أشرف مروان.. خدع إسرائيل حيا وميتا

السبت، 04 أكتوبر 2025 05:42 م
أشرف مروان.. خدع إسرائيل حيا وميتا
طلال رسلان

أشرف مروان يفجر تل أبيب من قبره بتقارير تكشف كيف تلاعب برجال الموساد

الصحف العبرية تنشر وثائق جديدة عن "الملاك" واستدراجه تسفي زامير كـ"الابله" وتنفيذ أكبر خدعة استراتيجية

 

منذ رحيل أشرف مروان في ظروف غامضة عام 2007، قصته لم ترحل. فهو الرجل الذي جعل إسرائيل تعيش نصف قرن في ارتباك دائم، بين الإنكار والاعتراف، بين الأسطورة والفضيحة.

وفي النهاية، تبقى الحقيقة التي يحاولون الهروب منها بعد نصف قرن وباعترافاتهم أن الملاك لم ينقذهم، بل فضحهم، وأن حرب 6 أكتوبر 1973 لم تكن فقط هزيمة عسكرية لإسرائيل، بل فضيحة استخباراتية كشفت خيبتها أمام العالم.

 

ضربة موجعة.. سقوط الأسطورة

منذ حرب أكتوبر 1973 وحتى اليوم، لا تزال إسرائيل عاجزة عن حسم روايتها بشأن رجل واحد: أشرف مروان، فهو في نظرهم "الملاك" الذي أغرقهم بالمعلومات، لكنه في نظر المصريين البطل الذي كشف عجز الموساد وأدخل إسرائيل في دوامة أكبر خدعة استراتيجية عرفتها المنطقة.

كلما نشرت الصحف العبرية وثائق جديدة عن القضية، يزداد الغموض، لكن تزداد معه الحقيقة وضوحًا: أن تل أبيب كانت ضحية خداع بارع جعلها تبدو ضعيفة وعاجزة أمام العالم.

الإسرائيليون أطلقوا على مروان لقب "الملاك" واعتبروه "أغلى عملائهم"، فمنذ عام 1970، بدأ يمدهم بفيض من الوثائق والرسائل، حتى اعتقدوا أن رجلهم داخل القاهرة لا يمكن أن يُخدع، لكن ما لم يدركوه هو أن هذا الثقة العمياء كانت الفخ بعينه. فكل معلومة، وكل تحذير، وكل وثيقة، لم تكن سوى خيوطًا في خطة مصرية متقنة قادت تل أبيب إلى لحظة الانكسار في السادس من أكتوبر.

 

خداع أكتوبر.. أكبر فضيحة استخباراتية

يوم الخامس من أكتوبر 1973، سافر رئيس الموساد تسفي زامير إلى لندن للقاء مروان. التحذير الذي نقله "الملاك" لإسرائيل كان أن الحرب ستندلع مساء السادس من أكتوبر. لكن الحقيقة أن القوات المصرية بدأت هجومها ظهرًا، في وقت لم تكن تل أبيب فيه مستعدة. هكذا وجدت إسرائيل نفسها في مواجهة صدمة مزدوجة: هجوم عسكري مباغت، وكشف استخباراتي مدوٍ جعل أجهزتها تبدو عاجزة أمام الرأي العام.

منذ تلك اللحظة، دخلت إسرائيل في معركة إنكار طويلة. رفضت الاعتراف بأن مروان كان يعمل لصالح مصر، وبدأت تسوّق روايات متناقضة، تارةً ترفعه إلى مرتبة "الجاسوس الأسطوري"، وتارةً أخرى تصفه بالمهووس بالمال أو بالمهووس بالمقامرة.

لكن جوهر المعركة ظل كما هو: تل أبيب لا تريد الاعتراف بأنها خُدعت على يد رجل واحد، لأن ذلك يعني انهيار أسطورة "الموساد الذي لا يُقهر".

التقرير الأخير لصحيفة يديعوت أحرونوت فجّر الغضب مجددًا. عاموس جلعاد، المسؤول الأمني السابق، كتب صراحة: "لقد كنا ضحية خداع استراتيجي مصري، والملاك كان رأس الحربة".

جلعاد طالب بلجنة تحقيق جديدة، مؤكدًا أن نصف قرن لم يُنهِ صدمة أكتوبر، وأن إسرائيل ما زالت تعيش آثار أكبر عملية تضليل في تاريخها. هذه الأصوات ليست سوى اعتراف غير مباشر بأن خيبة تل أبيب في تلك الحرب لا تزال تلاحقها.

وتعلم إسرائيل أن حرب 1973 لم تكن مجرد معركة عسكرية، بل كانت أيضًا معركة رواية، ولهذا تحاول حتى اليوم إعادة صياغة القصة لجيل جديد لم يعش الهزيمة.

ورغم محاولات تل أبيب تسريب "وثائق سرية" وافتعال "روايات بديلة" في محاولة لترميم صورة جيش ودولة سقطت في اختبار المخابرات، لكن الحقيقة تظل أقوى: أشرف مروان لم يكن مجرد رجل، بل كان المرآة التي كشفت عجز تل أبيب وضعفها.

 

فضيحة جديدة تهز إسرائيل.. "الملاك" استدرج رئيس الموساد مثل الأبله

في تقريرها المثير، اعترفت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، أن أشرف مروان لم يكن مجرد "مصدر" للموساد، بل كان الفخ الأكبر الذي نصبته القاهرة في قلب تل أبيب. التحقيق وصفه بأنه "الترس المركزي" في خطة الخداع المصرية التي سبقت وأثناءت حرب أكتوبر 1973، مؤكدًا أنه استدرج رئيس الموساد تسفي زامير "كالأبله" وتلاعب به لسنوات طويلة.

التقرير الذي نشر في ملحق "7 أيام" تضمن شهادات خطيرة لم يُسمح بنشرها إلا بعد وفاة الجنرال شلومو جازيت، الرئيس الأسبق للاستخبارات العسكرية. غازيت اعترف بأن مروان زُرع بمهارة داخل المنظومة الإسرائيلية حتى صار محاطًا بالثقة العمياء، ليصبح الأداة الأهم في تضليل تل أبيب قبل "يوم الغفران".

ووفق التفاصيل التي أوردتها الصحيفة، شارك مروان في اجتماعات حساسة في أغسطس 1973 جمعت الرئيس أنور السادات بنظيره السوري حافظ الأسد، حيث تم الاتفاق على موعد الحرب في السادس من أكتوبر. لكن بدلاً من تمرير هذه المعلومة المصيرية للموساد، ضخّ الرجل سلسلة إنذارات متضاربة عن مواعيد أخرى للحرب، مدعومة بتقديرات تُرجّح أن القتال قد لا يبدأ أصلًا.

حتى التحذير الذي أرسله عشية العبور، كان غامضًا ومتأخرًا، ولم يُسعف قادة إسرائيل في الاستعداد للصدمة. والنتيجة كانت هجوم مباغت أسقط أسطورة الجيش الذي لا يُقهر.

ورغم أن الإعلام العبري يواصل وصف مروان بـ"أفضل جاسوس عرفته إسرائيل"، فإن التحقيق الجديد يقر بمرارة أنه لم يكن سوى أداة مصرية بارعة في تدمير جهاز الموساد من الداخل وكشف هشاشة أجهزته أمام العالم.

 

نشكركم لحسن تعاونكم

الدكتور محمد عبود، أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة عين شمس، قال إن ما نشرته الصحافة العبرية مؤخرًا يمثل بمثابة إقرار غير مسبوق بأن أشرف مروان لم يكن مجرد مصدر معلومات، بل كان السلاح الأخطر الذي استخدمته مصر لتضليل إسرائيل قبل وأثناء حرب أكتوبر 1973، مشيراً إلى أن ما تكشفه الوثائق الإسرائيلية الآن لا يفاجئ المصريين، فالمخابرات العامة المصرية لديها سجل طويل من الاختراقات الناجحة داخل إسرائيل، بعضها أُعلن عنه وبعضها لا يزال طي الكتمان، لكن جميعها يشهد على قوة المدرسة المصرية في العمل الاستخباراتي.

وأوضح عبود، أن هناك ثلاث إشارات قاطعة تؤكد وطنية مروان: الأولى جنازته الرسمية التي أقيمت له في القاهرة، والثانية شهادة الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي وصفه بـ"الرجل الوطني"، أما الثالثة فتصريحات اللواء عبدالسلام المحجوب، أحد أبرز قادة المخابرات، الذي كشف أنه تولى بنفسه تدريب مروان على تنفيذ خطة خداع ممنهجة لإرباك أجهزة الأمن الإسرائيلية.

وأشار عبود إلى أن اللواء المحجوب عُرف بابتكاره لخطط تعتمد على زرع عملاء داخل منظومة الخصم لكسب الثقة ثم تمرير رسائل مغلوطة تربك صناع القرار. وهو نفس الأسلوب الذي اتبعه في عملية "جمعة الشوان"، التي انتهت بالعبارة الشهيرة: "من المخابرات العامة المصرية إلى المخابرات الإسرائيلية.. نشكركم على حسن تعاونكم معنا."

وأضاف أستاذ الدراسات الإسرائيلية أن فريقًا من الباحثين المصريين المتخصصين في اللغة العبرية، بقيادة الراحل الدكتور إبراهيم البحراوي، ترجموا محاضر لجنة "أجرانات" الإسرائيلية، وهي التحقيقات الرسمية مع قادة الجيش والموساد عقب الحرب. هذه الوثائق، المطبوعة في عشرة مجلدات بالمركز القومي للترجمة، تضمنت اعترافات مباشرة من شخصيات بحجم إيلي زعيرا (رئيس الاستخبارات العسكرية) وتسفي زامير (رئيس الموساد) ورئيس الأركان دافيد إليعازر، جميعها تقر بأن مروان كان جزءًا محوريًا من خطة الخداع المصرية التي أربكت تل أبيب، وأدت إلى خسائر فادحة بلغت 2400 قتيل إسرائيلي وفق الأرقام المعلنة.

ويخلص عبود إلى أن ما يروّجه الإعلام العبري اليوم من روايات متضاربة لا يغير من الحقيقة شيئًا، بل يكرّس صورة واحدة: أن أشرف مروان كان بوصلة خطة الخداع المصرية، ورمزًا لخيبة إسرائيل التي لا تزال تطاردها بعد نصف قرن من الهزيمة.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق