حمدى عبدالرحيم يكتب: من التاريخ السري للمواجع

السبت، 04 مايو 2024 06:00 م
حمدى عبدالرحيم يكتب: من التاريخ السري للمواجع

- وحدة الألم الإنسانى ضغطت على قلب باسل ليكتب كتاب «عين شمس 1995 وهزائم أخرى» وضغطت على قلبى لأقرأ 
 
بعد فراغى من قراءة كتاب «عين شمس 1995 وهزائم أخرى»، الصادر عن كتب خان، لباسل رمسيس وجدتنى متأثرًا تأثرًا جعلنى أحيانًا أحبس دموعى لكيلا يبتذل هطولها جلال المشهد.
 
لا شىء يربطنى بباسل وعالمه، فأنا مسلم وهو مسيحى، وأنا أزهرى ابن مشايخ وهو علمانى ابن قساوسة، وأبوه رمسيس لبيب كاتب اشتراكى لامع وأبى كان على يمين الاشتراكيين وعلى يسار الإخوان، وأمه كوالده اشتراكية وابنة لقسيس، وأمى لم تعرف من الدنيا سوى محبة زوجها وأولادها، هو له شقيقة واحدة، وأنا كنت تاسع تسعة، خطف الموت منهم سبعة وبقى اثنان، أنا أحدهما، هو من خريجى جامعة عين شمس التى هى معقل من معاقل اليسار المصرى فى الثمانينيات والتسعينيات، وأنا أزهرى، حيث الإخوان والجماعات الإسلامية وقلة ناصرية لا تذكر، هو مخرج سينمائى وأنا صحفى.
 
هو قاهرى النشأة وأنا صعيدى النشأة والهوى.
 
كانت باحة كنيسة قاهرية هى ملعب طفولته
 
وكانت باحة مسجد صعيدى هى ملعب طفولتى.
 
هو يصغرنى بسنوات لا تجعلنا أبناء لجيل واحد.
 
والحال كما ترى فما الذى يربطنى بباسل رمسيس؟
 
لا شىء غير الصداقة فى واقع افتراضى ملون بالصدق وملوث بالأكاذيب.
 
لقد رأيت باسل مرة واحدة، ففى أعقاب ثورة يناير كنت وصديق، أظنه مؤمن المحمدى نعبر شارعًا من شوارع وسط البلد، فجأة ظهر باسل وهو يعرج عرجًا خفيفًا، أشار له صديقى بحرارة ممتزجة بغير قليل من المرارة.
 
سألت صديقى: من هذا، وفيما مرارة صعدت إلى صفحة وجهك؟
 
قال: إنه باسل رمسيس.
 
قلت: سمعت به.
 
قال: المرارة لأن باسل كان فى إسبانيا وعاد مع الثورة، وغالبًا ناله من خرطوشها شىء تركه يعرج.
 
وكانت تلك هى المرة الأولى والأخيرة التى لمحت فيها باسل رمسيس على وجه اليقين. 
 
للمرة الثانية: ما الذى يربطنى بباسل رمسيس؟
 
لا شىء، وكل شىء!
 
كل شىء هذه شرحها الحكيم أبوتمام عندما قال:
 
«إن كان يجمعنا الإخاء فإننا.. نغدو ونسرى فى إخاء تالد 
 
أو يفترق نسب يؤلف بيننا.. أدب أقمناه مقام الوالد».
 
هذا الأدب اسمه عندى «وحدة الألم الإنسانى»، كلانا متألم منذ بدء أمره، كانت تؤلمه سيطرة الحاجة ثريا لبنة قطبة الحزب الوطنى، على حيه «مدينة نصر»، وكانت ذات الحاجة تؤلمنى فى غدوها ورواحها عندما كنت أسكن الحى العاشر بمدينة نصر، وقت أن كان ذلك الحى هو آخر الدنيا وانقطاع العمران.
 
وحدة الألم الإنسانى هى التى ستجعلنا نتشارك مشاهدة الأفلام ذاتها، من «ليلة البحث عن سيد مرزوق»، إلى «آه وآه من شربات!»
 
أفلت منى فيلم «موسم الاحتراق».
 
وحدة الألم الإنسانى جعلتنا نستمع إلى نفس الأغانى، من مارسيل خليفة والشيخ إمام إلى محمد عزت وعلى الحجار.
 
وحدة الألم الإنسانى هى التى ضغطت على قلب باسل ليكتب، وضغطت على قلبى لأقرأ ثم لأحبس دموعى لكيلا تبتذل إجلال المشهد.
 
ضربة البداية التى لعبها باسل، مكنته من إحراز هدف مبكر، لقد بدأ باسل كتابه بالحديث عن الصيادين الذين يربون الكلاب السلوقية البارعة فى صيد الأرانب وغيرها من مخلوقات الله البريئة.
 
العلاقة بين الصيادين وكلابهم، مركبة، بل الأصح معقدة، تذهب العلاقة إلى ذروة جنونية، عندما يطلق الصياد النار على كلبه!
 
هؤلاء ليسوا مجرد صيادين، وهذه ليست مجرد كلاب، الأمر على حقيقته هو رسالة ماكرة من باسل، ليذكرنا بحقائق، الخوض فيها سيضع المزيد من الملح على جراح لا تزال تنزف.
 
من تلك العلاقة الجنونية ينطلق باسل ليسرد وقائع هزائم عشناها معا، لقد وحدنا الألم الإنسانى، فسمعت معه ياسر عرفات وهو يخاطب صدام حسين «يا جبل ما يهزك ريح»، وسمعت معه معمر القذافى وهو يهدد أمريكا بثورة عالمية، وبكيت معه تدمير العراق.
 
كان باسل فى قلب اللعبة عندما تهاوى الاتحاد السوفيتى، هل كانت تلك اللحظة هى فاتحة كتاب الهزائم وآية المواجع الكبرى؟
 
أيامها لم أكن حزينًا، كنت خائفًا من انفراد الأمريكان بصدارة المشهد العالمى، الحقيقة كنت متعجبًا من حزن اليساريين المنظمين، فسعيت إلى يسارى عتيد فقال لى: كيف سيكون قلبك عندما يصلك خبر موت والدك؟
قلت: سيتفتت قلبى.
 
قال: هذا ما حدث لنا!
 
فى منتصف الكتاب مشهد لباسل وأصحابه وهم يشربون ثم بوعى مرعب، يغنون، لعلى الحجار: «على قد ما حبينا وتعبنا فى ليالينا.. الفرحة فى مشوارنا تانى هتنادينا.. طول ما القلب صافى بحر العشق وافى.. وكل عذاب الدنيا هيروق بكرة لينا.. بس امتى ليالينا عالحلم ترسينا»، هذه الأغنية لا علاقة لها بأغانيهم الأيديولوجية، هل كانت تلك الأغنية هى بوابة الخروج؟
 
سيطلق باسل التنظيم، ويغادر ليتعلم السينما، وعندما يجد نفسه قد أصبح رجلًا خمسينيًا، سيمد يديه بعزيمة حديدية ليفتح خزائن الماضى، حيث تقبع الذكريات السود تجاورها لحظات البهجة التى حلقت بنا فى سماء النشوة العالية، كأن باسل كتب كتابه ليقول لى أنا: لم تكن وحدك، فقد جمع بيننا الألم الإنسانى. 
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق