حمدي عبد الرحيم يكتب: محمد عبده رائد التجديد المفترى عليه

السبت، 15 مايو 2021 10:00 م
حمدي عبد الرحيم يكتب: محمد عبده رائد التجديد المفترى عليه

ـ هل نحن نحتاج إلى تجديد خطابنا الديني؟
ـ نعم، نحتاج كل تجديد على كل صعيد، فيجب علينا تجديد خطابنا الديني والثقافي والسياسي والاجتماعي.
ـ ألم يغلقوا باب التجديد؟
ـ مَنْ هؤلاء الذين أغلقوا باب التجديد؟ التجديد هو نوع من رحمات الله "مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رحمة فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ".
 
سيظل التجديد هدفًا نبيلًا يجب أن نسعى جميعًا لتحقيقه، وعندنا آليات ورجال التجديد، ولكن من الواضح أن على قلوب أقفالها.
 
عندنا رجل مثل الشيخ الإمام محمد عبده الذي ولد في العام 1849 ورحل عن دنيانا في العام 1905 وهو في السادسة والخمسين من عمره الذي هو بحساب السنوات كان قصيرًا ولكن بحساب الأعمال والإنجاز كان طويلًا وعميقًا ومثمرًا، وهذا الرجل المجدد الإصلاحي الذي دفع ثمن دعواه للتجديد وللإصلاح كاملًا غير منقوص، نترك تراثه للمتلاعبين الذين إن علموا كتموا وإن نشروا زوروا وزيفوا. فلو كانت هناك قراءة منصفة وجادة لتراث الرجل وميراثه الذي تركه لنا لحققنا قفزة عظيمة في مجال التجديد الفقي والديني بصفة عامة.
 
وقد جرى نقاش في الفترة الأخيرة حول الإمام وتفسيره للقرآن وقال بعضهم إن الإمام قد أنكر حقيقة القصص القرآني.
 
هذه جملة خطيرة غاية الخطورة وهي تهيل التراب على ميراث الشيخ وعلمه وتصرف عنه الراغبين في التجديد والإصلاح، فمن ذا الذي سيعتمد على منكر لقصص القرآن؟
 
ولتحرير هذه المسألة سنجيب عن أسئلة مركزية في النقاش، وأول الأسئلة هو: هل للشيخ الإمام تفسير؟
 
إنصات المسيحيين
 
يتوهم بعضنا أن الإمام قد عكف على المصحف الشريف وفسر سوره من الفاتحة إلى سورة الناس، وهذا وهم من الأوهام، فكل ما قام الإمام به في مجال التفسير هو قيامه بتفسير جزء عم.
 
وعن هذا التفسير قال الإمام: "يسر الله لي السفر إلى البلاد المغربية سنة إحدى وعشرين وثلاثمئة وألف من الهجرة".وقد تم طبع التفسير في العام 1341 من الهجرة، وهذا معناه مرور أكثر من مئة سنة على وجود هذا التفسير الثمين بين أيدينا ثم نهجره إلى غيره من المقولات العجيبة التي ما أزل الله بها من سلطان.
 
ثم حدث ذلك اللقاء التاريخي بين الشيخ وتلميذه الشيخ الأستاذ محمد رشيد رضا الذي ترك بلاده لبنان وأقام في مصرنا لكي يتلقى العلم على يد الإمام محمد عبده.
 
بدأ الشيخ رشيد في حث الإمام على تفسير القرآن الكريم، وكان الإمام يتعلل بعامل السن، ويقول: لم يعد في العمر كفاية لإنجاز تفسير كامل وشامل، ولكن الشيخ رشيد لم يستسلم، يقول الباحث الأستاذ نجم الدين خلف: "وما فتئ أن كرَّرَ عليه رضا الاقتراحَ، يوم الجمعة 4 فبراير 1898، فمانعَ ثانيةً بحُجَّة اللامبالاة العامة التي تشيع بين المسلمين في مصر. وتذكَّر بمرارةٍ أنه ألقى درسًا، حضرَه طلبةٌ مسلمون فلم يُدونوا منه شيئًا، فيما سجَّل طالبان قِبطيان كلّ ما ذكر. وأكّد أنه يتكلّم بمقدار ما لدى السامع من الانتباه والطّلب. وهما، حَسَبَه".
 
وعلى ذكر تفاعل المسيحيين مع دروس الشيخ الإمام ومحاضراته، فقد قرأت، أنه عندما كان يحاضر في مسجد جامع ببيروت، كان المسيحيون يقفون أمام باب المسجد لكي يستمعوا للشيخ، ثم شكوا من أن جلبة الشارع تجعل صوت الشيخ لا يصل إليهم واضحًا، وطلبوا أن يسمح لهم بدخول المسجد لكي يتابعوا كلامه، فسمح لهم بذلك.
 
فانظر كيف كنا وكيف أصبحنا؟
 
يكمل خلف القصة فيقول: "وما زال رشيد رضا يُلحُّ عليه حتى وافقه على البدء في تفسير شفويّ، في شكل دُروس تُلقى في أروقة الأزهر بالاعتماد على كتاب "الجَلالَيْن"، لجلال الدين المَحَلّي (1389-1460) وجلال الدين السيوطي (1445-1505)، يرجع إليه لشَرح غرائب اللغة ثم يستطرد في استنباط معاني الآيات بما يُصلح شأنَ المسلمين في الدين والدنيا ويبعدهم عن أسباب الانحطاط. وكان رضا يكتب ما يقوله الأستاذ ويَعرضه عليه في اليوم الموالي، فيوافقه أو يعمّقه بتدوين إضافاتٍ جديدة. واستمرَّ الحال حتى طبعَ الجزء الأول وبدأ في الثاني، وهكذا حتى وفاة الشيخ عبده سنة 1905 الذي توقّف عند الآية 125 من سورة النساء.
 
على ما سبق فإن تفسير المنار الذي بين أيدينا، أوله من الفاتحة حتى الآية 125 من سورة النساء هو للإمام محمد عبده، مع إضافات من رشيد رضا الذي كان يميز بين كلامه وكلام الإمام فيقول: قال الشيخ كذا. وقلت: كذا.
 
ثم هناك تفسير الشيخ الإمام لسورة العصر، وسورة العصر من أقصر سور القرآن، وعدد آياتها ثلاث آيات، ولكن الشيخ فسرها في أسبوع، كان يتحدث في اليوم ساعة ونصف أو ساعتين يفسر الآيات الثلاث، ونعوذ بالله أن تظن أن في الأمر ثرثرة أو كلام مرسل، إنه تدفق عالم مجدد لم يكتم من علمه شيئًا.
 
ثم هناك تفسيرات له لآيات بعينها من الذكر الحكيم مثل تفسيره لآية سورة الأحزاب التي تتحدث عن زواج سيدنا الرسول بأم المؤمنين زينب بنت جحش، وقد أبطل في تفسيره كل الشبهات السخيفة التي يروجها أهل الباطل عن تلك القصة.
 
المغضوب عليهم
 
من آيات تجديد الشيخ الإمام، تفسيره لسورة الفاتحة، خاصة قوله تعالى "غير المغضوب عليهم ولا الضآلين"، وقد وجدت بحثًا ممتازًا كتبه الأستاذ معتز نادي عن تفسير الشيخ لتلك الآية الكريمة التي يتحدث عنها من يعلم ومن لا يعلم.
 
يقول الأستاذ معتز: تحدث الشيخ محمد عبده عن قوله تعالى: «غير المغضوب عليهم»، قائلًا: «المغضوب عليهم، هم الذين خرجوا عن الحق بعد علمهم به، والذين بلغهم شرع الله ودينه فرفضوه ولم يتقبلوه».
 
كما شرح أن المغضوب عليهم «ضالون أيضًا لأنهم بنبذهم الحق وراء ظهورهم قد استدبروا للغاية واستقبلوا غير وجهتها فلا يصلون إلى مطلوب، ولا يهتدون إلى مرغوب»، مقسمًا الضالين إلى أقسام.
 
القسم الأول من الضالين هم «من لم تبلغهم الدعوة إلى الرسالة أو بلغتهم على وجه لا يسوق إلى النظر، فهؤلاء لم يتوفر لهم من أنواع الهداية سوى ما يحصل بالحس والعقل، وحرموا رشد الدين».
 
أما القسم الثاني فهو «من بلغته الدعوة على وجه يبعث على النظر، فساق همته إليه واستفرغ جهده فيه، ولكن لم يوفق إلى الاعتقاد بما دعي إليه، وانقضى عمره وهو في الطلب، وهذا القسم لا يكون إلا أفرادًا متفرقة في الأمم، ولا يعم حاله شعبًا من الشعوب، فلا يظهر له أثر في أحوالها العامة، وما يكون لها من سعادة وشقاء في حياتهم الدنيا».
 
ويرى الشيخ محمد عبده أن «القسم الثالث من بلغتهم الرسالة وصدقوا بها بدون نظر في أدلتها، ولا وقوف على أصولها فاتبعوا أهواءهم في فهم ما جاءت به فى أصول العقائد، وهؤلاء هم المبتدعة في كل الدين، ومنهم المبتدعون فى دين الإسلام، وهم المنحرفون في اعتقادهم عما تدل عليه جملة القرآن».
 
ويستكمل شرحه بالإشارة إلى أن «القسم الرابع ضلال في الأعمال وتحريف للأحكام عما وضعت له، كالخطأ في فهم معنى الصلاة والصيام وجميع العبادات، والخطأ في فهم الأحكام التي جاءت في المعاملات».
 
ويختم الأستاذ معتز بحثه: بأن الشيخ الشعراوي ظهر متأثرًا في تفسيره للفاتحة بمنهج الشيخ الإمام محمد عبده.
 
منابع الفتنة
 
إذا بحثت عن اسم الشيخ الإمام ستجد العجب العجاب، فبعضهم يخرجه من الملة، وهناك من يرميه بالعمالة للمحتل الإنجليزي، وهناك من ينسبه للماسونية، وهناك من يرميه بتهمة إنكار القصص القرآني كله.
 
وقد أحسن الباحث الأستاذ صالح سهيل حمودة عندما كتب: "لعلي لا أبالغ إذا قلت إنه لا يوجد عالم مسلمٌ رُمي بالإفك والبهتان والكذب مثل الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله، فقد استطال في عرضه الكثيرون ممَّن انتحلوا العلم والإمامة والغيرة على الدين، وسوّدوا في ذلك الصحائف، ولو بحثت في الشبكة العنكبوتية فإنك واجدٌ العشرات من المقالات الطاعنة في الإمام، بل المكفرة له، والمخرجة له من ملة الإسلام، ولن تجد في الذبّ عنه إلا النزر".
 
وأنا أرى أن أسخف وأخطر ما يرمى به الشيخ هو إنكاره للقصص القرآني، مر بك جهود الشيخ في التفسير، وكل ما قاله منشور مطبوع منذ ما يزيد على المئة سنة، فأين إنكاره؟
 
نقرأ معًا جزء عمّ فلا نجد سوى ثلاث قصص، الأولى جاءت في سورة النازعات، أعني تلك القصة التي حدثت بين كليم الله ورسوله سيدنا موسى وبين فرعون:" اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى".
 
تقرأ تفسير الشيخ فلا تجده أنكر شيئًا من تلك القصة، فقد تحدث عن وجود مادي لفرعون ولموسى وعن محاولة موسى هداية فرعون الذي كان جبارًا لا يسمع لنصيحة، ثم العذاب الذي صبه الله عليه صبًا، فأين الإنكار؟
 
القصة الثانية مذكورة في سورة عبس وهي عن الأمر الذي حدث بين رسولنا وبين الصحابي الجليل ابن أم مكتوم، والشيخ لا ينكر شيئًا من الحادثة ولا يقول إنها من الأمثال أو الأساطير أو الحكايات، هو يتحدث عنها بوصفها حادثة حدثت وواقعة وقعت ولا مجال لتخيل أو لضرب أمثلة.
 
القصة الثالثة مذكورة في سورة البروج، وهي التي تتحدث عن أصحاب الأخدود، فيقول الشيخ بحقيقة وجود المؤمنين قبل رسالة رسولنا الكريم، وهؤلاء تعرضوا لأشد الأذى، حتى أن طواغيت زمانهم قاموا بألقائهم في النار وهم أحياء.
 
ولم يقل الشيخ كلمة واحدة عن الأساطير أو ضرب الأمثال أو رواية الروايات، هو تحدث عن الوجود المادي لهؤلاء القوم القدامى الذي أمنوا بالله وبرسوله سيدنا المسيح عيسى ابن مريم.
 
وفي كل القصص الذي جاء في سور البقرة وآل عمران والنساء لم ينكر الشيخ منه شيئًا، فمن أين جاءت تلك الفتنة؟
 
يقول الباحث الأستاذ صالح سهيل حمودة: إن فرية إنكار القصص القرآني من أشنع القبائح التي نُسبت إلى الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وهو بريء منها براءة الذئب من دم يوسف.
 
والذي تولى كبْر هذه الفرية الشيخ أمين الخولي وتلميذه محمد أحمد خلف الله، إذ لما كتب الأخير رسالته الباطلة للدكتوراه والمسماة (الفن القصصي في القرآن)، والتي صرّح فيها بوجود أساطير في القرآن الكريم، قامت الدنيا على التلميذ والمشرف عليه معاً، بل صرّح كثير من العلماء بارتدادهما عن الملة، والعياذ بالله.
 
وهنا، لم يجد التلميذ والمشرف عليه سوى التمسّح بالشيخ محمد عبده ومدرسته، والزعم أن ما جاءا به من زور وبهتان كان يدرّسه الشيخ في أروقة الأزهر قبل أربعين عاما!".
 
لقد تخلص الأستاذ الشيخ الخولي من المشكلة فرمى بها ذكرى الشيخ، ومن يومها يمضغها الماضغون، ولم يقدم واحد منهم دليلًا ماديًا على صدق مزاعمه.
 
غفر الله للأستاذ الخولي كلمته، ورحم الله شيخنا الإمام محمد عبده ونعفنا بعلمه وبتجديده وإصلاحه.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة