جونسون يهاجم وماي تدافع وإدنبرة تنتظر.. هل تخرج بريطانيا من أوروبا بعاهة مستديمة؟

الإثنين، 03 سبتمبر 2018 08:00 م
جونسون يهاجم وماي تدافع وإدنبرة تنتظر.. هل تخرج بريطانيا من أوروبا بعاهة مستديمة؟
رئيس الوزراء البريطانية تيريزا ماي وخريطة أوروبا
حازم حسين

أقل من سبعة شهور تفصل بريطانيا عن مغادرة الاتحاد الأوروبي، وما زالت الأمور العالقة أكثر وأضخم من التوافقات، والمخاطر والصراعات أشرس وأشد حدّة من التصورات المستقبلية لما بعد الطلاق البائن.

منذ انحاز البريطانيون لخيار الخروج من الاتحاد الأوروبي صيف العام قبل الماضي، لا يبدو أن الرياح تأتي بما تشتهي السفينة الانجليزية الضخمة. أو بمعنى أكثر دقة يبدو أن ربّان السفينة أو بعض أفراد طاقمها يمسكون بالدفّة رافضين سلوك المسار الذي اختاره المصوّتون في الاستفتاء، أو يسعون لتوجيهها في مسار آخر لا يوافق الإرادة الشعبية.

أحد اجتماعات الاتحاد الأوروبي
أحد اجتماعات الاتحاد الأوروبي

بدا الأمر غريبا منذ اللحظة الأولى التي دخلت فيها تيريزا ماي مقر الحكومة البريطانية في 10 دونينج ستريت بالعاصمة لندن. كان يُفترض أن تكون زعيمة حزب المحافظين مخلصة لفكرة الخروج ومستميتة في الدفاع عنها، حتى لو كانت رؤاها الشخصية تنحاز للبقاء في الحظيرة الأوروبية، أو الإبقاء على روابط غليظة معها، ففي النهاية كان لاستفتاء الانفصال "بريكست" فضل في خلافتها لرئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون، الذي نفّذ وعده بالاستقالة حال خروج نتيجة الاستفتاء في صالح مغادرة الوحدة الأوروبية. لكن على العكس تماما جاء موقف "ماي"، لتشتعل الخلافات في أروقة الحكومة، ويبدأ المسار الساخن والمتأرجح في رحلة الخروج.


حكومة بريسكت تحارب الانفصال

رغم النوايا التي بدت واضحة في أحاديث وتحركات تيريزا ماي منذ وصولها لمنصبها، كان من الصعب الجزم بأن رئيسة الوزراء التي قفزت إلى الكرسي بفضل "بريكست" تحمل موقفا عدائيا من الاستفتاء وفكرة مغادرة الاتحاد الأوروبي. لكن الأيام والتطورات التالية زادت حدّة الخلافات في أروقة الحكومة، وألقت مزيدا من الظلال والشكوك على مواقف "ماي" وتصرفاتها.

في الأيام الأولى من يوليو الماضي فوجئ البريطانيون والأوروبيون وغيرهم بإعلان وزير شؤون الانفصال "بريكست" ديفيد ديفيز استقالته من الحكومة، تلاه إعلان وزير الخارجية بوريس جونسون استقالته، ثم وزير الدولة لشؤون التسليح بوزارة الدفاع جوتو بيب. الاستقالات الثلاثة جاءت على خلفية خطة "تشيكرز" التي أعدتها رئيسة الحكومة تيريزا ماي للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وزيرا الخارجية وبريكست عارضا الخطة التي حاولت "ماي" فرضها على الحكومة واشتبكا مع رؤيتها التي قيل إنها تنحاز لتصورات بروكسل على حساب مصالح لندن، ووزير الدولة اعترض على تعديلات في قانون الجمارك ضمن الرؤية نفسها، وبصورة تبدو مائلة بوضوح ناحية الرؤية الأوروبية.

تيريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية
تيريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية


وزير سابق يهاجم دونينج ستريت

توقف موجة الاستقالات من الحكومة البريطانية عند وزيرين ووزير دولة، واستتباب الأمر نسبيا في آخر شهرين، يشيران إلى أن المشهد الرسمي في بريطانيا قد وصل لمرحلة مستقرة نوعا ما. يمكن القول إن تيريزا ماي فرضت رؤيتها على أعضاء الحكومة، وإنها تسير باتجاه تنفيذ خطة "تشيكرز" بالشكل الذي تراه رئيسة الحكومة ويقرّه الاتحاد الأوروبي، لكن حقيقة الأمر ليست على هذه الشاكلة.

ما يتوفّر من تقارير وتحليلات يؤكد أن إيقاع الصراع في أروقة الحكومة البريطانية لم يخفُت بعد، حتى بعد موجة الاستقالات التي جرت في يوليو. ما زالت المناوشات قائمة بين تيريزا ماي وبعض وزرائها، أبرزهم وزير الداخلية ساجد جاويد، الذي خلف آمبر رود في منصبها عقب استقالتها بسبب فضيحة التعامل المتجاوز مع مهاجرين من الكاريبي، وأشارت تقارير صحفية بريطانية إلى استعداده للمنافسة على زعامة حزب المحافظين عقب استقالة تيريزا ماي المتوقعة خلال سنة.

بجانب المناوشات والاعتراضات على خطة "تشيكرز"، وظهرت بوضوح في حديثها أمام مجلس العموم البريطاني وتهديدها بأنه إما إقرار هذه الخطة أو تعطيل مغادرة الاتحاد وقد لا يكون هناك خروج من مؤسسات بروكسل، يظل بوريس جونسون حاضرا في المشهد حتى بعد استقالته من وزارة الخارجية، في ظل تقارير أخرى تتحدث عن استعداده للمنافسة على زعامة الحزب عقب استقالة تيريزا ماي حال نجاحها في إنجاز الخروج، أو إجبارها على مغادرة منصبها حال فشلها في دفع بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي.

بوريس جونسون وزير الخارجية البريطاني السابق
بوريس جونسون وزير الخارجية البريطاني السابق

منذ مغادرته منصبه قبل شهرين لم يتوقف "جونسون" عن مهاجمة الحكومة ورئيستها تيريزا ماي، وقبل ساعات جدد هجومه على "دونينج ستريت" بسبب ما قال إنه نجاح محتمل لمؤسسات الاتحاد الأوروبي في فرض رؤيتها على المفاوضات الجارية مع بريطانيا. قائلا في مقال بصحيفة "ديلي تليجراف" واسعة الانتشار: "أخشى أن تكون النتيجة الحتمية انتصار الاتحاد الأوروبي".

خلال الشهرين الماضيين لم يتوقف وزير الخارجية المستقيل عن الكتابة الصحفية بشكل منتظم، وعبر عشرات المقالات والأعمدة التي استضافتها "ديلي تليجراف" واصل جونسون انتقاداته لحكومة تيريزا ماي وخططها للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، منتقدا رغبتها في الاستجابة لرؤى المؤسسات الأوروبية في بروكسل والإبقاء على علاقات فوق طبيعية مع الاتحاد، وعلى روابط اقتصادية وتجارية تحدّ من استقلال لندن وتقوّض مكاسبها من الانفصال.


"ماي" تواصل المناورة

لا تُظهر تيريزا ماي أنها ضد "بريكست" بشكل واضح، رغم مواقفها العملية وتهديداتها أحيانا باحتمال فشل خطة الخروج حال عدم الإقرار الكامل بخطتها "تشيكرز" لإنجاز الأمر. وفي سبيل الحفاظ على هذا القدر من الغموض الضامن لمستوى من التوازن بين داعمي بريكست ورافضيه، تُناور "ماي" بين وقت وآخر.

في وقت سابق قالت تيريزا ماي أمام مجلس العموم إنه إما القبول بخطة "تشيكرز" أو التضحية بالخروج من الاتحاد الأوروبي للأبد. كانت الرسالة واضحة للغاية ومفادها أنه لا بديل عن منح مزايا للاتحاد الأوروبي مؤخرا، لكن المعارضة المتصاعدة مؤخرا اضطرتها إلى تعديل موقفها نسبيا، أو ادعاء تعديله، وذلك عندما قالت إنها لن تقبل أي ضغوط من مؤسسات الاتحاد في بروكسل بشأن مسألة الانفصال. لكنها في الوقت نفسه رفضت فكرة ترتيب استفتاء ثانٍ لاستطلاع رؤى البريطانيين حول شروط مغادرة الاتحاد، معتبرة أن الحديث عن هذا الأمر "خيانة للديمقراطية".

وكتبت "ماي" في مقال بصحيفة "صنداي تليجراف" مؤكدة أن حكومتها تدعم خطة تشيكرز والاقتراحات التي تُحدد مسار المفاوضات وطبيعتها، وذلك رغم معارضة كثيرين من نواب حزب المحافظين. وقالت رئيسة الحكومة: "لن أُجبر على قبول تنازلات في غير صالحنا بشأن تشيكرز" رافضة دعوات طرح شروط الانسحاب للتصويت الشعبي، ومشددة على أنها ستنجح في تخطي أزمة عدم التوصل لاتفاقات واضحة بشأن الأمر.

في الوقت نفسه وعلى النقيض تماما، تعهدت "ماي" بالتمسك بخطة "تشيكرز" وما يخص العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الاتحاد الأوروبي عقب الانفصال، رغم المعارضة المتصاعدة في أوساط داعمي القطيعة الكاملة. هذا الأمر يُعني انحياز الحكومة البريطانية، أو رئيستها على الأقل، لإنشاء منطقة تبادل تجاري حرّة، كتعويض لخروجها من السوق الأوروبية الموحدة، تخضع لاتفاق جمركي وقواعد وترتيبات مشتركة فيما يخص الاتفاقات والشراكات مع أطراف أخرى.

مقر الحكومة البريطانية في دونينج ستريت
مقر الحكومة البريطانية في دونينج ستريت
 

خطة تشيكرز التي تحمل اسم المقر الصيفي للحكومة تواجه معارضة شرسة، إذ يعتبر أنصار "بريسكت" أنها التفاف على الإرادة الشعبية وتهرّب من الالتزام بما أقره استفتاء يونيو 2016. تيريزا ماي حاولت طمأنة المعارضين بقولها: "أُفضّل عدم التوصل إلى اتفاق بدلًا من تقديم تنازلات إضافية لبروكسل" لكنها على الصعيد العملي تواصل التفاوض بالرؤية نفسها، بينما يتواصل مساعدوها مع عدد من كبار المسؤولين وموظفي الحكومة مستطلعين رؤاهم وما إذا كان محتملا الدعوة لانتخابات عامة حال رفض نواب البرلمان ما ستتوصل إليه "ماي" مع الاتحاد الأوروبي بشأن الانفصال، حسبما قالت صحيفة "صنداي تايمز".


حبل أطول ومشنقة أكثر نعومة
 
في الوقت الذي تواصل فيه ساعة بريطانيا سيرها المتسارع باتجاه محطة الانفصال، لا تبدو آفاق المرحلة المقبلة واضحة، ولا يعرف أحد من الأوروبيين أو المهتمين من خارج أوروبا طبيعة اليوم التالي لإنجاز الطلاق بين لندن وبروكسل. مضى أكثر من سبع وعشرين شهرا على اختيار البريطانيين مغادرة الاتحاد، ويتبقى أقل من 7 شهور على تنفيذ خيارهم، وما زالت المفاوضات في المحطة صفر تقريبا.
 
الواضح حتى الآن أن أوروبا لن تُغامر بمصالحها مع بريطانيا، وفي ضوء هذه الرؤية المتحفظة فإنها لن تقبل خروجا كاملا وقطيعة شاملة مع لندن. هكذا تناضل بروكسل ومؤسسات الوحدة في سبيل الإبقاء على روابط أقوى مع المملكة المتحدة، وتضع كل الاحتمالات في حيز القبول والإمكانية، حتى لو كان تعطيل المفاوضات وإراقة مزيد من الوقت.
 
الرؤية السابقة بدت واضحة للغاية في تصريح لكبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي في ملف انفصال بريطانيا، ميشال بارنييه، الذي قال إنه من المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة إفساح حيز زمني أكبر للمسار التفاوضي المتعثر بين بروكسل ولندن، الذي كان مقررا الانتهاء منه قبل 18 أكتوبر المقبل (الموعد المحدد لانعقاد قمة قادة الاتحاد الأوروبي) مضيفا أنه "يجب إتمام المفاوضات بحلول منتصف نوفمبر".
 
ميشال بارنييه كبير المفاوضين الأوروبيين في انفصال بريطانيا
ميشال بارنييه كبير المفاوضين الأوروبيين في انفصال بريطانيا
 
ونقلت صحيفة "فرانكفورتر ألجيماينه تسايتونج" الألمانية أمس عن "بارنييه" قوله إنه "بعد أخذ الوقت الضروري لإبرام اتفاق انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي وإقراره في برلماني المملكة وأوروبا في الاعتبار، علينا إنجاز المفاوضات بحلول منتصف نوفمبر" ثم خاطب حكومة تيريزا ماي بالقول: "يمكننا هذا، وكل ما نحتاجه ليس الوقت، وإنما القرارات السياسية".
 
في حديثه عن السيناريو المستقبلي لما بعد الانفصال، قال كبير المفاوضين الأوروبيين إن دول الاتحاد مستعدة لاعتبار بريطانيا عضوا في المنظومة الأوروبية بعد انفصالها، وحتى نهاية العام 2020 (21 شهرا بعد الانفصال الفعلي) دون "حق التصويت في القرارات" وذلك بدعوى مساعدتها في الفترة الانتقالية. هذا التصور لا يمكن اعتباره هدية مجانية من مؤسسات بروكسل لحكومة لندن، وإنما هو مقايضة ينتظر صاحبها المقابل، خاصة أن الحديث عن دعم بريطانيا في المرحلة الانتقالية لا يبدو دقيقا، في ظل قوة الاقتصاد البريطاني وتحمل لندن نسبة كبيرة من موازنة الاتحاد، وانحياز البريطانيين أنفسهم للانفصال بسبب ما يستشعرون أنه ظلم مباشر للمملكة وتوزيع غير عادل لمزايا الوحدة، تستفيد منه دول الاتحاد الأخرى أكثر من بريطانيا.
 
لا ترفض تيريزا ماي هذا التصور الأوروبي، لكن يرفضه البريطانيون. المهم أن التوافق بين مؤسسات بروكسل والحكومة البريطانية، أو "ماي" نفسها، يُعني أن سيناريو تمديد المهلة الزمنية للمفاوضات سيدخل حيز التنفيذ. هذا الأمر معناه أن أوروبا تجدل حبلا أطول رهانا على إمكانية ربط بريطانيا في ساق الاتحاد الأوروبي، وفي القلب من هذه العملية تُضفي قدرا من النعومة على خيوط حبلها لصنع مشنقة أكثر نعومة. قد لا تقصف عنق بريطانيا نفسها، ولكنها قد تطيح برقاب تيريزا ماي وحكومتها.
 

الخروج بذراع واحدة
 
وسط مناخ الشد والجذب والصراعات داخل بريطانيا، وبين لندن ومؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل، تزداد المخاوف وتتصاعد التقديرات بشأن موجات الخسائر المتوقعة سياسيا واقتصاديا. سيخسر الاتحاد الأوروبي عنصرا أساسيا من عناصره، وقوة اقتصادية ضخمة تُشكّل فارقا في موازنة الوحدة وفي الوزن النسبي للاقتصاد الأوروبي وميزانه التجاري وتعاملاته الخارجية، لكن بريطانيا نفسها قد تتكبد خسائر لا تقل عمّا ينتظر بروكسل.
 
أخطر الأمور التي تنتظر لندن عقب إقرار الانفصال وإنجاز عملية مغادرة الاتحاد الأوروبي في مارس المقبل، هو تمرد بعض الأطراف التابعة للمملكة على الخطوة، ورغبتها في البقاء داخل المنظومة الأوروبية والتمتع بمزايا الوحدة السياسية والاقتصادية والعملة الموحدة، وفي مقدمة الأطراف المرشحة للبتر تأتي اسكتلندا.
 
في استطلاع حديث للرأي حول مستقبل اسكتلندا عقب مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، خلص الباحثون إلى أن أغلبية من الاسكتلنديين قد يصوّتون لاستقلال بلادهم عن المملكة المتحدة، وبحسب النتائج قال 47% ممن شملهم الاستطلاع إنهم سيصوتون لصالح الاستقلال، مقابل 43% قالوا إنهم سينحازون للبقاء مع المملكة المتحدة. وحال عدم إنجاز الانفصال فإن 43% سيصوتون للاستقلال، فيما سيختار 47% البقاء مع المملكة المتحدة.

النتائج الملفتة أثارت حالة من الانزعاج في الأوساط البريطانية والاسكتلندية على حد السواء، وعلق عليها نشطاء داعمون للوحدة الأوروبية من مؤسسة "بيست فور بريتين" قائلين إن "النتائج تُهدد الوحدة بشكل خطير". وقالت كاثرين ستيهلر، عضو البرلمان الأوروبي عن حزب العمال البريطاني، إن هناك خطرا واضحا وشاملا على مستقبل المملكة المتحدة. في وقت أشار فيه البحث الذي أجرته مؤسسة "ديلتا 

وأشار البحث الذى أجرته (ديلتا بول فور بيست فور بريتن) إلى أنه قد يكون هناك أغلبية للاستقلال فى اسكتلندا بعد البريكست.

مسألة استقلال اسكتلندا وتوحيد أيرلندا الشمالية والجنوبية واحدة من المخاطر المحيطة بمسار انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، لكن بجانب هذا الأمر فإن لندن قد تجد نفسها في مواجهة ضغوط اقتصادية قاسية، سواء بسبب العروض الأمريكية والصينية لتوقيع اتفاقيات تجارة حرّة، وصعوبة استجابتها لأي منهما وخسارة الوفاق الناعم مع الطرف الآخر، أو فيما يخص حلف شمال الأطلنطي وضغوط واشنطن لزيادة نفقات الدفاع والارتقاء بها إلى حدود 4% من الناتج الإجمالي. هذه النقطة تمثل ضغطا على بريطانيا، مع خسارة الدعم الأوروبي داخل الحلف، وانعدام قدرتها على مناورة الولايات المتحدة حال رفضت عرض ترامب بتوقيع اتفاقية تجارة مشتركة إرضاء للصين، أو قبولها العرض والتضحية بمساندة بكين. وفي القلب من هذا فإنها على المحكّ في مسألة خسارة أوروبا بشكل كامل، أو الإبقاء على روابط لن تكون في صالحها بقدر ما ستكون مفيدة لدول القارة وأعضاء مؤسسات بروكسل. ومُعطّلة في الوقت نفسه لأي اتفاقات تجارية محتملة مع شركاء لن يكونوا سعداء بتحول لندن إلى بوابة خلفية لتسرب السلع والمزايا لعموم أوروبا.


ماراثون مزدحم ونهاية بدون فائزين

الموقف المتوتر داخل الحكومة البريطانية، وتصريحات بوريس جونسون وغيره من السياسيين المنتقدة لرؤى تيريزا ماي وخطتها "تشيكرز" للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، والمطالب المتصاعدة بترتيب استفتاء شعبي آخر حول شروط مغادرة الاتحاد، واعتراضات "ماي" على الفكرة، وموقف بروكسل ومؤسساتها من الخروج الكامل والقطيعة الشاملة مع لندن، ومساومات واشنطن وبكين وإغراءاتهما للمملكة المتعدة لقطع كل الطرق والروابط مع القارة العجوز، كلها تصب في اتجاه تصعيد الموقف والوصول به إلى مرحلة حرجة وضد مصالح كل الأطراف.

الخيارات المتاحة بكاملها تحمل داخلها بذورا لإعادة إنتاج الأزمة، أو لخلق أزمة أكثر عُمقا، فإما أن تستجيب تيريزا ماي وحكومتها لرغبة الاتحاد الأوروبي وتُبقي على علاقات فوق طبيعية وروابط اقتصادية وتجارية في صالح الاتحاد، وهذا الأمر يُعني صداما مع البريطانيين الذين سيكتشفون فجأة أن حكومتهم ضحّت بخياراتهم أو التفّت عليها، وإما أن تُنجز "ماي" خروجا شاملا من الاتحاد، وهذا قد يُعني دخول نفق طويل ومظلم من التوترات مع الجيران الأوروبيين ومؤسسات بروكسل. في الحالة الأولى ستخسر لندن عروض الاتفاقيات التجارية مع واشنطن وبكين، وستخسر القوتين الاقتصاديتين الأبرز عالميا، وفي الحالة الثانية ستخسر أوروبا، وإما أن تنحاز إلى واشنطن أو بكين في اتفاقات التجارة، ما يُعني الفوز بمزايا من واحدة وخسارة الأخرى.

أوروبا نفسها ستخسر الإسهام الكبير للاقتصاد البريطاني في أرقامها ومؤشراتها السوقية، وحصّة لندن في موازنة الاتحاد، ولن يُصبح بإمكانها الاستفادة من مزايا الاتفاقات والشراكات التي تعقدها بريطانيا مع أطراف أخرى. سينعكس الأمر على العملة الأوروبية الموحدة "اليورو" رغم أن بريطانيا لم تتخل طول السنوات الماضية عن عملتها "الجنيه الاسترليني" إلا أن وجودها النسبي داخل منطقة اليورو كان يُضفي مزيدا من القوة على عملة أوروبا.

يمكن القول إن الماراثون الدائر حاليا يزدحم بعشرات المتسابقين، مؤسسات أوروبية تسعى لانتزاع اتفاقات وشروط لصالح الاتحاد حتى لو خصمت من استقلال بريطانيا، وحكومة بريطانية تنحاز جزئيا لمؤسسات الاتحاد ضد رغبات المصوتين في "بريكست"، وبريطانيين يشعرون أن آمالهم التي ألقوها في صناديق الاستفتاء قبل أكثر من 27 شهرا تتبخر الآن أو يتم الالتفاف عليها. وفي الوقت نفسه تقف الولايات المتحدة والصين تتحيّن كل منهما الفرصة لتحقيق مكاسب اقتصادية على حساب بريطانيا والقارة العجوز، وعلى حساب الطرف الآخر. وهذه التركيبة تُشير إلى أن هذا الماراثون المزدحم قد يصل إلى محطة النهاية دون فائز واحد، الجميع سيخسرون بدرجات متفاوتة، وهذا الأمر قد يُلقي بظلاله على الاقتصاد العالمي، وربما على التوازنات السياسية أيضًا.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق