بين عالمين متضادين

الخميس، 25 أكتوبر 2018 02:59 م
بين عالمين متضادين
هبة العدوي تكتب:

ستذهب إلي مكان غريب عنك، لم تألفه من قبل، في رحلة لمدة ستمائة شهر، حيث أقل من المتوسِّط الطبيعي للرحلة.. ستعلم في النهاية لماذا لم تطل مُدّة إقامتك، ستبدأ حياتك في بهجة لا مثيل لها، لك توأم لصيق بك؛ حتى يفترق عنك مُضطرًّا، ولن ينجيك وقتها من ضعفك سوى قدرتك على الوصل والإيمان بما لا تراه عيناك من الأشياء المجرّدة.

كيف تطلب منّي أن أؤمن بما لا تراه عيناي؟

= هكذا هي.. ستعيش طفولة سعيدة، وسيكون لك فيها أصدقاء كُثُر، حتى تفترق عنهم بعد حريق مفاجئ سيلتهم منزلكم وأنت في الثالثة عشرة.. سيموت توأمك وستنتقل العائلة بعد الفاجعة إلى السفر للخارج، خاصة بعد فَقد والدتك بصرها في محاولتها لإنقاذ أخيك الذي سيلتهمه الحريق.

ماذا تقول؟.. لا أريد أن أمُرّ أبدًا بتلك التجربة.. لا تبتئس، سيرتدّ لأمك بصرها بعد إجرائها عملية كبيرة في بلدة تُدعى ألمانيا، وقتها سيكون عمرك في الرابعة والعشرين. ستدخل في علاقة حب مع إحدى الطبيبات المشرفات على علاج والدتك، ستقابلها في وقت العملية مُصادفة، ستتزوجها وتنجب منها ثلاث فتيات إحداهن ستكون مُعاقة ذهنيًّا. ستبدأ زوجتك في التذمُّر وترحل لأنها لا تقدر على الوصل مع اليقين، لم تطلب حتى المَدَد، ستهبط باختيارها إلى (عوالم التائهين).

لا تقلق، سيُبعَث لها بعديدين، لكنها سترفضهم للأسف وتُصرّ على أن (تختار الظلام).. أما أنت فسترتقي إلى حيث الإيمان؛ فيُطهّرك الألم أملاً، حيث (عالم اليقين). ستري ألمك بوضوح، خاصة كيف انصهرت فيه شخصيتك فذابت عيوبها ذوبانًا، وصرت مثل الحديد أصقل، فخفّ وزنك وقلّ حِملُك، سيكون الفقد لأخيك ولحبّ عمرك هو أحد الأفران الملتهبة التي ستُصبح بها إنسانًا أفضل، لن تنسى أبدًا ألمك في الفقد، ولكن مع كل لحظة فيها تفتقده وتفتقد الحب ستبذل جهدًا أكبر في سبيل الوصول والوصال، ذلك سيُنجيك حتي تنتهي مُدّة إقامتك، ستظلّ ثابتًا حتى مرض أمّك وفقدها الذاكرة، إذ سيكون ذلك بالنسبة لها هو منتهى التخفيف لآلامها جرّاء فقد أخيك، الذي تلاه بعد سنوات عدّة فقد أبيك.. هي سترتاح، لكنك ستكون على موعد مع انصهار جديد لشخصك وارتقاء. 

ستبدأ رحلتك في محاولات علاجها، ستتدهور حالتها بسرعة غريبة، وقمة المأساة حين تتوه منك بجسدها في مدينتك التي تعيش فيها، والتي هي عنها غريبة، ستبحث عنها لمدة ستة أشهر كاملة، ولن ينجيك وقتها من الهبوط إلى حيث التائهين إلا (إصرارك وتمسُّكك بالوصل بإله المُحبّين).. ما أراد لك أبدًا عذابًا، بل هي رحلتك تستكمل فيها رزقك من المحبّة أو السخط، هنا يقع اختيارك بين النور والظلام، بين اليقين والتيه، بين الحيرة المُطمئنّة والحيرة المُتردّية أسفل سافلين، كل عالمكم مصنوع من الحائرين، ولكن ليس كلهم سيصلون إلى غاية الرحلة، فقط الصادقون في حيرتهم المتأمّلون الآملون الساعون سيصلون.

قلت لي إنني لن أكمل حتى متوسط أعمار الجميع الذين يشبهوننا؟

نعم، بعد أن تعرّفت على حبّك الجديد ورزقك الله بها.. (سيرين) المرأة الطيبة التي ستقرأ إعلانك عن والدتك، وتطابق بين صورتها عبر شيء يُدعى (وسائل تواصلكم) وبين تلك المرأة التي تجلس يوميًّا على الرصيف وعيناها ممتلئتان باللاشيء.

ستُحبّها وتعشق تفاصيلها ويمتلئ وجدانك من جديد بحالة من النشوة المُمتزجة بالارتقاء الروحاني للمُحبّين من فرط جمالها، ستُحبّ ابنتك المُصابة في عقلها وسترعى والدتك حتى مماتها، وستكون بمثابة أم جديدة لابنتيك، سيبعث الله لك (سيرين) هبة لصبرك واحتمالك ووصولك لليقين، والتي لم تكن لتراها أبدًا إلا بعد مرورك برحلتك، خاصة وهي المُصابة أيضًا في حريق مشابه لحريقك الذي تعرّضت له في صغرك، فأصاب جسدها بتشوّه أفقده جماله، وبندبة في وجهها كانت دومًا تحاول أن تخفيها بشعرها الناعم المُنسدل في جمال. 

لم تكن لترى جمالها بقلبك إلا عندما ترتقي أنت مثلما ارتقت هي.. ستشعر بآلام مُبرِّحة يُخبرك بعدها طبيبك الخاص أنك مصاب بالمرض اللعين، وفي حالة متأخرة، لا تقلق، ستذهب إلى حيث المُتعة والخلود الدائمين، فجأة وأنت تخرج من عيادة الطبيب الذي أنبأك بإصابتك، حادث سيارة مفاجئ سيأخذك إلى حيث أخيك وأمك وأبيك، تجتمعون في محبّة خالصة، في انتظار أن يلحق بكم الباقون، والاجتماع مع من كنت تحبّهم ويُحبّونك.. ستتألم (سيرينخاصة أنها لم تعلم بمرضك إلا بعد مرور أشهر من تقبُّلها لوفاتك المفاجئة، عندما يستعلم عنك طبيبك الخاص الذي كتبت عنوانك في سجلّه، سترتاح هي أخيرًا عندما تعلم أنك ارتحت من عناء ألم جديد، وستنتظر راضية حتى تُقابلك وتجتمع بك من جديد، ستشاهدها وتشاهدك في رؤيا تجتمعان فيها معًا كلما أمكن، حتى اجتماعكم الأخير.

في وقت آخر، سيمرّ غيرك بالرحلة نفسها أو ما يشبهها، لكنه سيتذمَّر رافضًا تجربته، مشاهدًا فيها ألمه فقط، متوقّفًا بقلبه عند لحظة الرفض للوجع دون أن يتعدّاها إلى حيث الوصل رغبة في تقبُّل الأمر، سيرفض ألمه فيموت قلبه، وينطلق باحثًا عن طريق يُريحه (بعقله فقط).. لن يجد إجابات تُطفئ نارًا تملأ كيانه، سيفقد صبره ويضيق صدره ولا ينطلق لسانه إلا بمزيد من الرفض، فتختنق روحه ويبحث في (دروب التيه) عن راحة لن يجدها أبدًا، وما من تائه إلا وله نذير بتيهه، لكنه سيُصرّ ويستكبر استكبارًا، حتى يُكتب ممن ارتادوا (عوالم التائهين) وأسكروا عقولهم بعد إغلاق قلوبهم بأيديهم، بخُمُرٍ من المُسكِرات واللذّات الحسيّة التي لا تُشفي ولا تُسمن من جوع الروح لليقين.

سترى ذلك كله أمامك في رحلتك، وستختار بعقلك مُمتزجًا بقلبك، أو بقلبك مُمتزجًا بعقلك، عالمك بين عالمين متضادين: إما (العدمية) أو (صدق البحث عن حقيقة الوجود).

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق