحد علماء أهل السنة والجماعة، وأعلام التصوف، جمع بين الحسنيين.. أصله من نهاوند، لكنه ولد وُلِدَ في نحو 221 من الهجرة، وتوفي في 297 هجرية ببغداد، فكني بـ"النهاوندي البغدادي"، توصل إلى أن "من عرف نفسه سهلت عليه العبودية"، و"من عرف الله، لا يُسَرُّ إلَّا به"، وأنه "لا يمكن الوصول لرعاية لحقوق، إلا عن طريق بحر القلوب".
 
قضى الجنيد حياته، بين صحبة العلماء، فدرس الفقه على أبي ثور، أحد تلامذة الإمام الشافعي، وصَحِبه أبو العباس بن سريج الفقيه الشافعي، واشتهر بصحبة خاله السري السقطي والحارث المحاسبي، يقول عنه كتاب (تاريخ بغداد، 7/242): سمع الجنيد: "الحديث عن الكثير من الشيوخ، وشاهد الصالحين وأهل المعرفة، ورُزِق من الذكاء وصواب الجوابات في فنون العلم ما لم يُر في زمانه مثله عند أحد من قرنائه، ولا ممن أرفع سنا منه، ممن كان ينسب منهم إلى العلم الباطن والعلم الظاهر، في عفاف وعزوف عن الدنيا وأبنائها".
 
جمع "سيد الطائفة" بين قلب الصوفي وعقل الفقيه، فكان على حال طيبة من العلم والعبادة والزهد، مستقيماً على طريقة السلف في الجملة، يعظم الكتاب والسنة، وينهى عن الإحداث والبدعة".. وفق (حلية الأولياء 10/274)، تضيف: "وهو المُربِّي بفنون العلم، المُؤيّد بعيون الحلم، المُنوّر بخالص الإيقان وثابت الإيمان، العالم بمُودع الكتاب، والعامل بحلم الخطاب، الموافق فيه للبيان والصواب.. كان كلامه بالنصوص مربوطاً، وبيانه بالأدلة مبسوطًا، فاق أشكاله بالبيان الشافي، واعتناقه للمنهج الكافي، ولزومه للعمل الوافي".
 
33-e1580079252671

مدرسة التصوف السني.. كلتا الحسنيين
لقد كان لـ "القواريري" – وهو لقب أخذه عن أبيه؛ لأنه كان يبيع الزجاج، بينما كان هو خزازا، والخزاز هو من يعمل بصناعة الملابس"- سمة في توجهه الشرعي، فاتسم بالسنيّة في المنحى، وبالأخلاق في المشرب، فنال القبول من الجميع في عصره، وساروا على دربه، فلم يكن بالشطط، ولا الخفيف المتكلف، رسخ علمه، وتمكن منه، فكان معتدلاً، ربط بين الحقيقة والشّريعة، أخذ علم الفقه والحديث عن طريق النقل عن إمام الشافعية "أبي ثور"، وأجازه الفتوى بحضرته وهو ابن عشرين عاماً. 
 
قالوا: "إن تقول: إن الحي ثلاثة: النفس، والخلق، والدنيا".. فقال: "هذه حجب العامة، أما حجب الخاصة فهي ثلاثة أيضًا: رؤية الطاعة، ورؤية الثواب، ورؤية الكرامة".. لم يبلغ الجنيد البغدادي الثلاثين من عمره، حتى صار مؤهلاً للتدريس والتعليم في حلقات العلم بالمساجد، يقول كتاب (وفيات الأعيان، 1/347) لابن خلكان، إن الجنيد تخوف من مسؤولية هذه الأمانة ولم يجد نفسه أهلا لذلك، "حتى رأى ليلة في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت ليلة جمعة، فقال له صلى الله عليه وسلم: تكلّم على الناس، فانتبه من نومه وأتى باب السري السقطي قبل أن يصبح. فقال له السري: "لم تُصدِّقنا حتى قيل لك. وكان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاسمًا، فقعد الجنيد في غد للناس بالجامع". 
 
 
وبحسب "من أعلام التصوف الإسلامي لعبد الباقي سرور، 2/123)، كان جلوس الجنيد رحمه الله في حلقة العلم بالمسجد، يعلّم ويفتي ويناقش ويدرّس سببا في تمكنه من إرساء دعائم العلم الصوفي السني – بعيدا عن الابتداع والشطط – وكانت مجالس الجنيد تعد بمثابة "جامعة بغداد الكبرى، وكان عشاق الأدب يحضرون مجالسه ليتزودوا بالمُضِئ من القول، والمُشرِق من البيان، ويحف به الفقهاء ينشدون لديه القول الفصل والحكم المبين، ويحيط به الفلاسفة ليتفقهوا دقائق الحكمة وأسرار النفوس والأكوان، ويلوذ به المتكلمون ليأخذوا عنه طرائق البحث وفنون الحديث، ويتبعه رجال التصوف، فهو النبع الذي يتدفق رحيقه من عرش الإيمان".
 
حين سئل الإمام الجنيد عن التصوف ما هو؟ فقال: "التصوف اجتناب كل خلق دني، واستعمال كل خلق سُنِّيّ، وأن تعمل لله ثم لا ترى أنك عملت"، تضيف سعاد الحكيم في كتاب (تاج العارفين – 151/ 152): "بذلك كان الإمام الجنيد رحمة الله عليه واحدا من أولئك الذين تركوا بصمات واضحة في الحقل الصوفي عبر أسلوبه الفريد وطريقته في التربية والتهذيب، فهو الذي نادى بالتمسك بالكتاب والسنة واتباع الشريعة في ميدان التصوف، وقال: "الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، ولزم طريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه". ورد عن الجنيد: "قالوا: من المريد؟ ومن المراد؟ فقال: المريد: تتولاه سياسة العلم، والمراد: تتولاه رعاية الحق سبحانه، لأن المريد يسير، والمراد يطير، فمتى يلحق السائر بالطائر؟".
 
والتصوف الإسلامي بمفهوم الجنيد هو: الالتزام التام بالشريعة الإسلامية من أجل الوصول إلى مقام الإحسان الذي هو لب الإيمان وروحه وكماله، فالسالك لطريق الله عز وجل لا يمكنه أن يتذوق حلاوة الإيمان إلا إذا أدى الفرائض على أكمل وجه، وواظب على السنن وصلاة الليل وكثرة الصيام والبكاء من خشية الله تعالى والابتعاد عن اللغو وكثرة القيل والقال والميل إلى السكوت والإكثار من ذكر الله عز وجل، وشكر النعمة، ومجاهدة نفسه وكثرة مراقبتها، وتطهير قلبه وعقله ونفسه من كل الرذائل الدنيوية. وقال أيضًا (الرسالة القشيرية – 431): "علمنا مضبوط بالكتاب والسنة، ومن لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدى به".
 
images (1)
 
لقد وُصف الجنيد بأنه أبو التصوف الإسلامي، وله رؤية متفردة يصفه فيها، حيث يقول: "التصوّف هو اجتناب كلّ خلقٍ دنيّ، واستعمال كل خلقِ سنّي، وأن تعمل لله ثم لا ترى أنك عملت". واشتُهٍرت مقولته التي تُعَد أساس مذهبه كما ورد في حلية الأولياء لأبي النعيم الأصفهاني: "علمُنا مضبوطٌ بالكتاب والسنّة، مَن لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ولم يتفقّه، لا يُقتدى به". 
 
 
وبحسب ما ورد في تاج العارفين: "الطرق كلّها مسدودة على الخلق، إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، ولزم طريقته، فإنّ طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه"، يقول الكاتب يوسف شرقاوي في مقال له بعنوان: "أبو القاسم الجنيد: أصل التصوّف المغربي": " التصوّف الإسلامي بمفهوم الجنيد هو الالتزام التام بالشريعة الإسلامية من أجل الوصول إلى مقام الإحسان الذي هو لب الإيمان وروحه وكماله. فالسالك لطريق الله عز وجل لا يمكنه أن يتذوق حلاوة الإيمان إلا إذا أدى الفرائض على أكمل وجه، وواظب على السنن وصلاة الليل وكثرة الصيام والبكاء من خشية الله تعالى والابتعاد عن اللغو وكثرة القيل والقال والميل إلى السكوت والإكثار من ذكر الله عز وجل، وشكر النعمة، ومجاهدة نفسه وكثرة مراقبتها، وتطهير قلبه وعقله ونفسه من كل الرذائل الدنيوية".
 
وبسبب هذا كلّه تبنّى أهل دولة المغرب طريقة الجنيد في التصوف، حيث غاية التصوّف الأولى هناك هي التحلي بـ "الأخلاق المحمدية"، حرصاً على "التسنن الكامل قولاً وفعلاً وحالاً بسيرة رسول الإسلام محمد".. يضيف: "لذلك اختار المغاربة في ممارستهم للتصوف المنحى السني الأخلاقي، والذي يرمز له بالإمام الجنيد، عوض الاتجاه الصوفي الآخر الذي عرف بالتجريد والتحدث في الحقائق، التي لا تدركها العقول".
 
ونقل عن الباحث المغربي في حركات التصوف الدكتور حسن جلاب، قوله: "تتجمع أسانيد الطرق الصوفية المغربية عند الجنيد لتتفرع بعد ذلك، إذ لا نكاد نجد طريقة لا تتصل بها إلا نادراً، وحتى في هذه الحالة غالباً ما تتوفر هذه الطريقة على سندٍ ثان يوصلها إلى الجنيد، وتفسر هذه الظاهرة بحرص الطرق الصوفية المغربية على أن تكون سائرة على نهج السنة المحمدية لشهرة الجنيد بذلك".
 

للجنيد كرامات وزهد وطريق
سئل الجنيد عن التوحيد، فقال: "معنى تضمحل فيه الرسوم، وتندرج فيه العلوم، ويكون الله تعالى كما لم يزل"، وعن اليقين فقال: "اليقين ألا تبتغي الرزق، وألا تحزن عليه، ويكفيك هذا. وهو الذي يشغلك بعلم يُلقى على عاتقك، وهو أن رزقك سيصلك يقينًا".. مع شدة نبوغ الجنيد العلمي اشتغل أبو القاسم الجنيد بالعبادة ولازمها ففتح الله عليه بسبب ذلك علومًا كثيرة حتى صار شيخ وقته، وفريد عصره في علم الأحوال والكلام على لسان الصوفية، وطريقة الوعظ.
 
 
وله أخبار مشهورة وكرامات مأثورة، فقد ذكر كبار المؤرخين والعلماء كالخطيب البغدادي وابن الجوزي والذهبي وغيرهم: أن ورده كان في كل يوم ثلاثمائة ركعة وثلاثين ألف تسبيحة، بحسب (البغدادي: تاريخ بغداد، 8/ 168)، و(ابن الجوزي: صفة الصفوة، 1/ 518)، و(الذهبي: تاريخ الإسلام، 6/924).
 
ولقد أقرّ الكثير من أهل العلم بمنهج الجنيد في التصوف السني، مثل الحافظ الذهبي رحمه الله الذي يقول عنه في كتاب "تاريخ الإسلام": "كان شيخ العارفين وقدوة السائرين وعلم الأولياء في زمانه، رحمة الله عليه". وقال الذهبي أيضا إن الجنيد "أتقن العلم، ثم أقبل على شأنه وتعبد، وقل ما ورى. وحدث عنه: جعفر الخلدي، وأبو محمد الجريري، وأبو بكر الشبلي، ومحمد بن علي بن حبيش، وعبد الواحد بن علوان، وآخرون". (سير أعلام النبلاء (11/ 439). وقال عنه الخطيب البغدادي رحمه الله: «سمع بها الحديث، ولقي العلماء، ودرس الفقه على أبي ثور، وصحب جماعة من الصالحين، منهم الحارث المحاسبي، وسري السقطي. ثم اشتغل بالعبادة ولازمها حتى علت سنه، وصار شيخ وقته، وفريد عصره في علم الأحوال والكلام على لسان الصوفية، وطريقة الوعظ، وله أخبار مشهورة، وأسند الحديث عن الحسن بن عرفة". (تاريخ بغداد 8/ 168). وقال عنه أبو نعيم الحافظ (حلية الأولياء - 13/ 281): "كان الجنيد رحمه الله ممن أحكم علم الشريعة". 
 
 
 
ولم يختلف ابن تيمية أحد أبرز مراجع التيار السلفي، على الجنيد، فقال عنه في (مجموع الفتاوى: 5/ 126 و491): "كان الجنيد رضي الله عنه سيد الطائفة إمام الهدى… والجنيد وأمثاله أئمة هدى... والجنيد من شيوخ أهل المعرفة المتبعين للكتاب والسنة".
 
وفي (مجموع الفتاوى - 11/ 245)، تحدث عنه ابن تيمية وهو بصدد مناقشة مسألة الإرادة الكونية القدرية والفرق بينها وبين الإرادة الدينية: وكانت هذه المسألة قد اشتبهت على طائفة من الصوفية، فبينها الجنيد -رحمه الله- لهم، من اتبع الجنيد فيها كان على السداد، ومن خالفه ضل".. وقال أيضا: "كان الجنيد رضي الله عنه سيد الطائفة، ومن أحسنهم تعليما وتأديبا وتقويما" (مجموع الفتاوى - 10/ 686).

الجنيد والحلاج.. صدام قطبي التصوف
جاء في مقال نشرته "مجلة تبيان"، أن مشايخ أهل التصوف الأولون على حال طيب في غالب الأحوال، بما كان لهم من الحرص على السنة واتباع الشرع وصالح العمل. خلافًا للمتأخرين من الصوفية الذين ظهرت فيهم أشياء وانتشرت بينهم أقواله أنكرها العلماء، فالأولون منهم خالطوا العلماء وأخذوا عنهم العلم الذي أرشدهم إلى الاستقامة على العمل الصالح واتباع السنة، وإن كانت لهم مسالك تخصهم في الزهد وأعمال القلوب والعزلة والخلوات، وأن بعد ذلك انقسمت الصوفية إلى اتجاهين رئيسين: "اتجاه عرف بمدرسة السلوك والأخلاق" ويعد الجنيد وعبدالقادر الجيلاني من بين أعلامه؛ ثم اتجاه آخر عرف بـ"التجريد والتحدث في الحقائق"، ويلحق به البسطامي والحلاج وآخرون.
 
يذكر الحافظ الخطيب البغدادي أن الحلاج جاء إلى الجنيد يسأله فلم يجبه، وقال عنه "إنه مدع"،  وأضاف الحافظ أن الجنيد قال للحلاج ذات مرة: "لقد فتحت في الإسلام ثغرة لا يسدها إلا رأسك". وبعد ذلك، انفصل الحلاج عن الجنيد وطريقته. فقد عُرف عن الجنيد أنه كان يرفض تعريف الصوفية كنوع من اعتزال الناس والانكفاء على الذات والهروب من الحياة بعيدا عن أعين الآخرين وهمومهم، وإنما كان يشارك في الحياة العامة مؤثرا فيها، وهذا يرجع إلى أن انتماء أبي القاسم للسلوك الإسلامي الشرعي كان سابقا على انتمائه الصوفي، وهو ما جنبه الوقوع في الأحوال التي أُنكرت على أغلب المتصوفة.  
 
ومن الروايات التي وردت عن حياة الحلاج، أنه في أحد المواقف، دخل الحلاج مسجد بغداد وأبو القاسم الجنيد البغدادي يتكلم على المنبر، فهتف الحلاج أمام الجميع: "يا أبا القاسم إن الله لا يرضى من العالم بالعلم حتى يجده في العلم، فإن كنت في العلم فالزم مكانك وإلا فانزل"، فنزل الجنيد ولم يتكلم مع الناس شهرًا كاملًا؛ وبدأ صراع عنيف بين الرجلين كان له صدى عميق في بغداد، حيث هاجم البغدادي الحلاج جهرًا ورماه بالسحر والشعوذة، وفي لحظة غضب قال للحلاج أنه سيُقتل، فضحك الحلاج قال: "نعم وستمضي على قتلي".

رحيل يليق بشيخ التصوف السني
 
وفي (تاريخ بغداد، 8/ 176-177)، أنه لما حضرت الجنيد بن محمد الوفاة أوصى بدفن جميع ما هو منسوب إليه من علمه، فقيل: ولم ذلك؟ فقال: أحببت أن لا يراني الله وقد تركت شيئا منسوبا إليّ، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم.
 
وتوفي أبو القاسم الجنيد في بغداد سنة 297 للهجرة، وهو في سكرات الموت أخذ يتلو القرآن، فقيل له لو رفقت بنفسك، فأجاب: "ما أحد أحوج إلى ذلك مني الآن وهذا أوان طي صحيفتي"، بحسب ابن كثير في (البداية والنهاية – 14/ 768). 
 
 
وقال أبو بكر العطار: حضرت الجنيد أبا القاسم عند الموت في جماعة من أصحابنا، وكان قاعدا يصلي ويثني رجله إذا أراد أن يسجد فلم يزل كذلك حتى خرجت الروح من رجله فثقلت عليه حركتها فمد رجليه، فرآه بعض أصدقائه ممن حضر ذلك الوقت يقال له البسامي وكانت رجلا أبي القاسم تورمتا، فقال: ما هذا يا أبا القاسم؟ قال: "هذه نعم الله، الله أكبر، فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمد الجريري: يا أبا القاسم لو اضطجعت، فقال: يا أبا محمد، هذا وقت منة، الله أكبر، فلم يزل ذلك حاله حتى مات رحمه الله". يذكر المؤرخون أن بغداد خرجت عن بكرة أبيها يوم وفاته، وأن عدد مشيعي جنازته قدر بستين ألف إنسان.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق