زيارة آبي أحمد.. رحلة مصر في عقل إثيوبيا

الثلاثاء، 12 يونيو 2018 11:54 ص
زيارة آبي أحمد.. رحلة مصر في عقل إثيوبيا
حازم حسين

على مدى 3 أيام، امتدت زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد آبي أحمد لمصر، تلبية لدعوة رسمية من الرئيس عبد الفتاح السيسي، في إطار تحركات سياسية ودبلوماسية لتأسيس مرحلة جديدة من التوافق المصري الإثيوبي، تحت عنوان الشراكة والتفاهم العميق في ضوء الحقوق التاريخية والتطلعات التنموية والمصالح المشتركة.
 
الزيارة في توقيتها ومدتها وما شهدته من نقاشات وحوارات، تحمل دلالات مهمة فيما يخص تحولات العلاقة ومسارات التفاوض في مسألة سد النهضة، ولعل المدخل الأول لقراءة أهميتها الاستراتيجية يبدأ من اختيار رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد مصر لتكون محطة متقدمة ضمن قائمة زياراته الأولى، بما يحمله هذا الترتيب والتفضيل من أبعاد تشير إلى تفاهمات عميقة ورؤى مشتركة جرت في نهر العلاقات بين القاهرة وأديس أبابا.
 
رئيس الوزراء الآتي من خلفية 
مغايرة لما درجت عليه الساحة السياسية الإثيوبية، كونه منتميا لأقلية الأورومو العرقية التي خاضت صراعات طويلة مع مؤسسات الدولة، ومن جذور مسلمة في بلد يغلب عليه المكون المسيحي، ربما يكون اختياره منذ اللحظة الأولى، خلفا لرئيس الوزراء السابق هايلي ماريام ديسالين، الذي غلب التشدد على مواقفه في ملف سد النهضة، محاولة جادة من إثيوبيا للتحرك باتجاه التوافق، وتدشين جسر من التفاهم والصلات العميقة مع القاهرة، ما يعني أن تحولا كبيرا قد حدث في بنية السياسة الإثيوبية، بشكل دفع البرلمان لهذا الخيار ثوري الطابع، رغبة في تجاوز مرحلة قديمة من الشحن والتصعيد وسوء التفاهم.
 
لا يمكن بحال من الأحوال تجاهل أن اختيار الرجل الذي أدى اليمين نهاية مارس الماضي، وتولى مهام منصبه فعليا في أبريل، لأن تكون مصر واحدة من المحطات الأولى في جولاته الخارجية بعد شهرين تقريبا من إمساكه بمقاليد السلطة، وهي فترة بطبعها تغلب عليها صيغة التسليم والتسلم، والبعد عن الجولات الخارجية لحين الإحاطة بالملفات الاستراتيجية، يعني أن كثيرا من الركائز الإثيوبية القديمة في التعاطي مع ملف سد النهضة، ربما أُعيدت صياغتها وفق رؤية ديناميكية، تستبعد مسببات العداء والشقاق، وتنحاز لإمكانات التوافق ومفاتيح الحلول السياسية والدبلوماسية، وفق تصورات عملية قائمة على توازن المصالح، وعلى وحدة المصير والشراكة الجادة في المزايا والأعباء.
 
بجانب ما تؤكده الزيارة من تحولات إيجابية على صعيد رؤى وانحيازات الجانب الإثيوبي، فإنها تشير بقوة إلى نجاح الدبلوماسية المصرية والمؤسسات السيادية والتنفيذية التي انخرطت مؤخرا في المفاوضات، في دفع دفة العلاقات باتجاه تعظيم قيم الحوار، ومراعاة توازن القوى والمصالح، وتأكيد أهمية المساحات المشتركة بين دول حوض النيل، بشكل قد يحقق التهدئة والاستقرار، حتى على صعيد بعض الملفات الداخلية، ما يعني استعادة مصر لجانب كبير ومهم من حضورها الأفريقي، والنجاح في إقناع الأشقاء في الجنوب بأهمية دور مصر المحوري كظهير وشريك، وتأثيرها المباشر كداعم وحليف على ملفات السياسة والأمن والسلم الاجتماعي، وها هو رئيس وزراء من أقلية عرقية يقود أديس أبابا وتستقبله القاهرة استقبالا على أرفع مستوى، وهذا البعد يعني أننا بصدد تطور كبير في إدارة ملفات الأمن القومي، والوصول لذروة الإجادة في توظيف العلاقات الشاملة مع الشركاء، والاستفادة من مهارات المفاوض المصري.
 
أبرز ما شهدته الزيارة المؤتمر الصحفي الذي جمع الرئيس عبد الفتاح السيسي برئيس الوزراء الإثيوبي، خاصة مشهد القسم الذي ردده آبي أحمد خلف السيسي بالتعهد بعدم الإضرار بمصر، وهو المشهد الذي يغلب عليه الطابع الإنساني والبعد عن التكلف، ويكشف عن صيغة في العلاقات تمزج البعد الرسمي بالخلفيات التاريخية ومشاعر المودة بين البلدين، ولكن دلالته الأكبر أنه يحمل رمزية معبرة عن حجم التوافقات والتفاهمات التي جرت في الكواليس، ومدى النجاح الذي أحرزته قنوات الاتصال المصرية في الوصول لعقل السلطة الإثيوبية، وبالتأكيد عن قناعة أديس أبابا بالاتفاقيات الموقعة في عشرينيات وخمسينيات القرن الماضي، والحقوق التاريخية لمصر في نهر النيل.
 
محاولة فهم دلالة المشهد الودود ببساطته وخفة دمه، ودلالات الزيارة بشكل عام، لا بد من أن تعبر على النقاط الأساسية فيما يخص الاختلاف السابق في وجهات النظر حول قضية السد، فالاختلاف لا يطال المبدأ الأساس المتمثل في إقرار مصر بحق إثيوبيا في التنمية واستغلال الموارد، ولكنه يخص صيغة الاستغلال الرشيد وسياسات الاستخدام العادل مع الإقرار بالحقوق الثابتة، وكان يتمحور بالأساس حول سياسات ملء السد، وليس حول السد نفسه، وبالوصول لصيغة عادلة تضمن مدّ فترة ملء خزان السد بشكل لا يؤثر على تدفقات حصة مصر من المياه، تنتهي المشكلة بشكل شبه كامل، أي أن الأمر يخص تفاهمات زمنية بالأساس، وقد أكدت مصر في مواقف عدة دعمها لحقوق الأشقاء وجهود التنمية في دول جنوب النيل، واستعدادها للمشاركة في هذه التنمية وفق محددات تضمن مصالح كل الأطراف.
 
بساطة الأزمة قد تبدو أوضح في ضوء المؤشرات والأرقام، فبينما تشهد هضبة إثيوبيا (هضبة الحبشة) أمطارا سنوية بمعدل بين 2200 و4000 مليمترا، أي ما يتراوح بين 500 و900 مليار متر مكعب، تبلغ حصة مصر 55.5 مليار متر مكعب، والسودان 18 مليارا، ولا تستغل إثيوبيا أكثر من 20 مليارا، بإجمالي أقل من 100 مليار متر مكعب، أو ما يتراوح بين 10 و20% من إجمالي الموارد المائية، أي أننا إزاء فواقد بنسبة بين 80 و90%، أو 400 و800 مليار متر مكعب، وبتجاوز الخلافات البسيطة حول الحقوق والحصص التاريخية، فإن إقرار إثيوبيا بحقوق مصر والفوز بدعمها في مشروعات التنمية، قد يكون أكثر فائدة لأديس أبابا نفسها من التنازع حول 55 مليار متر مكعب واستمرار إهدار 800 مليار في المتناول، وبقدر من الجهد والاستثمارات المشتركة في منطقة المنابع يمكن تنمية موارد نهر النيل عدة أضعاف، وزيادة حصص وفوائد كل الشركاء.
 
فكرة التعاون في مشروعات مشتركة لاستغلال موارد المياه الضخمة، وتقليل الفواقد والإهدار المرعب، ليست فكرة جديدة، إذ طرحتها مصر عبر قناة جونجلي في جنوب السودان قبل سنوات بعيدة، وبدأت العمل في المشروع بالفعل قبل أن يتوقف لأسباب سياسية ثم يعود ثم يتوقف ثم يعود، كما قدمت القاهرة تصورات عديدة بمشروعات مشتركة في منطقة المنابع، وتحديدا حوض النيل الأبيض، وأوفدت مهندسين وخبراء لإثيوبيا، وكانت لها محطات رصد ومتابعة واستراحات بطول مجرى نهر النيل لعقود طويلة، وشاركت - وما زالت - في مشروعات تطهير المجاري المائية في عدد من مناطق إثيوبيا والسودان وبعض دول الحوض، في ضوء ما تمتلكه من خبرات فنية وقدرات لوجستية، ما يعني أن أسباب التعاون قائمة، وعناصره ومتطلباته الفنية متوفرة، وعوائده مضمونة للجميع، وأن ارتباكات السياسة كانت سبب تعطيله طوال السنوات الماضية، ومن ثمّ فإن إحراز أي تقدم على طريق التفاهم وتأسيس علاقة شراكة حقيقية ومتوازنة في تقاسم المزايا والأعباء، يضمن الاتجاه سريعا نحو استغلال حصة بالغة الضخامة من الموارد المهدرة، وتحقيق فوائد عديدة على أصعدة شتّى.
 
نجاح مصر وإثيوبيا في قفز الخلافات غير الحقيقية في جوهرها، والتي تسببت فيها أطراف إقليمية ودولية أرادت شحن المنطقة والوصول بها لذروة السخونة الممكنة، يعني نجاحا مباشرا في استغلال موارد القارة لصالح أبنائها، بعيدا عن أطماع الوافدين والمستغلين لتذبذبات العلاقات، وإذا تأسس التعاون بين القاهرة وإثيوبيا على يقين حقيقي ومشترك بوحدة المصير والهدف، فهذا يعني أنه يمكن الانطلاق سريعا نحو مشروعات تنموية عديدة، في الزراعة والصناعة والتجارة المشتركة، ويعني قدرة أكبر على ترويض النيل ومنابعه، بما يضمن تحسين حياة الإثيوبيين، واستصلاح مزيد من الأراضي، وزيادة إنتاج إثيوبيا من الكهرباء، وإقامة شبكة للربط الكهربائي مع مصر، لتحقيق مزيد من العمران والقفزات الصناعية والتنموية، وفي القلب من هذا صيانة حصة مصر من المياه، بل وزيادتها بقبول وترحيب ومباركة من الأشقاء في المنابع.
 
المؤكد، والذي لا جدال فيه، أن الجغرافيا ليست اعتباطية، وحينما أراد الله لنهر النيل أن يشق أفريقيا من قلبها حتى رأسها، كان يكتب على هذا المجال الجغرافي الشاسع مصيرا مشتركا، ومصالح واحدة متعانقة، لا تنفصل ولا تتعارض، وما زالت الطبيعة وآيات التاريخ وتفاصيل الواقع تؤكد وتدفع كلها في هذا الاتجاه، رغم بعض العوارض التي صنعتها التجاذبات أو سوء الفهم أو التوترات السياسية أو الإدارة السطحية للملف في مراحل سابقة، ولا يحتاج الأمر حتى يعود لمساره الطبيعي العاقل إلا لإعادة ضبط، ونفض غبار الشكوك والشحن والتصعيد الذي راكمته أطراف إثيوبية ومصرية على جوهرة البلدين المشتركة، النيل والشراكة فيه والتعاون لخدمته، وهو الأمر الذي يبدو أنه بدأ وقطع شوطا طويلا في الشهور الأخيرة، بفضل جهود حقيقية وعميقة من مؤسسات فاعلة في البلدين، ليثمر الآن خطوة أولى على طريق التوافق المصري الإثيوبي، أكدتها زيارة آبي أحمد الناجحة لمصر، وما تضمنته من مواقف ومشاهد، تؤكد أن نهر النيل الذي يجري في الجغرافيا بالحتمية وقوانين الطبيعة، يوازيه نهر من التوافق يجري الآن في عروق البلدين، مدعوما بتحول حقيقي باتجاه سياسة إثيوبية جديدة، وبرؤية مصرية عاقلة وموضوعية، توازن بين هدف صيانة الحقوق، وضرورة الوصول لعقل أديس أبابا وقلبها.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق