روسيا في سوريا..المبادئ قبل المصالح

الثلاثاء، 04 سبتمبر 2018 04:32 م
روسيا في سوريا..المبادئ قبل المصالح
د. مغازي البدراوي يكتب:

منذ بدأ الحملة العسكرية الروسية في سوريا والجدل والحديث لا يتوقف عن أطماع روسيا وطموحاتها من وراء هذه الحملة، ولم يصدق الكثيرون خاصة في الشرق الأوسط والعرب وفي الغرب أيضاً، أن روسيا ذهبت إلى سوريا لتكافح الإرهاب وتحمي الدولة السورية من الانهيار والتفتت، واعتبروا أن هذه مثاليات لا وجود لها في العلاقات الدولية، ولهذا كثيراً ما قرأنا وشاهدنا الكثيرين يضعون موسكو وواشنطن على درجة واحدة من الأهداف والمصالح في سوريا والشرق الأوسط، وأن كلاهما يسعى لفرض نفوذه وهيمنته وتحقيق مصالحه الخاصة، وأن كلاهما ليس لهما حلفاء ولا أصدقاء بل علاقات مصالح من أجلها يمكن التضحية بأي حليف أو صديق واستبداله بأخر حتى لو كان عدواً من قبل.

وتدور تلك المناقشات من باب أن موسكو تساوم، بغرض رفع سعر موقفها السياسي، حتى تبادله في وقت لاحق بأموال أو مصالح مادية أخرى.

لو كان حل جميع قضايا السياسة الخارجية ممكنا بواسطة الأموال وحدها لهان الأمر، إلا أن تاريخ روسيا على مدار ألف عام مضت، مع الأسف، يملأه صراع مع أعداء لم تكفهم الأموال وحدها، بل أرادوا ويريدون كل شيء، فروسيا لم تحارب يوما من أجل الثروة أو استعمار الدول ونهب الشعوب، بل حاربت من أجل حقها في البقاء، وصارعت من أجل الوجود. لذلك كانت نشأة الإمبراطورية الروسية مبنية على صدّ روسيا للعدوان الأجنبي، وليس على احتلال الأراضي والسطو على المستعمرات كما كانت تفعل الإمبراطوريات الأوروبية، حيث لم تسعى روسيا إلى أن تضمّ إلى امبراطوريتها أراضي الأعداء الذين انتصرت عليهم، ممن بادروها العداء وحاولوا تدميرها من المغول والتتر والبولنديين والأتراك والسويديين والفرنسيين والألمان. وكانوا الأعداء الذين حاولوا القضاء على روسيا وغزوها طمعاً في ثرواتها، من الكثرة بحيث أصبحت روسيا أكبر دولة في العالم لها أعداء، وجاء إنشاء المعسكر الاشتراكي في أوروبا كرد فعل لعدوان هتلر على الاتحاد السوفيتي. أما دعم البلدان العربية في صراعها من أجل الاستقلال، فقد كان مبنيا على الأيديولوجية السوفيتية في مكافحة الإمبريالية الأمريكية وأعوانها، والحفاظ على الأمن القومي للدول، وأيضاً من أجل البحث عن حلفاء.

لقد كانت روسيا دائما على استعداد لتقديم أي تضحيات من أجل صدّ العدوان ودرء المخاطر، لذلك كانت الكلمة السحرية التي كانت ولازالت على رأس الأولويات إبان عصر الإمبراطورية الروسية، والاتحاد السوفيتي، واليوم في روسيا وسوريا هي "الأمن". فروسيا دائما ما تحارب دفاعا عن أمنها القومي، وليس من أجل المال أو الثروات، لم يتغير شيء منذ قديم الأزل وحتى اليوم.

وذلك على العكس تماماً من الولايات المتحدة الأمريكية التي صنعت تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن في أفغانستان من أجل مواجهة الاتحاد السوفيتي هناك، ثم عادت فصنعت "داعش" في سوريا من أجل التخلص من الأسد. ونسّقت الولايات المتحدة الأمريكية انقلابا فاشيا في أوكرانيا، وبدأت هناك حربا أهلية وخلقت تهديدا وجوديا لروسيا. وهناك الاستفزاز الخاص بما يسمى الأسلحة الكيميائية في سوريا، والتهديد بضرب سوريا بهدف حماية ما تبقى من جماعات إرهابية ومرتزقة في مدينة إدلب، وها هو الحصار على روسيا الذي يضيق يوما بعد يوم، ليصبح من الواضح تصاعد وتيرة الضغط الغربي على روسيا التي ترى نفسها من جديد مضطرة للدفاع عن وجودها.

وبينما لازالت أمريكا تتربع على عرش قوتها العسكرية والاقتصادية فلا يوجد لديها سوى هدف رئيسي: تدمير عدويها المنافسين المباشرين روسيا والصين، ولكي توفر لنفسها ظروفا جيدة لمرحلة ما بعد الفوضى الشاملة، وحتى لا يصبح لأي أحد أفضلية عليها حتى عقب انهيارها، بل على العكس بحيث يصبح الجميع في حال أسوأ من حال الولايات المتحدة الأمريكية. إن يد المخابرات المركزية الأمريكية في نشر الفوضى عبر الشرق الأوسط واضحة للجميع، أما روسيا فهيبالعكس تماما، مهتمة باستقرار المنطقة، فنجاح الإرهابيعني أن الفوضى وعدم الاستقرار سيصلانإلى روسيا.

سوريا ليست سوى ركن صغير من العالم، تواجه فيه روسيا تلك الفوضى وذلك الدمار، لكن الروس يرون أنه ليس لروسيا، مع الأسف، عدد كبير من الحلفاء في حربها ضد الفوضى والدمار، حتى في الشرق الأوسط، الذي كان من المفترض أن يكون به أكثر الأطراف حرصا على استقراره!.

من الصعب إقناع أحد بأن روسيا لا تخون حلفاءها التزاما بالمبادئ والقيم النبيلة، حيث أن النبل في حد ذاته، من وجهة نظر المتشككين، قد يحمل قيمة وفائدة. على الجانب الآخر فقد خانت الولايات المتحدة أقرب حلفائها: منذ أخر ملوك مصر فاروق، وصولا لشاه إيران ومن بعده صدام حسين وحسني مبارك والأكراد، فلا يوجد لها حلفاء في الشرق الأوسط سوى إسرائيل، لكن حتى في هذا التحالف فإن أحدا لا يستطيع أن يحدد من الرئيسي ومن الفرعي منهما. إن الولايات المتحدة على استعداد لأن تضحي أو تخون أو تستبدل أيا من "حلفائها"، بينما روسيا التي لم تخذل الأسد في أحلك أوقاته، وهي لا تحصل بذلك على حليف حقيقي فحسب، وإنما تضرب مثالا على الفرق بين علاقاتها بحلفائها وعلاقات الولايات المتحدة بحلفائها. لعل هذا هو السبب الذي يدفع مأجوري الولايات المتحدة الأمريكية في الإعلام لمحاولة التقليل من هذا الفرق الشاسع بين النوعين من العلاقات.

لكن رغم هذا هناك بالتأكيد رشوة يمكن تقديمها لروسيا من أجل التخلي عن سوريا، ومن أجل أن تخرج روسيا من هناك بكل طائراتها، وألّا تشارك في المعارك ضد الإرهابيين. هذه الرشوة هي ألّا تتدخل أي دولة أخرى في الشأن السوري، وأن تتخلى الولايات المتحدة عن العدوان الذي تشنه على العالم بأسره، وأن يلتزم الغرب بالمواثيق والأعراف الدولية، وأن تتوقف الاستفزازات والغارات غير المشروعة على الأرض السورية. باختصار، لكي تتوقف موسكو عن دعم الأسد، يتعيّن أن يتوقف الباقون عن دعم من يريدون عزل الأسد. روسيا دائما تحث جميع أطراف الأزمة على الحوار من دون شروط مسبقة، وبلا تدخل خارجي، فالموقف الروسي يتلخص بمراعاة مصالح جميع الأطراف.

وبينما يتحقق ذلك الشرط، فإن ثمن تخلّي روسيا عن دعم التسوية العادلة في سوريا يساوي تقريبا ثمن تخلّي روسيا عن أمنها القومي. تلك حقيقة واضحة وضوح الشمس.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة