سينما النصر بالقوصية.. حريق يلتهم الجمال

الأحد، 27 يناير 2019 03:00 م
سينما النصر بالقوصية.. حريق يلتهم الجمال
حمدى عبدالرحيم

بعضهم يخيرك بين حبة القمح ورائحة الوردة، وبعضهم يجبرك على أن تختار بين اثنتين، البندقية أو القصيدة.
 
هؤلاء سخفاء، فدعك منهم، فنحن بنى البشر، يجب ألا نخضع لهذا المنطق المعوج، فرائحة الوردة ولونها وثراء القصيدة وموسيقاها، ليست من الترف، إنها من ضروريات بناء الإنسان، حيث العقل والذراع والوجدان.. تلك البديهيات التى يريد البعض تغيبها، وعاها رجل صعيدى من مدينة القوصية، الواقعة فى شمال محافظة أسيوط، عندما كانت مصر تعانى من الرباعى المهلك «الفقر والجهل والمرض والحفاء» عزم ذلك الصعيدى القديم على بناء دار للعرض السينمائى فى قلب مدينة القوصية، كان ذلك فى العام 1951، كان البناء كما تشهد بذلك أطلاله، بناءً على هيئة كعكة، كأنه مبنى ماسبيرو، يطل على ميدان فسيح، وتزين واجهته أفيشات الأفلام.
 
الصعيدى القديم لم يقع فى تلك الحيرة بين المصنع والسينما، لقد أدرك أنه لا يجوز ملء البطون بالطعام مع بقاء الرءوس خاوية على عروشها.
 
فى ذلك الزمان البعيد، حيث سيطرة الإقطاع وأعمال السخرة وندرة المدارس والجامعات، كانت سينما النصر بالقوصية، تعرض أحدث الأفلام التى تنتجها أستديوهات القاهرة، كانت دار عرض النصر من دور الدرجة الأولى، بها لوج وبالكون وصالة وترسو، لا سبيل الآن للتحقق من ثمن التذكرة، لكنه بكل تأكيد لم يكن يتجاوز القروش القليلة.
 
ظلت سينما النصر، تلعب دورها فى تنمية وجدان الصعيدى، الذى لم يقع فى تلك الحيرة السخيفة بين حبة القمح ورائحة الوردة، حتى جاءت ثورة يوليو 1952.
مع ثورة الضباط الأحرار، الذين ينتمون فى معظمهم لطبقة «أبناء المساتير»، حيث لا ثراءً فاحشًا ولا فقرًا يدهس الطموح، بدأت الثقافية الجماهيرية تغزو مدن وقرى الصعيد، كانت القوافل الثقافية تساند الدور الذى تلعبه سينما النصر.
 
لقد عرفت قرى أسيوط الشعراء والمسرحيين والقصاصين والمطربين، الذين ألهموا بفنونهم جيلًا كاملًا نظم نفسه، وبدأ هو يقدم فنه.
 
فى كل جمعة كانت القرى، تشهد ما كنا نعرفه باسم «اللقاء الفكرى»، كان اللقاء فنًا خالصًا، يقدم المسرح المرتجل والقصائد الحارة، ويكتشف المواهب، ويربط إنسان الصعيد بعاصمته، حيث كل الحكم وكل السياسة، بل كانت اللقاءات الفكرية تقدم ملخصًا لأهم الأحداث العالمية، التى شهدها الأسبوع، ومن تلك الملخصات عرف الصعيدى نضال فيتنام ضد الاحتلال الأمريكى!.
 
مع ثورة يوليو أصبح للفن والثقافة أجنحة متعددة، فمع سينما النصر انتشرت أجهزة الراديو، ثم جاء التليفزيون، ليعمق وعى الصعيدى بحاضره وماضيه، ويجعله يتشوق للغد الآتى.
 
.. واصلت سينما النصر دورها فى السبعينيات، وعرضت أفلام النصر على العدو الإسرائيلى فور خروجها من أستديوهات القاهرة، ثم تواصل دورها فى الثمانينيات مع انتقال ملكيتها لمالك جديد، كان يعرف السينما ويحبها، فضخ فيها دماءً طازجة، فكان يعرض فيلمًا من تراث السينما المصرية، إضافة إلى فيلم حديث.
 
مع التسعينيات حط غراب الإرهاب على أشجار الصعيد، لقد كان إرهابًا لا يعمل على تصفية الأجساد بقدر ما كان يعمل على تصفية القلوب والوجدان، كان الإرهاب الذى ضرب محافظات ومدن الصعيد بارعًا فى إشاعة أجواء الخوف، لقد أصبح الذهاب إلى السينما، بل الجلوس على أرصفة المقاهى أمرًا محفوفًا بالمخاطر، فمن يدرى فقد تنفجر قنبلة حشوها المسامير فى وجوه الذين يشاهدون فيلمًا أو فى أجساد الذين يرشفون أكواب الشاى.
 
إن الذين هاجموا البنوك وكمائن الشرطة ومحال الذهب لن يعجزهم تفجير دار عرض سينمائى.
 
تلك الأجواء عملت على انصراف الشباب تحديدًا عن سينما النصر، وشيئًا فشيئًا توقفت السينما، لم يعد شاب ينتظر يوم الخميس، حيث العرض الأول لفيلم حديث.
 
جحافل من البائعة الجائلين والتوكتوك القاتل الخارج على كل قانون، جعلت من واجهة السينما محلها المختار.
 
ملاصقات الأفلام التى كانت تزين الواجهة بهت لونها، ثم بفعل الشمس والأمطار والأيام والليالى، ضاعت الملصقات ولم يعد باقيًا منها سوى علامات الغراء على الحوائط.
 
ثم شب حريق فى بدايات الألفية الثانية، فجعل السواد يكسو الواجهة التى كانت تزينها صور فاتنات السينما، ومن يوم ذلك الحريق ومدينة القوصية التى يقطنها أكثر من ثمانمائة ألف مواطن لا ترى الأفلام إلا على شاشات الفضائيات.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق