قانون تنظيم الصحافة.. خطوة على طريق الضبط

الأحد، 10 يونيو 2018 11:20 ص
قانون تنظيم الصحافة.. خطوة على طريق الضبط
حازم حسين

أخيرا، وبعد مناقشات واجتماعات وأخذ ورد منذ ديسمبر 2016، يوشك قانون تنظيم الصحافة والإعلام على الخروج للنور، وهو وفق صيغته شبه النهائية، وتقرير اللجنة البرلمانية المشتركة من لجنة الإعلام ومكتبي لجنتي الشؤون الدستورية والخطة والموازنة، مشروع طموح ومتوازن بدرجة كبيرة للغاية، وخطوة مهمة على طريق ضبط الأوضاع في هذا القطاع المهم.
 
كانت المشكلة الأكبر فيما يخص تنظيم الصحافة والإعلام أن القانون الضابط للقطاع حتى اللحظة هو القانون 96 لسنة 1996 وخلال السنوات الاثنتين والعشرين الماضية منذ إقراره، تبدلت كثير من الأمور فيما يخص المؤسسات الصحفية والإعلامية، وصيغ الملكية، وآليات الأداء والممارسة المهنية، ففي وقت إصدار القانون لم تكن سوق الصحافة تعرف إلا المؤسسات القومية وبعض الإصدارات الحزبية، ولم يكن قطاع التليفزيون يعرف سوى القنوات الرسمية العامة، والآن أصبح الغالب على الصحافة صيغة الإصدارات الخاصة والشركات المساهمة، وقاد تطور تقنيات الاتصال والبث الرقمي إلى ثورة واسعة في أشكال وصيغ القنوات والمحتوى التليفزيوني، وأصبح القانون 96 بمجاله التشريعي المحدود قاصرا عن استيعاب كل هذه المتغيرات.
 
في مشروع القانون الجديد يوازن المُشرّع بين الضوابط الدستورية التي تُشكّل قيمًا عامة راسخة في الأداء الإعلامي، وتغيرات الأوضاع وتعقيداتها مع تعدد وسائل الإتاحة والبث، من صحف وقنوات ومدونات ومواقع إلكترونية ومواقع تواصل اجتماعي وحسابات خاصة تكتسب صفتي العلنية والتأثير اللتين كانتا وقفا على المؤسسات الإعلامية التقليدية، كما يوازن بين الحقوق والواجبات العامة المحمية بنصوص الدستور، والفلسفة العصرية لتأسيس أداء إعلامي ناضج وحافز لقيم المجتمع وإمكاناته، بعيدا عمّا قد يحمله التطور التقني والمعلوماتي من إمكانات انفلات وبواعث خروج على حقوق الأفراد والمجتمع، وهو في هذه الفلسفة ينحاز لمقدمي الخدمة من ممارسي العمل الإعلامي دون جور على حقوق المتلقين وحرمة الحياة الشخصية للأفراد، ويراعي الاعتبارات المهنية والنقابية في ضوابطه لمواجهة الاختلالات التي قد تصيب جسد المهنة، كما يراعي الصيغة التنظيمية الجديدة لسوق الإعلام، التي دشنها قانون التنظيم المؤسسي رقم 92 لسنة 2016، وإحلاله المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام محل وزارة الإعلام سابقا، والهيئة الوطنية للصحافة محل المجلس الأعلى للصحافة والشخصية الاعتبارية لمجلس الشورى في ملكية المؤسسات القومية، والهيئة الوطنية للإعلام محل اتحاد الإذاعة والتليفزيون وجهة تنظيم البث المرئي والمسموع.
 
في مشروع القانون الذي يأتي في 127 مادة، يتناول التشريع الجديد كل الأمور الخاصة بالصحافة والإعلام، مهنيا وفنيا وتنفيذيا، بدءا من تحديد المجال التعريفي للاصطلاحات الواردة بالمشروع بشأن مؤسسات العمل الإعلامي، وفق الصورة الحالية للقطاع والأبنية المؤسسية المنظمة له في آخر هياكلها وإصداراتها، ويؤسس أحكامه على مواد الدستور المنظمة للحريات والحقوق الشخصية والعامة، وفي مقدمتها الحق في تداول المعلومات وحرية الرأي والنشر والتعبير، وأيضا حرمة الحياة الشخصية للأفراد، والحق في محاكمات عادلة لا تخضع لأهواء النشر غير المنضبط وتقلبات الرأي العام، كما يُؤمّن الصحفي من المساءلة المتصلة بأداء دوره المهني وفق ضوابط الدستور والقانون، كأن ينص على عدم جواز تفتيش مسكنه إلا بحضور عضو من النيابة، أو عدم إجباره على إفشاء مصادر معلوماته، ومنع مساءلته على المعلومات التي ينشرها ما دامت في إطار القانون والمسؤولية المهنية ولم ينطو حصوله عليها على مخالفة قانونية أو حيازة لغير الأغراض المهنية، ويعيد المشروع تأكيد الأمور المستقرة كمنع الخلط بين الإعلان والمحتوى، ومنع عمل الصحفي في جلب الإعلانات أو الحصول على نسبة منها، ضمانا لممارسة مهنية غير خاضعة لتأثيرات المصالح الشخصية، وصونا لحق متلقي الخدمة في ممارسة منضبطة لا تستغل حاجته للمادة الإعلامية في نقل رسائل دعائية تخصم من كفاءة المحتوى وتشكل تأثيرا استباقيا محتملا على نزاهة جامعي الأخبار وناشريها.
 
منذ إحالة مشروع القانون من الجلسة العامة لمجلس النواب، إلى اللجان المعنية، عقدت اللجنة المشتركة من الإعلام ومكتبي لجنتي الشؤون الدستورية والخطة والموازنة تسعة وثلاثين اجتماعا، منها ستة اجتماعات في دور الانعقاد الثاني بدأت في 8 مايو 2017 وانتهت في 3 يوليو التالي، وثلاثة وثلاثون اجتماعا في دور الانعقاد الثالث بدأت في 22 أكتوبر 2017 وانتهت في 7 يونيو الجاري، التقت خلالها ممثلين لكل الجهات المعنية، في مقدمتها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والهيئة الوطنية للصحافة، والهيئة الوطنية للإعلام، ونقابتا الصحفيين والإعلاميين، وغرفة صناعة الإعلام، والجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، وراعت في مناقشاتها تقرير قسم الفتوى والتشريع بمجلس الدولة حول مشروع القانون المقدم من الحكومة، لتخرج بتقرير نهائي في 86 صفحة تتضمن النص الكامل للمشروع في صيغته النهائية، منها 20 صفحة تقريبا لمسار المناقشات ومحطاتها، وفلسفة القانون، وأبرز عناصره وضماناته، واقتراحات الجهات المعنية وما تم الأخذ به منها، مقدمة رؤية وافية ترجح أن يحوز المشروع قبول المجلس وفق صيغته الحالية، وأن يمر بنصه الحالي، أو بقدر محدود للغاية من التعديلات الإضافية.
 
من الضمانات المهمة التي نص عليها مشروع القانون، إلزام رئيس مجلس الوزراء باستطلاع آراء المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والهيئتين الوطنيتين للصحافة والإعلام، في اللائحة التنفيذية لمشروع القانون قبل إصدارها، وهو إجراء ضابط لآليات إعمال النص التشريعي تنفيذيا، وضمانة لعدم تفريغ القانون من محتواه حال صدور اللائحة بمعزل عن أهل المهنة والمختصين بشؤونها، أي أننا إزاء صيغة تشريعية تحقق إشراكا فاعلا للمشمولين بالقانون والمعنيين المباشرين به في كل المراحل، بدءا من الصياغة والمناقشات الأولى، وصولا للصورة النهائية والإجراءات التنفيذية وإنزال القانون عمليا على الواقع، بشكل يضمن لممارسي المهنة مكتسباتهم التي نص عليها القانون، ويمنح المؤسسات الممثلة لهم موقعا مؤثرا في بنية العمل التشريعي وآليات تطبيقه، وهو في صورته العميقة يعني تمثيلا غير مباشر لنقابتي الصحفيين والإعلاميين، ومن ثمّ لجموع العاملين بالمهنة، في تحديد آليات تنفيذ القانون ومحددات تطبيقه.
 
في هيكل تشريعي تتوزع فيه مواد القانون على ستة أبواب، خصص المُشرّع بابًا للعقوبات، وأربعة أبواب للمؤسسات الصحفية والإعلامية بصيغها المختلفة، بين قومية وخاصة، وبابًا من خمسة فصول لحقوق وواجبات الصحفيين والإعلاميين، منها فصل للواجبات، وثلاثة للحقوق، وفصل لضمانات المحاكمة العادلة، وهو هيكل بنائي يحمل انحيازا أوليًّا واضحا لحرية العاملين وحقهم في ضمان آليات ممارسة مهنية غير مقيّدة، ولا يحدّها إلا نصوص القانون والدستور، وما ترتّبه على ممارسي العمل الإعلامي من التزامات مهنية وأخلاقية، مع رد المساءلة إلى المسارات النقابية التأديبية، وتدشين دوائر قضائية خاصة لنظر القضايا المتصلة بالعمل الإعلامي، فيما يخص التجاوزات الصريحة للأطر القانونية بشأن الحياة الشخصية للأفراد، أو إفشاء المعلومات غير المصرح بنشرها، أو المساس بركائز السلم والأمن الوطنيين، وهي صيغة بجانب تأسيسها منظومة ضمانات واسعة لحق الصحفي، تضمن في الوقت نفسه ردعا معنويا لانتهاكات شاعت في الوسطين الصحفي والإعلامي خلال السنوات الأخيرة، وكانت بحاجة ماسة لموازنة دقيقة بين الفضاء المهني وانفتاحه، والفضاء الوطني وثوابته.
 
حسب تقرير اللجنة، فقد استجابت لرؤى الجهات المعنية ووجهات نظرها بدرجة كبيرة، في مقدمتها اقتراحات المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام حول الديباجة والتعريفات و31 مادة بالمشروع، وحذفت المادة 91 الخاصة بتشكيل لجنة استشارية في كل مؤسسة باعتباره تدخلا لا مبرر له، كما ناقشت أكثر من 30 اقتراحا للهيئة الوطنية للصحافة واستجابت لعدد منها، وناقشت 18 اقتراحا من نقابة الصحفيين وأخذت بموضوع إضافة مادة جديدة لتنظيم سوق للعمل، كما ناقشت أيضا 28 اقتراحا من الهيئة الوطنية للإعلام، واقتراحين من نقابة الإعلاميين، و25 اقتراحا من غرفة صناعة الإعلام، و29 اقتراحا من الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، وأخذت بجانب كبير منها في صياغتها للنص النهائي، كما أوضحت بالتفصيل في تقريرها حول مشروع القانون.
 
من أبرز النقاط في المشروع، وربما كانت الأبرز على الإطلاق، الاتجاه نحو التأسيس لفرض ضرائب على حصيلة الإعلانات التي تحققها المواقع الأجنبية من السوق المصرية، خاصة مواقع التواصل الاجتماعي، التي تلتهم حاليا الحصة الأكبر من سوق الإعلانات، فبحسب نص المادة 66 من مشروع القانون «لا يجوز  بث المحتوى الخاص بالوسيلة الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية والإلكترونية على الهواتف الذكية، أو غيرها من الأجهزة أو الوسائل المماثلة، قبل الحصول على موافقة بذلك من المجلس الأعلى وفق الإجراءات والقواعد التي يحددها. ولا يجوز في جميع الأحوال لأي موقع إلكتروني جلب إعلانات من السوق المصري، ما لم يكن مقيدا بالمجلس الأعلى، وخاضعا لأحكام القانون رقم 11 لسنة 1991 بشأن التهرب الضريبي».. وتأتي أهمية هذه المادة في ضوء ما تعانيه اقتصاديات الصحف والمواقع الإخبارية والقنوات التليفزيونية، مع تراجع مواردها الإعلانية لصالح مواقع التواصل الاجتماعي وشركات عالمية كبرى مثل جوجل وفيس بوك وغيرهما، وهي الجهات التي تستغل المحتوى الإعلامي بقرار فردي، دون دفع أي حقوق أو مقابل له، وتستغل مراكزها المتحققة في السوق المحلية، وإمكاناتها التواصلية الكبيرة، في جمع وبث الإعلانات بمقابل لا يتناسب مع طبيعة الخدمة، يساعدها في هذا عدم تكلفها أي أعباء تخص العمالة أو النفقات اليومية والرسوم الإدارية والضريبية، كما هو الحال مع المؤسسات الإعلامية، وهو ما تسبب في تقلص العوائد الإعلانية الموجهة للمطبوعات والمنصات المحلية بنسب مرعبة لصالح هذه الجهات، بشكل خلق ضغطا كارثيا على موارد المؤسسات الإعلامية واستدامتها، بشكل أصبح يهدد قدرتها على الموازنة بين النفقات والإيرادات، ويضرب اقتصادياتها في مقتل، وبالضرورة يطال قدرتها على الاستمرار، أي أننا بصدد اختلال هيكلي في سوق الإعلانات، استغلته شركات دولية كبرى لتحقيق أرباح ضخمة وتهديد بقاء واستدامة الخدمات الإعلامية للمؤسسات المحلية، القومية والخاصة، وما تؤسس له المادة الجديدة بمشروع القانون هو التماس مباشر لضبط هذه الاختلالات، بفرض رقابة على تداول مواقع التواصل الاجتماعي للمحتوى الإعلامي بشكل غير قانوني، وتحميلها أعباء ضريبية تتناسب مع عوائدها، بما يُوقف الإهدار المتصل لحقوق الدولة الضريبية من هذا الباب، ويضمن قواعد منافسة عادلة بين المؤسسات المحلية والشركات الدولية الضخمة، وبالتبعية يُحسّن اقتصاديات الإعلام الوطني ويضمن له الاستدامة، وينعكس أيضا على المردود المباشر للخدمة المقدمة للمتلقي، إذ إن الضغوط المالية والاقتصادية التي عانت منها المؤسسات الصحفية خلال السنوات الأخيرة، لصالح مراكمة المكاسب الضخمة للمواقع والشركات الدولية، أثرت على القدرات الفنية والتقنية لهذه المؤسسات، وعلى برامج التنمية والتدريب وتحسين الأجور والمزايا الاجتماعية للعاملين، وكلها أمور كانت تُنذر حال استمرارها على هذه الحال بالقضاء على المهنة وتشريد العاملين فيها.
 
التفاصيل عديدة ومتشعبة في مشروع القانون، والأمر يقبل النقاش والحوار وتسجيل الملاحظات والاقتراحات، بجانب ما أجرته اللجنة من حوارات ونقاشات مع الجهات المعنية والمختصين، حتى يصل المشروع إلى الجلسة العامة لمجلس النواب، في مناقشة مفتوحة من الأعضاء لكل تفاصيله القانونية والفنية، تمهيدا لإصداره قبل انتهاء الدور التشريعي الحالي على الأرجح، ولكن المؤكد أيا كانت الرؤى والأفكار حول المشروع - والكمال غاية نلتمسها ولا نحوزها، والاختلاف في وجهات النظر من الأمور الطبيعية والمحمودة على أية حال - أننا بصدد مشروع قانون متماسك ومتوازن بدرجة كبيرة، يضمن كثيرا من حقوق الصحفيين والإعلاميين، ولا يجور على حقوق المتلقين ومستحقي الخدمة. يصون الأطر المهنية والمؤسسية، ويراعي في الوقت نفسه المصالح العليا والركائز الأساسية للدولة، وفي القلب من كل هذا لا يُغفل اقتصاديات العمل الصحفي والإعلامي، ويأخذ موقفا صارما من استباحة السوق المصرية لصالح شركات كبرى تضرب استدامة الصناعة الإعلامية في مقتل، وهو وفق كل هذه التفاصيل والمحددات، تأسيس حقيقي لسوق إعلامية أكثر نضجا وعصرية، وخطوة مهمة على طريق إصلاح اختلالات قديمة، وضبط أوضاع طال انفلاتها.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق