قضية "الرقابة" فرضت نفسها على المثقفين في عام 2015

السبت، 26 ديسمبر 2015 10:15 ص
قضية "الرقابة" فرضت نفسها على المثقفين في عام 2015

فرضت قضية الرقابة نفسها على المثقفين في مصر بقدر ما تبقى الرقابة كمفهوم وأنماط متعددة سببا لانزعاج المثقفين في العالم وسواء في عالم الجنوب أو في عالم ما بعد الحداثة بالولايات المتحدة.

ويرى محمد المنسي قنديل رئيس تحرير مجلة "ابداع" ان مشكلة الرقابة عادت لتلقي ظلالها من جديد، مشيرا الى تعدد الجهات التي تمارسها، وموضحا ان الرقابة "ربما خفت عن الكتاب قليلا ولكنها قوية الوطأة في بقية مجالات المصنفات الفنية".

واضاف الكاتب والروائي محمد المنسي قنديل: "بشكل عام لا يوجد من يحب الرقابة بمن في ذلك الذين يؤيدون وجودها"، فيما اعاد للأذهان صراع المفكرين على مدى العصور، "للتملص من سلطة الرقابة واعطاء اجنحة طليقة للأفكار والنزوات والخيالات والرغبات مهما كان نوعها حتى تصل الى آخر سماء ممكنة".

وأشار قنديل إلى ظاهرة وجود قوائم سرية وطويلة للكتب الممنوعة في بعض دول المنطقة العربية، وهي قوائم يقول انها "تحتوي على مئات الكتب من كل الأصناف وكلها ممنوعة من العرض"، فيما لفت لواقعة تاريخية مثل منع الدولة العثمانية دخول المطبعة لأراضيها على مدى عشرات السنين.

ويذهب محمد المنسي قنديل الى ان مشكلة الرقابة تبدو ظاهرة مع السينما ومع اكثر من فيلم ومع تعدد الأسباب وبعضها أسباب وجيهة وضرورية مثل القرار الخاص بمنع عرض فيلم "آلهة وملوك" الذي وصفه بأنه حافل "بالمغالطات التاريخية"، فيما يوضح رؤيته قائلا: "لا أحد يحب المنع خاصة في الأعمال الفنية ولكن ما العمل اذا كانت النوايا خبيثة تريد الطعن في تاريخنا وهويتنا؟!".

ومشكلة الرقابة حاضرة منذ سنوات في هموم المثقفين، وها هو الكاتب والروائي المصري جمال الغيطاني الذي رحل هذا العام يكتب في منتصف عام 2006 قائلا: "للأسف ما كانت تقبله مصر في الأربعينيات وحتى الستينيات لم يعد مقبولا الآن".

وإذا كان محمد المنسي قنديل قد اشار هذا العام لاستمرار الاشكالية الرقابية مع نص خالد هو كتاب "الف ليلة وليلة"، وهو ما وصفه بـ"عناد غريب يعادي فيه رقيب عابر نصا خالدا قاوم قرون الزمن"، فقد قال جمال الغيطاني منذ اكثر من تسعة اعوام بجريدة "أخبار الأدب": "في عام 1958 طبع في مصر ديوان ابو نواس كاملا بتحقيق الألمان، ومنذ اربع سنوات عندما حاولنا اصدار نسخة مصورة منه في سلسلة الذخائر صادرته وزارة الثقافة".

وفيما يرى كثير من المثقفين ان منابر النقد الأدبي والفني هي الساحة الطبيعية لمناقشة اي عمل ابداعي، يلفت الكاتب والروائي يوسف القعيد الى ظاهرة رقابية تتمثل في اختصار نصوص لأدباء بل وآباء ثقافيين مثل الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي الذي تعرض كتابه "الأيام"، وهو بمثابة سيرة ذاتية، لكثير من الحذف والاختصار قبل السماح بتدريسه لطلاب المدارس.

ولئن كان الكاتب الروائي ابراهيم عبد المجيد قد رأى عدم جدوى الرقابة "في زمن الانترنت العابر للحدود"، لافتا الى ان "الكتب الممنوعة تكون اكثر الكتب طلبا واكثرها توزيعا سرا او علنا"، كما باتت "الكتب عابرة للقارات"، فإن الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة السابق، ينتقد بدوره ظاهرة الرقابة ويستدعي مواقف ومقولات لرمز ثقافي مصري وعربي هو الدكتور يوسف ادريس انتصارا لحرية الابداع.

وجاء ذلك في سياق تناول الدكتور جابر عصفور لمسألة أثارت لغطا هذا العام عندما نشرت أسبوعية "أخبار الأدب" القاهرية فصلا من رواية "استخدام الحياة" لأحمد ناجي ليتقدم أحد قراء الجريدة بشكوى للنيابة، معتبرا أن ما نشرته الجريدة يشكل خروجا على الآداب العامة وحسن الأخلاق، فيما تحول هذا البلاغ لقضية منظورة امام المحاكم.

ومن وجهة نظر وزير الثقافة السابق الدكتور جابر عصفور، ينبغي الانتصار لحرية الابداع واشاعة مناخ من الحرية يتيح للمبدعين حقهم في المغامرة والتجريب، كما هو الحال في رواية "استخدام الحياة" التي صنفها عصفور ضمن "الأدب التجريبي"، موضحا أن هناك فارق بين "الرواية الخيالية والمقال".

وفي مصر 2014 كانت القضية قد اثارها الكاتب الصحفي محمد شعير عندما تناول وقائع محددة بشأن الرقابة على الكتب في أسبوعية "أخبار الأدب"، بينما علق عليها الكاتب والروائي يوسف القعيد.

وردا على ما ذكره أحمد سليم؛ مدير جهاز الرقابة عامئذ، في حوار مع جريدة "التحرير"، قال الكاتب الصحفي محمد شعير ان "القضية الآن هي قضية المثقف المصري الذي ظل لأكثر من قرن في موقف المدافع.. لم يخض معركة واحدة الى نهايتها".

ورأى شعير انه مع الثورة اكتشف المثقف المصري الحقيقة "وأنه لا يعرف من الحقيقة إلا الأشياء المصنوعة"، فيما وصف مهنة الرقيب بـ"المنقرضة".

واعتبر شعير ان حوار مدير جهاز الرقابة مع جريدة "التحرير"، "ملييء بالتناقضات الكاشفة والدالة على طريقة تفكير كلاسيكية"، مضيفا انه يخفف فعل المصادرة باستخدام لفظ "التحفظ"، كما يبرر المنع بالحفاظ على قيم المجتمع وأخلاقياته.

وتابع قائلا في جريدة "أخبار الأدب": "الطريقة القديمة في التفكير واستخدام لغة فاسدة لم يعد مفيدا لأن الزمن نفسه تجاوزها ولأن القديم لم ولن يعود مرة أخرى".

وتساءل محمد شعير عن اسباب مصادرة الطبعة الانجليزية لروايات الكاتب البرازيلي باولو كويلو، بينما هي موجودة بالعربية في المكتبات وعلى الأرصفة، لافتا الى ان الكتب المطبوعة والتي تتعرض للمصادرة موجودة على شبكة الانترنت.

واكد على انه "لا يجوز لأي جهة مصادرة حق المبدع في ان يعبر عن أفكاره ورؤاه كما يشاء"، موضحا عدم امكانية ممارسة الرقابة عمليا الآن في ظل المجتمع المفتوح وثورة الاتصالات والفضاء الالكتروني وإن كان من حق الجميع "القراءة والمشاهدة والحكم والتأويل".

والظاهرة عامئذ اثارت اهتمام الكاتب والروائي المصري يوسف القعيد الذي اوضح ان الكتب الثلاثة هي: "في مدح الحب"، تأليف آلان باديو وترجمة غادة الحلواني، و"المبرومة" وهي رواية للبناني ربيع جابر، و"السيميوطيقيا" للدكتور نصر حامد ابو زيد والدكتورة سيزا قاسم، وصدرت طبعته الأولى في مصر منذ سنوات.

وإذ استنكر القعيد ظاهرة استمرار هذا النمط الرقابي بما يخلقه من مناخ "يزدهر فيه الفكر الذي يمكن ان يأخذنا الى العصور الوسطى"، تبقى الرقابة بأنماطها المتعددة قضية تشغل المثقفين في كل مكان بهذا العالم.

ففي الهند التي وصلت لكوكب المريخ مؤخرا لتشد من جديد اهتمام العالم، تبقى الرقابة قضية حاضرة وذات تجليات متعددة في المنابر الثقافية والشارع وساحات المحاكم، كما يعبر عن ذلك كله الكاتب باترا بريجادا في طرح نشره بالانجليزية واستحوذ على اهتمام لافت في الصحافة الثقافية الغربية.

فباترا بريجادا الذي صدر كتاب له بعنوان "الهندوس: تاريخ بديل"، عن الفرع الهندي لدار بنجوين الشهيرة في عالم النشر، وجد نفسه مطاردا بسلسلة من الدعاوى القضائية رغم ان هذا الكتاب الصادر عام 2010 فاز بجائزتين داخل الهند.

وبعد هذه المطاردات القضائية وأخطرها كان من ناظرة مدرسة متقاعدة تدعى دينا ناث بارتا وتنتمي لتنظيم هندوسي يميني متطرف، اضطرت دار بنجوين لوقف نشر وبيع هذا الكتاب، و"فرم ما تبقى من نسخ لديها".

واذا كان الكاتب الهندي باترا بريجادا قد وصف هذا النوع من الدعاوى القضائية بأنه "سلاح للدمار الثقافي الشامل"، فالرقابة كفكرة ومفاهيم وممارسات مازالت حاضرة في الثقافة الغربية.

ذلك يتبدى مثلا في كتابات المؤرخ الثقافي الأمريكي روبرت دارنتون الذي يبدو مهموما بـ"التوغل في روح الرقيب والحفر العميق عند جذور ظاهرة الرقابة" والتمييز بين رقابة مؤسسات الدولة ورقابة المجتمع التي قد تكون أشد وطأة واكثر قسوة.

وقد يثير ذلك كله بالتداعي واقعة حدثت منذ عدة سنوات عندما قررت الجامعة الأمريكية بالقاهرة منع تدريس رواية "الخبز الحافي" للكاتب المغربي الراحل محمد شكري، وكذلك رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للروائي السوداني الراحل الطيب صالح وأثار هذا القرار ضجة كبيرة حينئذ.

وكان المفكر المصري جلال أمين قد استدعى هذه الواقعة ليقول: في الظروف التي نمر بها اليوم، أي في ظل تعتيم مفرط على أعمال فنية حقيقية وتساهل مفرط في تسمية الجرأة ابداعا، "قد نكون في حاجة الى رقيب يستطيع التمييز بين العمل المبدع والأخلاقي من ناحية وبين العمل السيء فنيا واخلاقيا، ولكن من أين لنا بهذا الرقيب الرائع؟!

بين ظهور واختفاء، تبقى الرقابة قضية ضمن هموم المثقفين وتمثل غصة في حلق اي مثقف حقيقي.. صدى كلمة "الرقابة" يرتد خفاشا على وجه المبدع الحزين! كلمة صداها ينوح وتثير قشعريرة الخوف وتطفيء المصابيح المضاءة في روح المبدع في كل مكان وزمان!

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق