الموت لأعداء " يناير"

الجمعة، 22 يناير 2016 06:19 م
الموت لأعداء " يناير"
عبد الحليم قنديل

عدو ثورة يناير يعادى الثلاثين من يونيو فى الوقت نفسه ، فلولا ثورة 25 يناير ما كانت 30 يونيو ، وثورة 25 يناير هى الأصل ، والانحراف بالثلاثين من يونيو عن خط يناير ، هو إنكار لثورية 30 يونيو نفسه ، وتصويرها كما لو كانت 15 مايو 1971 فى علاقتها بثورة 23 يوليو 1952 ، وخيانة الثورة باسم ادعاء ثورة ، تدعى أنها تصحح مسارا ، فإذا بها تنقلب على كل ما يمت بصلة لمعنى الثورة ، وتتنكر لإرادة الشعب المصرى ، وتمضى بمصر إلى انحطاط تاريخى غير مسبوق ، تسارعت معدلاته بعد حرب أكتوبر 1973 ، ودوس الذين "هبروا" على دماء الذين عبروا ، وبدء حروب النهب وتجريف ركائز النهوض المصرى ، وهو ما كان سببا فى غضب مصرى ملتهب فى انتفاضة يناير 1977 ، ثم تلكأت مواعيد الغضب بعدها لعقود ، وإلى أن اشتعلت ثورة 25 يناير 2011 .


وثورات الشعب المصرى ليست متاعا فى سوق النخاسة ، ولا بضاعة مجهولة المصدر ، ينتحل صفاتها العابرون فى الكلام العابر ، وعلى نحو ما ينتحل الإخوان صفة 25 يناير ، وينتحل الفلول صفة 30 يونيو ، بينما الإخوان والفلول من نفس النبع ، وإلى ذات المصب ، فكلاهما تعبير سياسى عن السطوة الاجتماعية لرأسمالية المحاسيب وثقافة الانحطاط ، وكلاهما من قوى الثورة المضادة بامتياز ، والوجود العرضى للإخوان فى 25 يناير ، كما الوجود العرضى للفلول فى 30 يونيو ، كلاهما لا يغير من الحقيقة الأصلية الناصعة فيما جرى كله ، وهى أن الشعب المصرى هو صاحب الثورة ، وهو الذى ضاعف حضور ملايينه على أسفلت التغيير من يناير إلى يونيو ، ولا يقلل من وزن الحقيقة ، ولا من طبيعتها ، أن يوجد من حاولوا ويحاولون ركوب الموجة الشعبية ، وتزوير الثورة ، وسرقة اسمها وأثرها ، فوجود تجار مخدرات على "محطة أتوبيس" لا يغير صفتها ، ولا يحولها إلى "غرزة حشيش" ، وعلى نحو ما حاول المزورون ليناير أن يفعلوا ، وعلى نحو ما يفعل الفاجرون الآن باسم 30 يونيو ، فلم يكن الإخوان أبدا من الداعين ولا المبادرين إلى ثورة يناير ، ولم يكن الفلول أبدا من الداعين إلى 30 يونيو بنت 25 يناير ، وقد كانت حركة "كفاية" هى الأب والأم الروحية للدعوة والتبشير للثورة فى 25 يناير ، وكان بيان "كفاية" هو الوحيد الذى حمل عشية الثورة عنوان "خلع مبارك هو الحل" ، تماما كما خرجت الدعوة إلى تمرد الثلاثين من يونيو 2013 من اجتماعات اللجنة القيادية لحركة "كفاية" ، ودون أن يعنى ذلك نسبة الثورة إلى "كفاية" ، ولا إلى غيرها من القوى التى دعت إلى الثورة بإلحاح متصل ، وخاطبت الناس بدعوة النهوض وكسر حواجز الصمت ، فالثورة هى ثورة الشعب المصرى ، والشعوب لا تتصادم ثوراتها ، ولا تضل الطريق أبدا ، حتى وإن بدا أحيانا ، أن الثورة المضادة تنتصر ، وعلى نحو ما بدا فى حكم الإخوان القصير العابر ، أو على نحو ما يبدو الآن من عودة الفلول لتصدر المشهد الحاكم سياسيا واقتصاديا وإعلاميا ، وحملتهم المسمومة على ثورة يناير ، وتزويرهم لحقيقة الثلاثين من يونيو ، وتصويرهم ليونيو كانقلاب على يناير ، وهى العقيدة التى تجمع الإخوان والفلول بنفس الدرجة والتصميم .


وربما لا تكون من حاجة إلى التفات كثير لما يفعله الإخوان ، فقد ذهبوا بقيادة ضالة وعقائد أكثر ضلالا ، ذهبوا إلى سكة الإرهاب التى لا يعود أحد منها سالما فى مصر ، ومشوا بقواعدهم المنقادة آليا إلى دار التهلكة ، وإلى خوض حرب مباشرة ضد الشعب المصرى ، يستخدمها الفلول لتبرير العودة إلى سلطانهم القديم ، واستعادة السلطة لطبقة اللصوص ، والسيطرة على الحكم والبرلمان ، وإعادة بناء الروابط الوثقى بين جماعة البيزنس وجماعة الأمن ، وشغل الشعب المصرى بفزاعة التخويف من عودة الإخوان ، وهو ما يفسر حرص غالب الأجهزة الأمنية على التضخيم من خطر الإخوان ، ومنح دعاية الإخوان زادا مجانيا إضافيا ، والمبالغة المفتعلة فى الاستعدادات لمجابهة ما يسمونه بثورات الإخوان ، والذين كرروا دعواتهم إلى ثورات لا تأتى أبدا ، وحتى بلغ عدد الدعوات الملتاثة إليها ما يفوق المئة منذ عزل مرسى الرئيس الإخوانى ، ودون أن يستجيب لها أحد يعتد به ، إلا ما تبقى من فلول ممزقة للإخوان فى جغرافيا محدودة محفوظة ، وبعض الشاردين من الممولين أجنبيا ، ومن عملاء الأمريكان حلفاء الإخوان ، ثم يكون صباح الثورات المزعومة أبيضا بلون الحليب ، فلا تقوم ثورات ولا يحزنون ، وتنتهى الدعوات إياها إلى رصاص "فشنك" على رماد الخيبة ، ولا تقدم غير الدعم الإضافى لمزاعم أجهزة أمنية تخدم جماعة البيزنس والنهب العائدة للتسلط ، وإلى تشديد قبضة القمع ، وحصر الخيارات المتاحة بين الإخوان والفلول ، والعودة إلى خطوط 24 يناير 2011 ، وهو ما لن يقبله الشعب المصرى أبدا ، فالشعب لا يريد الإخوان ، وهذا صحيح تماما ، لكن الشعب لن يقبل الخداع مجددا ، ولا عودة الحكم للفلول ، ولا عودة نظام مبارك بدون مبارك ، والذى تأكدت صفته كحرامى بختم النسر ، وبحكم قضائى نهائى بات ، وفشلت محاولات غسل سمعته ، تماما كما ستخيب محاولات إعادة إنتاج نظام المخلوع ، ووضع عبارة "دعم مصر" محل عبارة "الحزب الوطنى" القديم ، وتزوير 30 يونيو ، وفصلها عن سياق ارتباطها الجوهرى بثورة يناير ، والقفز على أعناق الناس بدعوى حماية الشعب من خطر الإخوان ، وسرقة الجيوب على طريقة لصوص "شوف العصفورة" ، وهو ما رفضه الشعب المصرى ، وكشف حقيقة الخداع الساذج فيه ، وبدليل رفض الغالبية العظمى من الناس لانتخابات برلمان الفلول ، والمقاطعة التلقائية الواسعة ، والتى مثلت عصيانا مدنيا تلقائيا على طريقة "خليك فى البيت" ، وبما جعل برلمان الفلول كائنا معلقا ، ومفتقدا لشرعية سياسية تسنده ، وحوله إلى "برلمان أنابيب" ، مهجورا ومطاردا من أغلبية شعبية ، أعطت ظهرها لانتخاباته ، وأكدت بالمقاطعة الواسعة غضبها الصامت ، والذى يتحول تدريجيا إلى غضب ناطق ، ينشئ ميدانا جديدا للغضب الاجتماعى ، الذى تتواتر مظاهره فى اضطرابات واعتصامات واحتجاجات اجتماعية ، تتسع دوائرها ، وإن كانت تفتقر للآن إلى "عنوان سياسى" يصل إليه بريد الغضب الاجتماعى ، وهذه قصة معاناة ثورة شعبية عظيمة ولدت بلا قيادة سياسية مطابقة ، وتفتقر حتى الآن إلى حزب سياسى ، يصل بالثورة إلى السلطة ، ويصنع غالبية برلمان وفية لأهداف وأشواق ومصالح الميدان الثورى.


ونحن لا نشترى الثورات من "السوبر ماركت" ولا من الصيدليات ، فهكذا ولدت الثورة المصرية ، وهكذا ولدت ثورة تونس أيضا ، والأخيرة تعانى فى المحصلة ما تعانيه ثورة مصر ، فلم تتحقق لها أهدافها ولا مصالح جمهورها ، برغم وجود سياق مختلف وحيوية أفضل فى المجتمع التونسى ، لكن مصير الثورة المصرية هو الحاكم فى قضية الثورات العربية الجديدة كلها ، والنهاية التى تصل إليها ثورة مصر ، هى التى ستعود ، وتطبع بطابعها مصير المشهد العربى كله ، والثورة المصرية لم تبلغ نهايتها بعد ، ولم تهزم نهائيا ، بل أنها لن تهزم أبدا ، فالثورة صناعة شعب ، وإرادة الشعب من إرادة الله ، وما يحدث ـ فى ظننا ـ أن الثورة تتعثر ، وتحبط قطاعات من جمهورها ، وتعجز عن التقدم مؤقتا ، ويتكالب عليها الأعداء الاجتماعيون والسياسيون من كل صنف ولون ، وهم سيهزمون لا محالة ويكتب عليهم الموت السياسى ، ولسبب غاية فى البساطة ، وهو أن محاولات استعادة ما كان قبل الثورة ، سوف تنتهى موضوعيا إلى استعادة أسباب الثورة نفسها ، وقبضة الأمن التى لم تنفع مبارك ، لن تنفع أحدا بعده ، خاصة مع التطور الهائل فى وعى ملايين إثر ملايين من المصريين ، وهو الثمرة المحققة المؤكدة للثورة إلى الآن ، فلم يعد المصريون شعبا لا ينفد صبره ، بل أصبح الشعب نافد الصبر ، وميالا إلى السخط والغضب التلقائى ، من أثر الأهوال التى ألمت به ، والتى يستعيد الشعور بالألم منها مع الخروج من الغيبوبة التاريخية ، وإعادة تخويف المصريين ، وإحياء أساطير الخداع القديمة ، كل ذلك لن يفيد الظالمين النهابين المتسلطين ، فبوسعهم أن يستعيدوا عدة التخويف القديمة ذاتها ، ولكن دون مقدرة على إكمال وإحكام دائرة التخويف نفسها ، ولسبب ظاهر ، وهو أن الذى كان يخاف مشى ، ولم يعد للخوف من سبيل إلى قلب الشعب المصرى بجموعه الواسعة ، والتى خلعت رئيسين ، ودون أن يتغير النظام أو تصل الثورة إلى السلطة ، ولسبب موضوعى تماما ، وهو أنه لا أحد ينتصر للثورة بالوكالة ولا بالمراسلة ، ولا بد للثورة أن تنتصر لنفسها بنفسها ، وأن تتجاوز "الفصام النكد" الذى لازمها منذ ميلادها ، وهو هذه الفجوة الهائلة بين الثورة والسياسة ، فمشاهد الثورة تخلع القلب فرحا ، ومشهد السياسة يقبض الروح كمدا ، وما أن يأوى ناس الثورة وملايينها الهادرة إلى سكن فى البيوت ، حتى يخلو المشهد لتوازنات السياسة وأحزابها ، التى تسيطر عليها أطياف اليمين الدينى والفلولى والليبرالى ، وكلها تعبر عن حقيقة اجتماعية واحدة ، هى السيطرة المتفشية لرأسمالية النهب العام أو "رأسمالية المحاسيب" ، وهم لا يشكلون بامتداداتهم سوى واحد بالمئة من السكان ، يملكون نصف الثروة العامة ، ويجرون من خلفهم تسعة بالمئة من السكان ، يملكون ربع الثروة ، بينما لا يبقى للتسعين بالمئة الباقين سوى الربع الباقى ، وهؤلاء الأخيرون هم الفقراء والطبقات الوسطى ، وهم لا يملكون سلاحا ولا حزبا سياسيا جامعا ، ينتصر لهم ، وينتصر لثورتهم اليتيمة ، التى تعرف أعداءها بوضوح ، وتكشف خداعهم ، وتستهين بقمعهم ، وتواصل غضبها الاجتماعى المفرق ، لكنها لا تملك العدة السياسية ـ بعد ـ لإسقاطهم نهائيا ، وكنسهم من دوائر السلطة والتحكم .

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق