حمدي عبد الرحيم يكتب: تحية لمعرض الكتاب وابن البلد صلاح جاهين

السبت، 04 فبراير 2023 09:00 م
حمدي عبد الرحيم يكتب: تحية لمعرض الكتاب وابن البلد صلاح جاهين

- نبغ جاهين في أكثر من فن فهو صحفي ورسام وممثل وشاعر وسيناريست وقلة منا تعرف أنه ابن البلد الذي يهرع لمساعدة الذين يحبهم
 
اختار معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورة عامنا هذا 2023 الراحل الكريم محمد صلاح الدين بهجت أحمد حلمي، الذي نعرفه باسم صلاح جاهين (25 ديسمبر 1930 - 21 أبريل 1986 م) ليكون شخصية المعرض.
 
اختيار جاهين على وجه التحديد أمر يبشر بالخير، فقد شاع أن الزمن هو زمن الرواية، وشاع أن الرواية لا الشعر هى ديوان العرب، ثم يأتي الاحتفال بشاعر بحجم جاهين ليذكر بأن الشعر سيظل حاضرًا وليؤكد بأن الشاعر الحقيقي سيظل فاعلًا ومؤثرًا رغم مرور سنوات على رحيله.
 
نعرف أن جاهين قد نبغ في أكثر من فن، فهو صحفي ورسام وممثل وشاعر وسيناريست وقد سمعت أنه كان يعرف العزف على الربابة، ومع شيوع اسمه وحضور شعره يباغتنا الرجل بجوانب لا نعرفها عنها.
 
قلة منا تعرف جاهين ابن البلد الذي يهرع إلى مساعدة الذين يحبهم.
 
قبل أيام كشفت الكاتبة الكبيرة الاستاذة صافي ناز كاظم عن هذا الجانب فنشرت تحت عنوان "وقائع جديرة بالذكر" ما نصه: "في يوم من أيام 1974 صدر قرار بإخلاء سبيل أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام ورفيقهما الرسام محمد علي بكفالة قدرها 90 جنيها، تم جمعها بواسطة الأستاذ محمد عودة رحمه الله وسلمها للشاعر نجيب شهاب الدين.
 
اتصلت بنجيب شهاب الدين وتسألت لماذا لم يتم إخلاء السبيل؟ 
 
فكان رده لأن الكفالة لم يتم دفعها، لماذا؟ لأنه احتاج المبلغ وتصرف فيه!
 
جن جنوني بالطبع وبدأت الاتصال ببعض من تصورتهم من أصدقاء ومحبي نجم وإمام وكان من بينهم المخرج يوسف شاهين قلت: تم إخلاء سبيل نجم وإمام ومحمد على بكفالة تسعين جنيه.
 
فوجئت به يرد قائلا: I am as poor as any body else!
 
بمعنى أنا فقير مثل الجميع!
 
زعقت فيه: وأنت كان حد طلب منك حاجة؟ أنا بنقل لك خبر! ثم هم لهم عندك فلوس من زمن فيلم العصفور اللي قايم على أغنية ولحن مصر يمه يا بهية وإتعايقت بهم في باريس وأعطتهم عليها خمسة وثلاتين جنية!
 
ورزعت السماعة في وشه!
 
بعد كام ساعة فوجئت برنين الهاتف:
 
صافي!
 
-أفندم!
 
-أنا صلاح جاهين!
 
كنت واخدة موقف منه بسبب اختلاف رأي أجبت بتحفظ:
 
-أهلا يا صلاح
 
-ممكن تفوتي تاخدي التسعين جنيه؟
 
دمعت عيناي وقولت له: عرفت منين؟
 
قهقه منه وقال: من اللي بهدلتيه!
 
ذهب إليه يوسف شاهين وحكى له حكاية خرج منها صلاح بأني أحتاج تسعين جنيه.
 
أخذت من صلاح جاهين المبلغ بشرطي الحاسم على سبيل "سلفة" تم سدادها بالفعل.
 
انتهت شهادة الأستاذة صافي ناز التي تفتح باب تأمل هذا الجانب من شخصية جاهين، فنجم لم يكن أيامها من درويش جاهين بل لم يكن من أصدقائه المقربين، ثم الأستاذة صافي ناز نفسها كانت على خلاف معه، ثم هو يعلم علم اليقين أن نجم وإمام ومحمد علي من المغضوب عليهم، ومساندتهم ودفع كفالتهم أمر يشق على كثيرين، ولا يجرؤ عليه سوى قلة، وكان جاهين من تلك القلة!
 
التكوين العائلي لجاهين هو تكوين برجوازي بامتياز، فوالده من أكابر القضاة وجده أحمد حلمي صحفي ثائر ثري، كان أول من وجهت له تهمة الدعوة لقلب نظام الحكم في الفترة الملكية، وعاش ومات معاديًا للاحتلال ومناديًا بضرورة تشكيل النقابات المهنية.
 
كيف تجاوز جاهين حواجز عائلته ليكون ابن بلد يكتب الليلة الكبيرة ويكتب "مليت لك القلة عطشان تعالى"، وينحاز بكليته إلى ثورة يوليو يصدقها ويتبنى أهدافها وشعاراتها؟
 
لا شك أنها كانت رحلة وعرة وشاقة ولكنها انتهت بجاهين شاعرًا من شعراء الشعب.
 
من جوانب جاهين التي لا يعرفها إلا القليلون، جانب دموعه المختلطه بالضحكات وضحكاته السابحة في بحر من الدموع، وقد كان من حسن حظنا أن الناقد والكاتب المغربي الكبير الدكتور محمد برادة قد صادق جاهين لساعات ووضع يده على ذلك الجانب.
 
في العام 1999 نشر الدكتور برادة كتابه" مثل صيف لن يتكرر" وهو سيرة ذاتية، اختار كاتبها قالب الرواية ليصبها فيه، حتى أنه تنكر خلف اسم حماد، وجعل حمادًا هذا هو بطل الرواية.
 
كتب برادة: "سيذكر حماد باستمرار لقائه في بداية السبعينيات بالشاعر صلاح جاهين، كان حماد قد حضر الي القاهرة يجمع المراجع المتصلة ببحثه الجامعي وقد اختار الإقامة ببنسيون يوجد قريبا من شارع قصر النيل، وذات ليلة وهو ممدد فوق فراشه غمرت أذنيه أنغام جميلة معزوفة على العود يصاحبها صوت رخيم، ومن حين لآخر تعلو تعليقات وضحكات وكأن الذين في الغرفة المجاورة هم في جلسة أُنْس، وعندما سأل صاحبة البنسيون عن جاره أخبرته بأنه الملحن سيد مكاوي، وعندما كان حماد خارجا بعد الظهر صادف علي الباب صلاح جاهين الذي يعرفه من صورته فسلم عليه وقدم له نفسه وخاض في حديث عفوي عن الشعر والفن والادب، ثم أبدي له رغبته في أن يلتقيا مدة أطول فرحب صلاح جاهين بالدعوة واتفقا علي موعد للعشاء.
 
كان حماد ورغم الجراحات لا يزال يتقد بالحماس مشدودا إلى أفق المراجعة الجذرية لتجربة اليسار العربي وكان عبد الناصر قد رحل مخلفا يتما لا يعرف أحد كيف يغالبه، وكان صلاح جاهين يستسلم لمحدثه ويكتفي بالتدخل من حين إلى آخر لينبه إلى تتالي الانهيارات والتراجعات، وإلى ضياع الحلم الكبير كان في صوته شجن لا يوصف وحتي عندما ينكت تأتي ضحكته فاترة لا تستطيع ان تخترق الحزن المكتسح لكيانه، بعد العشاء أصر صلاح جاهين على أن يرافق حماد إلى باب البنسيون واستمر الحديث متدفقا من فم حماد، وصلاح يستمع في صبر وطول بال إلى أن وصل الي باب البنسيون عندئذ قال له صلاح وهو يصافحه:
ــ اسمع يا أستاذ محمد الكلام اللي قولته كله كويس وعلي رأسي وعيني بس يا خسارة مفيش فايدة.
 
-ليه يا أستاذ صلاح؟
 
-أصل الشعب ده يميني من أصله 
 
فوجئ حماد بالعبارة الأخيرة وتطلع إلى وجه صلاح فوجده مسربلا بنظرته الحزينة ولكنه فجأة لعلع بضحكة قوية".
 
جاهين هو جاهين فالذي دفع كفالة نجم وإمام هو الذي يجالس شابًا مغربيًا مغمورًا، وما قاله لبرادة عن يمينية الشعب قاله شعرًا جهيرًا، واسمع معي صوته في قصيدة على اسم مصر:
 
"والمس حجارة الطوابي وأدق بكعابي 
 
يرجع لي صوت الصدى يفكرني بعذابي 
 
يا ميت ندامة على أمة بلا جماهير
 
ثورتها يعملها جيشها ومالها غيره نصير
 
والشعب يرقص كأنه عجوز متصابي
 
إنهض من القبر احكي القصة يا عرابي
 
يطل لي رافع الطهطاوي م التصاوير
 
شاحب ومجروح في قلبه وجرح قلبه خطير
 
وعيونه مغرورقين بيصبوا دمع غزير
 
على اسم مصر".
 
ما كتبه برادة عن جاهين جعلني أعيد قراءة شعره جاهين لأتأكد من أصالة كل ما كتبه، فكل ما كتبه هو نبات قلبه وتفكيره وأفكاره، لا شيء طارئ وعفو الخاطر وفيض قلم، نعم هناك فيضان ألم راقص، ستجده في قصيدة "البانولا":
 
"أنا دبت وجزمتى نعلها داب
 
من كتر التدوير ع الاحباب
 
يا سلملم لو أعتر فى حبيب
 
ده أنا أرقص من كتر الأعجاب
 
كدهه! كدهه! كدهه
 
أنا قلبى مزيكه بمفاتيح
 
من لمسة يغنى لك تفاريح
 
مع إنى مافطرتش وجعان
 
ومعذب ومتيم وجريح
 
باتنطط واتعفرت واترقص كدهه
 
كدهه! كدهه! كدهه
 
بيانولا وألابنضه وحركات
 
أطلعى بقى يا نصاص يا فرنكات
 
أنا عازمك يا حبيبى لما ألاقيك
 
على فسحة فى جميع الطرقات
 
نتنطط نتعفرت نترقص كدهه
 
كدهه! كدهه! كدهه".
 
هذا رجل ضائع جائع مهجور ولكنه سيملأ الأرض بالموسيقى لو حصل على لمسة حنان، وسيملأ الدنيا بالضحك رغم جوعه وفقده لحبيبه، الذي متى قابله سيدعو للتجول في كل الطرقات، جولات في المطلق مع حبيب يكاد لا يكون يعرف عنه شيئًا.
 
شكراً لمعرض الكتاب لأنه أحسن الاختيار، ورحم الله شاعر الشعب صلاح جاهين.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق