ألا ليت بالي لا يبالي

الجمعة، 19 أكتوبر 2018 01:42 م
ألا ليت بالي لا يبالي
شيرين سيف الدين

بالرغم من أن سفر السياحة غايته الترفيه والانفصال عن أرض الواقع والمتعة لكن هيهات هيهات فهناك من لا يستطيعون إيقاف عقولهم عن التفكير وهناك من يحملون هموم أوطانهم في القلب والعقل أينما حلوا فيرون مالا يراه الآخرون وتكون لهم مشاهداتهم الخاصة وأفكارهم وخيالهم الذي تتجه بوصلته دائما إلى الاستفادة من تجارب وخبرات الآخرين حتى وإن لم تكن زياراتهم لتلك المدن هي الأولى لكن في كل مرة يرون الأمور بعين مختلفة ويكتسبون الجديد ، وحين أسافر  دائما ما أتمنى ألا يبالي بالي كي استمتع فقط وأنسى كل ما يُكَدِرني سواء في الشؤون الخاصة أو العامة ولكن هذا أمر مستحيل وتحضرني عادة كلمات أغنية الراحل سيد درويش ( هاتجن ياريت يا خواننا مارحتش لندن ولا باريس ... دي بلاد تمدين ولطافة وذوق ونظافة وحاجة تغيظ ) فعلى الرغم أن مصر لا تقل جمالا عن تلك الدول بل قد تزيد إلا أن ما ينقصها فقط هو الاهتمام من الجميع حكومة ومواطنين .

في السفر الخارجي تحديدا يلتقي الإنسان بشعوب أخرى ويتعامل مع ثقافات مختلفة ، وبالتالي يتعرف على مختلف العادات والسلوكيات وعليه أن يختار منها المفيد ويحاول أن ينقله إلى وطنه كي يسمو كما سما غيره .

في رحلة أخيرة قصيرة لكل من باريس وروما كنت أنظر لكل شيء نظرة مقارنة و غِيرَة من هؤلاء الذين كنا في عصور ماضية نسبقهم ونتفوق عليهم علميا وحضاريا وثقافيا ، فنقلوا هم عنا وطوروا والتزموا ، وتدهورنا نحن وهجرنا ما كنا نتميز به وبدأنا في اقتباس السيىء منهم وترك المفيد ، وللأسف فأهم ما تنقله شعوب العالم العربي ولا أستثني نفسي عن شعوب الدول المتقدمة هو الموضة وبعض وسائل التكنولوجيا الترفيهية فقط.

وللأمانة فإن أكثر ما يميز الدول الأوروبية المتقدمة عن غيرها هم المواطنون الذين اهتمت دولهم بتنشئتهم بشكل صحيح واعتبرتهم ثروتها الحقيقية وبالفعل  فالأغلب الأعم منهم يحب وطنه وينتمي إليه ويحافظ عليه ويحترم قوانينه ، أعلم أن الكثير سيعتبر أن تطبيق القانون بحزم هو ما يؤدي لاحترامه وهي حقيقة لا جدال فيها ، لكن مع الوقت يصبح احترام القانون عادة وليس فقط خوفا من العقاب .

وسأبدأ ببعض الملاحظات والأمثلة البسيطة التي يستطيع أي مسافر أن يستشعرها منذ لحظة وصوله لأية دولة أوروبية أو متقدمة ، فأغلبية المواطنين هناك لا يلقون بورقة خارج صندوق القمامة بالرغم من عدم وجود عقاب يقع على أحد إن قام بمثل هذا الفعل ، ولا تجد من يبصق في الشارع أثناء سيره ، ولا تجد من يقرر أن يقضي حاجته في الطرقات وقتما أراد ، وذلك مع قلة التواجد الأمني أو ندرته ففي الغالب يتركز رجال الشرطة في الأماكن الهامة والسياحية والدينية فقط لتأمينها وليس ( تنظيمها ) ، وتجد أن من يخترق تلك القواعد في الأغلب هم من أبناء الجنسيات الأخرى الوافدين على تلك الدول  .

أما بالنسبة للمرور فهناك احترام ذاتي من المواطنين للمرور ، فتستطيع في روما مثلا أن تجد الأغلبية تحترم قواعد المرور وتلتزم بها برغم الازدحام المروري الشبه دائم ، وتشابك الطرقات وتعدد وسائل المواصلات وضيق الكثير من الشوارع التي تعد حارات وتسير بها السيارات ، وبالرغم أيضا من عدم وجود رجال مرور في معظم الأماكن ولا كاميرات مراقبة ، لكن الجميع سواء سائقين أو مشاه يعرفون تماما متى يتحركون ومتى يتوقفون مع التزام شبه كامل بإشارات المرور  ، وضرورة ترك مسافة بين السيارات ، وبالطبع هناك قلة غير ملتزمة فالتعميم يخالف الصواب ، ولكن في المجمل هناك احترام لقواعد المرور .

إن أكبر دليل على أن تلك الشعوب هي التي تلتزم ذاتيا وليس القانون هو من يجبرها هو عدم الالتزام من قبل بعض  الجنسيات الأخرى وعلى رأسهم الأفارقة وخاصة في الأماكن السياحية الهامة فمثلا تجدهم في باريس بجوار برج إيفل وفي محيط متحف اللوفر يفترشون الساحات والأرض لعرض بضائع بشكل عشوائي والاقتراب من السائحين بسخافة والإصرار على ترويج بضائعهم دون أن يردعهم قانون أو يمنعهم رجل أمن ، ناهيك عن ظهور التوكتوك مؤخرا في محيط تلك الأماكن الهامة مع اصدار أصوات للموسيقى الصاخبة وهي ظاهرة أصبحت منتشرة أيضا في شوارع لندن السياحية ، أضف إلى ذلك افتقار مترو أنفاق باريس للنظافة وانتشار النشالين والمجرمين أيضا الذين لا ينتمون من الأصل للدولة لذا فلا ولاء ولا اهتمام من قبلهم بالحفاظ عليها وعلى وجهها الحضاري ، والحقيقة الظاهرة للجميع أن من يخترق القواعد الحضارية والذوقية هناك أفراد جاءوا من عالم آخر بثقافاتهم وسلوكياتهم ولم يواجهوا بتطبيق القانون عليهم ، وهناك استياء شديد من المواطنين الأوربيين مما يحدث في بلدانهم فعندما تتحدث معهم تجد منهم اشمئزازا من تلك السلوكيات وشكاوى من عدم وقوف الحكومة في وجه هؤلاء المخترقين وهو ما يفند مقولة إنها دول قانون صارمة وحازمة ، وفي نهاية الأمر بما أنهم ليسوا الأغلبية فمازالت تلك الدول محافظة على وجهها الحضاري المنظم والنظيف إلى حد كبير بفضل التزام شعوبها وحفاظهم عليها ، لكن من وجهة نظري إن استمر الوضع هناك على هذا الحال ولم تقف تلك الدول في وجه تلك الممارسات سواء بتثقيف هؤلاء أو ردعهم بالقانون فسيصلون تدريجيا إلى ما وصلنا إليه فبدون مواطن وإنسان واع ينحدر الوطن إلى القاع .

ومع العودة لأرض الواقع وهو ما أحمل همه دائما فمن المؤسف حقا أن نجد الجميع في مصر يشكون من سوء السلوكيات وهم أنفسهم يقومون بمثل ما يعيبون عليه ، فعلى سبيل المثال قائدو السيارات يشكون ويتذمرون وكل منهم يُعتَبر أحد أطراف المشكلة فأغلبنا إن لم نكن مراقبين بكاميرا سنكسر الإشارة ، وإن تأكدنا من عدم وجود (وِنش) أو رجل مرور سنقف بساراتنا صفا ثانيا مخالفا دون مراعاة للغير ،  والجميع يشكون من مشكلة القمامة مع أنهم هم من يلقون بها في الشوارع وتكون الحجة الدائمة عدم وجود سلال وصناديق قمامة مع أن لو كل سكان مبنى جمعوا مبلغا لشراء صندوق قمامة لوضعه أسفل منازلهم سيحلون جزءا كبيرا من المشكلة هذا إن أرادوا حقا أن يحيوا في بيئة نظيفة ، ولنقس على ذلك مشكلات وقضايا كثيرة نعاني منها ونحن شخصيا من أسبابها الرئيسية ولو أننا أردنا حقا أن نحيا حياة محترمة سهلة وسليمة فلنبدأ بأنفسنا سواء طبق القانون أو لم يطبق ، وحتى إن إختفى الرقيب فكفى بنفسك عليك رقيبا .

في النهاية ولن أمل من تكرار الحديث حول تطوير وبناء الإنسان وضرورة تنمية وعيه فإذا أرادت الدولة حقا إحداث تقدم وتغيير إيجابي فعليها البدء بالمواطن منذ نعومة أظافره ، لذا أتمنى من وزارات الثقافة والتربية والتعليم ومن وسائل الإعلام الاهتمام بنشر قيم حسن السلوك والنظافة والحفاظ على الوطن ، والاهتمام بغرس تلك القيم خاصة في النشأ والأجيال الصغيرة عن طريق إضافتها في المناهج ، وإنتاج تنويهات و أفلام وبرامج أطفال متنوعة تهدف لتهذيب السلوك وإنتاج مواطن صالح في النهاية ، فإن كان الأمل ضعيفا فيمن ترعرع على العشوائية فالأمل مازال موجودا وكبيرا في الأجيال القادمة ، المهم هو أن نبدأ في اتخاذ الخطوات الصحيحة كي نجني الثمار الطيبة ، وإلى أن نصل لتلك النتيجة فلابد من تطبيق القانون بشكل صارم وبشتى الطرق حتى يصبح الالتزام عادة سلوكية متأصلة في الأنفس نابعة من رغبة الإنسان في الحفاظ على وطنه .

 

تعليقات (11)
ده حقيقي
بواسطة: هديل
بتاريخ: الجمعة، 19 أكتوبر 2018 03:44 م

اللي سافر بس هو اللي يقدر يفهم اللي انت كاتباه فعلا اغلب المواطنين في الخارج عندهم وعي ذاتي وبيحافظوا على نظافة ونظام بلدهم ربنا يصلح حالنا

ومين يسمع
بواسطة: أمينة
بتاريخ: الجمعة، 19 أكتوبر 2018 03:45 م

المشكلة ان أغلب من يشكوا بيكون سبب رئيسي في المشكلة معك كل الحق ولكن في ظل سوء السلوك لابد من قانون رادع

صحيح
بواسطة: كاريمان
بتاريخ: الجمعة، 19 أكتوبر 2018 03:47 م

الدول أساسها الشعب وإن كان هناك شعب واعي منتمي ومحب لبلده سيصلح الوطن .. مقال رائع

حاجة تغيظ
بواسطة: أحمد
بتاريخ: الجمعة، 19 أكتوبر 2018 03:50 م

حقيقي المواطن في إيده حل كثير من المشكلات او على الأقل عدم افتعالها حتى لو كانت الحكومة مقصرة وده دورها لو ما قامتش به نقوم نحن بما نستطيع كي نعيش في حال افضل

كلام جميل
بواسطة: مالك
بتاريخ: الجمعة، 19 أكتوبر 2018 04:03 م

كلام جميل بس أحلام الناس كدة من أيام اغنية سيد درويش من 100 سنة وما بيتغيروش ولا حيتغيروا غير بالعقاب القوي

جميل جميل
بواسطة: جمال
بتاريخ: الجمعة، 19 أكتوبر 2018 04:07 م

جميل جدا أن يحمل الإنسان هموم وطنه ونلمس من الكاتبة دائما الإشارة إلى مشكلات وقضايا هامة بشكل سلس مع حلول وأفكار إيجابية بالتوفيق دائما

مصر بعيون مختلفة
بواسطة: إكرام
بتاريخ: الجمعة، 19 أكتوبر 2018 04:11 م

جميل أن نرى العالم وأن نحلم بأن نرى مصر بعيون مختلفة وأن نضع الحلول ونستفيد من الآخرين ... مقال أصاب كبد الحقيقة ليته يعمم على الشعب لعلهم يعقلون . بالتوفيق صوت الأمة وكتابها المحترمين

من أجمل ما قرأت
بواسطة: خالد
بتاريخ: الجمعة، 19 أكتوبر 2018 04:13 م

من أجمل ما قرأت مؤخرا

مقال واقعي
بواسطة: بدور أحمد
بتاريخ: الجمعة، 19 أكتوبر 2018 05:12 م

جميلة نقل مشاهدات الكاتب للقراء وكانهم سافروا معهم .. رحم الله الكاتب أنيس منصور كان يسعدنا بمثل هذه النوعية عن طريق نقل ما رآه على أرض الواقع ليشعر القارئ بأنه أيضا شاهده وعايشه .

اللي يعيش ياما يشوف
بواسطة: عبير
بتاريخ: الجمعة، 19 أكتوبر 2018 05:20 م

أنا واحدة عايشة برة مصر وبأكد عالكلام ده الشعوب عندها القدرة تحارب تقاعس الحكومات وتحافظ على بلدنها إن أرادت وليس من رأى كمن سمع . برافو مقال متميز...السهل الممتنع

اضف تعليق