خسارة قريبة أم انهيار بعيد؟.. صراع الديوك يحتدم بين الولايات المتحدة والصين

الخميس، 02 أغسطس 2018 11:00 م
خسارة قريبة أم انهيار بعيد؟.. صراع الديوك يحتدم بين الولايات المتحدة والصين
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وخريطة الصين
حازم حسين

في الحروب لا تكشف الدول كل أوراقها دفعة واحدة. هذا مكمن الخطر في الصراع المشتعل بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، والحرب التجارية التي يتعالى ضجيجها يوما بعد يوم.

المشهد الدائر بين واشنطن وبكين أقرب إلى مصارعة ديوك، كلما كانت السيقان أطول والمناقير أكثر حدّة، كانت فرص الإدماء أوسع. غالبا لا يخرج أي ديك منتصرا، فالجراح التي تُخلّفها المعركة قد تكون سببًا في إخراج الفائز من الحلبة محمولا كما يخرج الخاسر.. وحتى مع تفاوت القدرات أحيانا تأتي الرياح بما لا يشتهي الجميع، وتلعب المفاجأة دورًا حاكمًا في مشهد الختام.

بالحسابات الأولى لا تخوض الصين صراعًا متكافئا. الاقتصاد الأمريكي (الناتج الإجمالي يتجاوز 20 تريليون دولار) يتجاوز أربعة أمثال نظيره الصيني (الناتج الإجمالي 5 تريليونات دولار) وحتى الميزان التجاري الذي يميل بفارق ضخم في صالح الأخيرة (500 مليار دولار لصالح الصين مقابل 125 مليارا للولايات المتحدة) ليس أمرا إيجابيا للتنين الصيني، إذ يُعني أن بكين ستظل تحت رحمة واشنطن بدرجة أكبر مما يمكن أن تمثله الصين من إزعاج حال استمرار لعبة عضّ الأصابع بين البلدين.


قذائف أمريكية بعيارات أكبر

في مايو الماضي أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عدم رضائه عن نمط العلاقات التجارية العالمية حاليا، معتبرا أن بلاده تتعرض للظلم بسبب ممارسات بعض الشركاء. تبع هذه التصريحات فرض رسوم جمركية حمائية على واردات الصلب والألومنيوم وبعض السلع الغذائية من عدّة دول، ثمّ طوّر الأمر لاحقا باستهداف قائمة طويلة من السلع الصينية.

بدأ ترامب المواجهة مع الصين بفرض 10% رسوما على سلّة سلع صينية بقيمة 34 مليار دولار، ما ردّت عليه الصين بمنطق المعاملة بالمثل، معلنة أنها ستعتمد المبدأ نفسه حال تصعيد الولايات المتحدة. الأخيرة لم يعجبها موقف بكين فزادت الرسوم إلى 25%، ثم أعلنت لاحقا استهداف سلع أخرى قيمتها 200 مليار دولار بـ10%، ثم قطع "ترامب" مدى أبعد بالإعلان مؤخرا عن زيادة نسبة الرسوم الأخيرة إلى 25%.

في هذا الإطار، قال مسؤولون بالإدارة الأمريكية، بحسب ما نقلت وكالات أنباء، إن الرئيس دونالد ترامب يعتزم فرض 25% ضريبة على سلع صينية بقية 200 مليون دولار. لافتين إلى أن الرئيس أوكل للممثل التجاري روبرت لايتايزر مهمة دراسة الأمر والنظر في مسألة زيادة الرسوم من 10 إلى 25%، في إطار الموقف الأمريكي الساعي إلى "حض الصين على تغيير سلوكها".

المراحل التي قطعها الموقف الأمريكي، بدءا من تصريحات ترامب في مايو، ثم بدء فرض الرسوم الحمائية مطلع يوليو، يشير إلى إيقاع متسارع على طريق التصعيد. القفز بنسبة الرسوم من 10 إلى 25%، وبسلّة السلع المستهدفة من 34 إلى 200 مليار دولار، لا يُعني فقط المعنى الظاهر بتحريك خسائر الصين من 3.4 مليار دولار إلى 50 مليارا، لكنها تُعني بالدرجة الأولى انغماسا أمريكيا في الحرب بوتيرة أعلى وأكثر حدّة، وتعزيزا لأسلحتها وأعيرتها النارية، وأيضا الإشارة إلى استعدادها للوصول لمدى أبعد.


ضربة أمريكية مصحوبة بتهديدات

في الوقت الذي تحركت فيه واشنطن باتجاه التصعيد، يظل من الاحتمالات المطروحة على الطاولة أن تتحرك الصين في الاتجاه نفسه. تهديدات بكين وتصريحات مسؤوليها في الفترة الماضية شدّدت على هذا المسلك، وبالتأكيد فإن الولايات المتحدة لن تكون سعيدة بالردّ، لأنها ستضطر للتصعيد من جانبها مرة ثانية، انتصارا لصورتها وموقعها المعنوي في مقدمة العالم، وأيضًا لموازنة الأثر الاقتصادي للرسوم الصينية والإبقاء على عوائد واشنطن من الحرب بالشكل الذي يُثقل كفّتها في مواجهة الغريم.

تحسّب الولايات المتحدة الأمريكية لهذا الأمر دفع وزير التجارة الأمريكي، ويلبور روس، إلى استباق أي موقف صيني بالقول إن الرسوم الحمائية الجديدة لن يكون لها أي تأثير يُذكر على اقتصاد البلد الآسيوي الكبير، مشيرا إلى أن عوائد 25% رسوما على 200 مليار دولار تساوي 50 مليار دولار، ما يوازي 1% تقريبا من الاقتصاد الصيني البالغ 5 تريليونات دولار، معتبرا أن هذا الأمر "لن يكون شيئا كارثيا" مشيرا إلى أن ترامب "يشعر الآن أن الوقت ملائم لمزيد من الضغط على الصين لتعديل سلوكها".

بجانب تهوين "روس" من حجم الفاتورة التي ستتكبدها الصين، تواترت تلميحات في ثنايا تصريحات لمسؤولين أمريكيين إلى أن البيت الأبيض قد يلجأ لمزيد من التصعيد حال إصرار الصين على الردّ بالمثل. هذا التلميح يُعني أن الرسوم الأمريكية قد تشمل إجمالي الواردات من البلد الآسيوي والبالغة 500 مليار دولار، ستبلغ فاتورتها 125 مليار دولار حال إخضاعها لرسوم حمائية بنسبة 25%، وهي قيمة الصادرات الأمريكية للصين طوال العام، التي لن تُحصّل عنها الصين أكثر من 31 مليار دولار. هكذا تُهدد واشنطن غريمتها العنيدة بتكبيدها 90 مليار دولار خسارة إذا لم تقبل راضية بخسارة 50 مليار دولار.


التنين الآسيوي يرفض الابتزاز

في الجولة الأولى من الصراع وحرب الرسوم أعلن ترامب نواياه وصمتت الصين أيامًا. في الجولة الجديدة لم تترك بكين للولايات المتحدة متّسعًا من الوقت للشعور بالنشوة والانتصار، ولو معنويا، إذ سارعت بالرد على ما أعلنته الإدارة الأمريكية بشكل ربما أسرع من توقع البيت الأبيض.

خلال ساعات من الإعلان الأمريكي، خرج المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، جينج شوانج، معلنا رفض بلاده لما أسماه بـ"الضغط والابتزاز" داعيا الولايات المتحدة إلى العودة للمنطق وعدم انتهاج هذا الأسلوب الذي لن يكون له أي تأثير يُذكر على الصين، حسبما قال متحدث الخارجية في مؤتمره الصحفي اليومي. وتابع شوانج: "ننصح واشنطن بتصحيح موقفها وعدم انتهاج أسلوب الابتزاز الذي لن ينجح مع الصين. ننصح الجانب الأمريكي أيضا بالعودة للمنطق وعدم ترك العواطف تؤثر على القرارات، لأنهم في النهاية سيلحقون الضرر بأنفسهم".

المسؤول الصيني قال إن تصفية النزاع القائم من طرف واحد أمر مرفوض، وإن الحوار هو السبيل الوحيد لحلّ الأزمة، والباب مفتوح طوال الوقت للنقاش والجلوس إلى الطاولة، لكنه شدّد على أن أساس هذا الأمر أن يقوم على المساواة والاحترام المُتبادَل، بينما لن يؤدي الابتزاز والضغوط والتهديدات أحادية الجانب إلا إلى تصعيد الأمر وتحقيق نتائج عكسية.
 

الهلع يسيطر على أسواق العالم
 
يقدر من الإصرار والتحدّي تمضي الولايات المتحدة والصين في حربهما التجارية. لا يبدو في الأفق أي أمل في تراجع إحداهما أو تصفية الأمر بصورة هادئة، وهذا الأمر يستشعره الجميع من مراقبي المشهد، وبينما يخطو الغريمان بهدوء وثقة، يتمدّد الهلع في أنحاء العالم ويوسّع حضوره في الأسواق.
 
في اليابان فقد مؤشر "نيكي" القياسي 1.03% من قيمته اليوم متهاويا من أعلى مستوياته في أسبوعين. الأسهم الأمريكية تراجعت أيضا وظهرت الآثار السلبية على أداء الشركات التجارية أو المتصلة بالقطاع التجاري، مع انخفاض مجموعة FAANG من الأسهم. الأمر نفسه شهدته كثير من الأسواق الأوروبية التي اهتزت أسهمها القائدة، وخسرت شركاتها الحساسة للتجارة نسبًا كبيرة من قيمه أسهمها.
 
على صعيد أسواق العملات، انخفض اليورو لأدنى مستوياته في أسبوع مسجلا 1.1626 دولار، مقابل صعود الدولار في التعاملات الأوروبية المبكرة. كما شهد الدولار الاسترالي واليوان الصيني والين الياباني ضغوطا متصاعدة. وتراجع الجنيه الاسترليني 0.4% إلى 1.3078 دولار، وهبط الدولار الاسترالي الذي يُعدّ مؤشرا على حجم النمو الصيني (يعتمد اقتصاد استراليا على تصدير المواد الخام للصين) 0.4% إلى 0.7377 دولار أمريكي. وتراجع اليوان الصيني في المعاملات الخارجية 0.2% مسجلا 6.8372 يوان للدولار.
 
في المقابل كان أداء الدولار إيجابيا بدرجة أكبر، مدفوعا بتعزيز إيجابي من زيادة عوائد أذون وسندات الخزانة الأمريكية، وزيادة الفائدة مرتين في 2018 مع ترقب زيادتين أخريين أعلن عنهما مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) خلال العام الجاري، رغم إبقائه على الفائدة في مستوياتها الحالية 2%، لكن يظل المناخ الإيجابي هو المسيطر على أداء الدولار مع تحسّن سوق الوظائف ومستويات الأجور والاقتراب من معدل التضخم المستهدف عند 2% واقتراب النمو من 4.2%. وفي ضوء هذه الملامح الإيجابية زاد مؤشر الدولار (يقيس أداءه مقابل ست عملات) بنسبة 0.3% مسجبا 94.863 نقطة، ليبتعد بهذا عن أدنى مستوياته طوال ثلاثة أسابيع ونصف الأسبوع، وهو المستوى الذي جله الأسبوع الماضي عند 94.084، حسبما قالت وكالة رويترز.

هذه الأرقام والمؤشرات تُعني أن مزيدا من التوغل في الحرب لا يُعني تهديدا مباشرا للطرفين المتحاربين، لكن ما تُنتجه هذه الحرب من مناخ ضبابي ضاغط على الاقتصاد تترجمه المواقف العملية للمستثمرين والدول الأخرى إلى حالة من الهلع، تضغط بدورها على الأسواق العالمية بشكل يُكبّدها مزيدا من الخسائر. هذا الهلع لن يكون في صالح إنهاء الحرب التجارية بهدوء، فكلما تأثر الاقتصاد العالمي تقلّصت قدرته على استيعاب مزيد من السلع والصادرات الصينية، بما يُكبّد التنين الصيني مزيدا من الخسائر والتراجع في معدلات النمو، وبالتبعية يجعلها أكثر تشدّدا في حربها مع الولايات المتحدة حتى لا تنزلق على المنحدر بشكل كامل.


خسارة قريبة أم مكسب بعيد؟

لا تُبدي الولايات المتحدة حاليا أي قبول لفكرة التراجع عن إجراءات الحمائية في مواجهة طوفان السلع الصينية. تقول واشنطن إن الصين لا تخوض منافسة تجارية عادلة، في ظل قوانينها المتساهلة فيما يخص الملكية الفكرية وإبقائها على سعر عملتها منخفضا بدرجة تمنحها موقعا تنافسيا غير مستحق. إضافة لهذا لا يبدو أن واشنطن تقبل التصعيد أو التهديد من جانب الصين، وتقول الأخيرة إنها ستتعامل بالمثل ولا ترى حلا للأزمة إلا بالحوار دون شروط أو ضغوط أو ابتزاز. هكذا يضع البلدان العربة أمام الحصان، ويقفان في حلبة مصارعة مفروشة بـ25 تريليون دولار، أو ما يقترب من 32% من الاقتصاد العالمي (يسجل الناتج الإجمالي العالمي 80 تريليون دولار منها 20 للولايات المتحدة و5 للصين).

يمكن النظر للموقف الأمريكي باعتباره متشدّدًا وأحاديًّا، لكن موقف الصين لا يبدو متساهلا هو الآخر، ففي الوقت الذي تحدثت فيه بكين عن الحوار كوسيلة لتصفية النزاع، هددت باعتماد مبدأ المعاملة بالمثل لآخر مدى وقالت في رسالة للولايات المتحدة إنهم "في النهاية سيُلحقون الضرر بأنفسهم"، وأكد الأمر متحدث الخارجية الصينية بقوله: "إذا اتخذت الولايات المتحدة تدابير لتصعيد الوضع، فمن جانبنا سنتخذ بالتأكيد تدابير مضادة". هذا المسلك المُعلن عن فتح باب الحوار، والمهدد في الوقت نفسه بعواقب سيئة وتصعيد أكثر حدّة، لا يُعني الاقتراب من حسم الأمور، وإن كان ثمة إشارة قوية خلفه، فهي أن الأمور تتجه لمزيد من السخونة.

في ضوء الأوزان النسبية للبلدين، وحدود استيعاب السوق الداخلية لكل منهما، قد تكون كفّة الولايات المتحدة أكثر رجحانا من كفّة الصين. الأولى تملك سوقا داخلية قوية وقادرة على استيعاب ناتجها وفوائضها الصناعية بعكس الثانية، وتمتلك عملة قوية معيارية وشريكة لكل العالم في نموّها، عكس الثانية أيضا، في الوقت الذي تعتمد فيه الصين على واشنطن بشكل أكبر، وتتقدم كأكبر حائز للسندات الأمريكية وصاحب أكبر احتياطي من الدولار، ويجعلها استيراد أغلب احتياجاتها من الخام والمواد الأولية عُرضة لتقلبات السوق وجنون الدولار.. هذه الصورة لا تُبشّر بانتصار الصين في الحرب، وفي الغالب ستحصل الولايات المتحدة على ما تُريد، ولعلّ الصين من جانبها تعرف أنها الطرف الخاسر على المدى البعيد، أو أنها قد تكون مضطرة لتقديم تنازلات مستقبلا. لكن يظل السؤال: هل تختار الصين الخسارة القريبة؟ أم تواصل المكابرة وتتجه إلى الانهيار البعيد؟.. لا أحد يملك الإجابة الآن، لا نحن ولا واشنطن، والأكثر خطورة ألا تكون الصين نفسها تعرف الإجابة.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق