طلال رسلان يكتب: أخلاق ولا أعز
السبت، 29 يناير 2022 09:00 م
المشانق الأخلاقية تعيدنا إلى فكرة "وصاية الأخ الكبير" وتوقف مسيرة الإبداع الفني والفكري
فيلم يناقش قضايا جريئة واقعية، فجدل ينفجر على مواقع التواصل الاجتماعي، فمحاكمة أخلاقية للفن، وممارسة صكوك الفضيلة على الصناعة... هذا ما يحدث كل مرة.
لكن هذه المرة بدت موجة الأخلاق أكثر حدة في مهاجمة صانعي فيلم "أصحاب ولا أعز"، المنسوخ من نسخة أصلية إيطالية باسم «Perfect Strangers» ونقل إلى أكثر من لغة، ويدور حول سبعة أصدقاء يجتمعون على العشاء، ويقررون أن يلعبوا لعبة حيث يضع الجميع هواتفهم المحمولة على طاولة العشاء، بشرط أن تكون كافة الرسائل أو المكالمات الجديدة على مرأى ومسمع من الجميع، وسرعان ما تتحول اللعبة التي كانت في البداية ممتعة وشيقة إلى وابل من الفضائح والأسرار تتعلق بمناقشة قضايا مثل المثلية الجنسية، وبالطبع لم يكن يعرف عنها أحد بما فيهم أقرب الأصدقاء.
تركت الأغلبية المالكة لصكوك الفضيلة على الفن، مناقشة تفاصيل الفيلم الذي امتلأ بخطايا فنية، مثل النقل الأعمى من النسخة الإيطالية إلى العربية كما هي دون لمسة واحدة توحي بالحرفية والصنعة، وبالتالي انسحب الأمر وخاصة عند المشاهدين من قبل للنسخة الأصلية، على خلل كبير في السيناريو، ورتابة بالمشاهد في أغلب الأحيان، إلى جانب فقدان الحبكة والتشويق، والاعتماد الكلي في النجاح على أشخاص الفنانين وأسمائهم دون تقديم محتوى متقن ومقنع، وأخذت في توجيه الشتائم للفنانة منى زكي إحدى المشاركات في العمل، ثم إيكال الاتهامات للعمل بأنه يروج للمثلية الجنسية وكأن السينما المصرية لم تصنع من قبل أي عمل عن القضية ومناقشتها في الأساس، أو كأن أحدا لم يشاهد عمارة يعقوبيان ودور الفنان خالد الصاوي مثلا، أو تنسى الجميع أدور السينما التي تناولت علاقات الفتيات المراهقات بأشكال مختلفة وطرح موسع، إذا كانت الأغلبية مصدومة من شخصية الفتاة المراهقة في فيلم "أصحاب ولا أعز" والتي تدخل نقاشا مع والدها حول علاقتها بشاب وهل تقيم معه لليلة أم لا.
ساعات بسيطة على عرض الفيلم بتفاصيله على منصة نتفليكس، بحرية تامة لمن يريد من المشاهدين الاشتراك ومن ثم اختيار ما يناسبه، حتى علق الجمع المشانق الأخلاقية لصناع العمل، وانفجرت اتهامات العادات والتقاليد والحلال والحرام، وصولا إلى التقدم ببلاغات ضد الفيلم، وتضمنت بشكل لا يمكن وصفه إلا بالفكاهي إحصاء عدد الألفاظ "الخارجة"، إضافة إلى الاستغاثة بالرقابة على المصنفات الفنية حول فيلم لم يصور أصلا في مصر وإنتاجه كان من خلال شركة أجنبية.
قبل ذلك تناسى الجميع أن النسخة الإيطالية الأصلية والمأخوذ منها فيلم أصحاب ولا أعز عرضت كما هي في مهرجان القاهرة ونالت جائزة أحسن سيناريو، كما عرضت أيضا في سينمات بوسط البلد وشاهدها آلاف الشباب، لكن يبدو أن الأمر برمته في توقيت ظهور التريند على مواقع التواصل الاجتماعي، قبل حتى التبين من أن الفيلم معروض في لبنان وأحداثه كاملة في لبنان وليس مصر أصلا، وإن كان الواقع أكثر مرارة من القضايا المثارة، حتى لو انجر الجدل نحو التساؤلات هل يسمح أب في المجتمع المحافظ بتلك الممارسات؟
المأساة في الأمر لم تكن فقط تجاهل مناقشة تفاصيل العمل الفني كصناعة يمكن الرد عليها بإنتاج آخر يناقش تلك القضايا بوجهة نظر أخرى، ومن ثم إثراء الحياة الفنية والإبداع الفكري، وقتل الجدل الفارغ والموجه، وكل الفائدة على المجتمع مع الحفاظ على تلك القيم إذا ما تم التوجيه إلى ذلك، لكن انبرى فنانون أيضا في المحاكة الأخلاقية للفيلم وتناسى الجميع وسيط العرض على منصة مدفوعة ولم يفرض على المشاهد، وأن كل القضايا المطروحة في الفيلم نُوقشت قبل ذلك في السينما المصرية بالعرض العام في دور السينما بل كانت أكثر حدة وصداما.
أرجعنا الجدل حول الفيلم، القديم الذي يعاد، إلى تفجير قضية وصاية الأخ الكبير الذي يمارس سلطاته الأخلاقية والدينية على الكل دون مواربة في فرض رؤيته الأخلاقية حتى مع حريته الكاملة في وجهة نظره مثلما يفعل أصحاب النظرة الفنية للأعمال دون فرض الوصاية على الآراء.
حاكموا نجيب محفوظ
يشبه قضاة الأخلاق على الفيلم بموقف تجسيد الكوميديا السوداء في أبهى صورة عندما طالب نائب برلماني عن محافظة دمياط منذ سنوات بمحاكمة الأديب الراحل، نجيب محفوظ، بسبب رواياته معتبراً أنها تخدش الحياء العام، وتهدر الفضيلة والآداب، قائلا "أطالب بمحاكمة مخرجي أفلام روايات نجيب محفوظ أيضا، خاصة بين «القصرين» و«السكرية» و«قصر الشوق» لما تحتوي عليه من مشاهد مخلة ولقطات خادشة للحياء العام لا يجوز أن تدخل المنازل وتطلع عليها الأسر والعائلات، متسائلاً ما الجدوى من تصوير مشاهد فاضحة في عمل سينمائي دون أن يكون موجوداً في الرواية الأصلية؟ وما الهدف من الزج بلقطات وأفعال منافية للآداب في الأعمال السينمائية إلا إذا كان الهدف تدمير الأخلاق وإشاعة الفاحشة ونشر الرذيلة في المجتمع، ولذلك طالب بتشريع عقوبة الحبس والسجن لمدة كبيرة لكل من يرتكب جريمة خدش الحياء العام وينشر الرذيلة ويدعو للفاحشة وارتكاب الموبقات في الدراما والأعمال السينمائية ووسائل الإعلام المختلفة، مستنكراً الحملة التي يشنها عليه من وصفهم بالرافضين لمطلبه بحجة التضييق على الحريات العامة.
وأضاف النائب مسترسلا وقتها: ما علاقة مشاهد العري والجنس بالإبداع الفني وحرية التعبير؟ وأين حرية الإبداع في مشاهد غرف النوم؟ ثم أين هي حماية الآداب العامة وبعض الأفلام السينمائية تقدم كل ما يمكن أن يسيء لأخلاقنا وقيمنا وآدابنا وعاداتنا وسلوكياتنا؟ مشيراً إلى أن الحرية المطلقة مفسدة مطلقة، والحرية تستلزم بالضرورة أن تكون هناك مسؤولية اجتماعية وتشريعية تحمي المجتمع من أي انحراف سلوكي وأخلاقي يمارس تحت لافتة الحريات، وقال إنه سيبذل كل جهده لإقناع زملائه النواب بتشريع عقوبة الحبس لكل من تسول له نفسه خدش حياء المجتمع ونشر الرذيلة والعري، وتدمير قيم وأخلاق المجتمع، مؤكداً أن كافة الجرائم التي تحدث في المجتمع سببها انهيار الأخلاق وغياب الفضيلة.
في كل ذلك، ما يحتاج وقفة ذلك الإصرار على موجة التكفير والطرد من رحمة الله والمعروف دوافعه، لصناع فيلم "صناع ولا أعز"، ومحاولات الإرهاب بالخوض في السمعة والشرف من ناحية أخرى قبل نغمة الحلال والحرام، لأن ذلك بالتأكيد يؤثر على الفنانين وصناع السينما عموما في اختياراتهم للقضايا، وينسحب ذلك على الحالة الفنية التي تبدو أكثر ارتباكا فيما تقدمه أمام المحاكمات والمشانق الأخلاقية والنتيجة الحتمية فن معلب على مزاج قاضي الأخلاق.