الفاروق عمر .. جبار الجاهلية وحكيم الإسلام

عندما سطع نور الرجل الأول (2ـ 4)

الإثنين، 25 أبريل 2022 07:40 م
عندما سطع نور الرجل الأول (2ـ 4)

كان الفاروق هو أول من صنع جواز السفر وفرض الضريبة الجمركية
في عهده تهاوت القوى العظمي الفرس والروم تحت ضرباته القوية
مرض الرجل الأول أبو بكر الصديق، عليه الرضوان، مرض الموت، فرى أن يرشح رجلًا يتولي القيادة ويصبح الرجل الأول.
منذ البداية لم يكن في قلب الصديق سوى الفاروق عمر، فعمر كما جاء في الحديث الذي رواه الشيخان البخاري ومسلم قال عنه سيد الخلق:" فلم أر عبقريًا يفري فريه" يعني يصنع ما يصنعه عمر.
ولكي لا يستبد الصديق بالرأي فقد سمع من جماعة من أكابر الصحابة قولهم في عمر، وكلهم أثني عليه.
فكتب إليه بعهد الخلافة، فلم يعارض أحد وبايع الجميع على السمع والطاعة.
حكومة الإسلام الأولى لم تكن مسبوقة ولم يلحق بها أحد، وذلك لأنها حكومة صنعها ممتازون لممتازين، فجاءت على غير مثال، ولو طلبها الآن أحد فلن يستطيعها، اللهم إلا إذا قبض على معناها الحقيقي وهو العدل، في كل صوره من السياسة إلى الثقافة.
امتياز حكومة الإسلام هي التي جعلت من جبار مثل عمر بن الخطاب رجلًا في قلبه رقة العصفور وبهجة الورد.
في جاهليته كان عمر جبارًا، ملء جوفه متناقضات.
كان  متعلمًا بل كان مثقفًا فهو الذي كان يسفر لقريش، وقليل الثقافة لا يكون سفيرًا أبدًا، وكان مصارعًا، سفير ومصارع! وكان عاقلًا ولكنه يقيم على شرب الخمور، وكان محاربًا ولكنه شديد الوفاء لأصحابه وخلانه.
هذا التكوين العجيب، أعاد الإسلام صهره وتنقيته فحصلنا على الرجل الأول الذي نفاخر به الأمم.
في عهد أبي بكر كان الفاروق هو الرجل الثاني، الكلمة الأولى والحاسمة هي لأبي بكر الرجل الأول، والمشورة والمساندة والدعم من عمر الذي كان جبارًا في الجاهلية فأصبح حكيمًا عبقريًا في الإسلام.
أصبح عمر هو الرجل الأول، وكانت الأمة تعيش نشوة انتصاراتها المدوية على المرتدين وتعيش فرحة عودة جزيرة العرب للإسلام وهى تمسك بين يديها بنسخ من المصحف الذي جمعه أبو بكر الصديق.
أدرك عمر أن الأمر سيطول وأن تلك الدولة الناشئة ستعمر طويلًا فعمل على وضع القواعد والأسس لبنيان سيكون شامخًا.
كان الناس ينادون أبا بكر بخليفة رسول الله، وعندما جاء عمر قالوا له: يا خليفة خليفة رسول الله.
فرد عمر قائلًا:" هذا أمر يطول كلما جاء خليفة قالوا يا خليفة خليفة خليفة رسول الله بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم".
فكأن أول من تلقب بأمير المؤمنين، وكان أول من جعل منصب الرجل الأول تحت هذا اللقب الكريم.
ولأنه أمير فقد قرر إعادة ترتيب البيت من الداخل، ليس لأن الفوضوي كانت تحكم البيت ولكن لأن البيت أصبح كبيرًا متشعبًا يجب أن تصبح حدوده وعلاماته معروفة مشهورة للجميع.
بدأ عمر النظر في الأمور الدينية، فجمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح، وأصل صلاة التراويح أنها من السُّنن التي يؤدّيها المسلمون في شهرِ رمضان المبارك، ولِأنها سُنّة وليست فرضاً فلم يُصلّها النبيّ جماعة في جميع ليالي شهر رمضان، بل صلّاها في بعضها فقط؛ خوفاً من أن يظنَّ النّاسُ أنها من الفرائض، واستمر أمر التراويح هكذا أصبح عمر الرجل الأول فدخل  المسجد في إحدى ليالي رمضان، فوجد الناس متفرّقين، فبعضهم يُصلّي وحده، والبعض الآخر يُصلّون في جماعاتٍ صغيرةٍ، فقال: إنِّي أرَى لو جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ علَى قَارِئٍ واحِدٍ، لَكانَ أمْثَلَ.
 ففعل ولم يعارضه واحد من الصحابة.
ثم رأي عمر أن المسجد الحرام قد أصبح يضيق بالمصلين والمعتمرين والحجيج فقام بتوسعته وتجديده ، وصنع الأمر نفسه مع المسجد النبوي، ثم أمر بَإنارة جميع المساجد؛ وبعث إلى أُمراءِ الأقطار الإسلامية وأَمَرَهم ببناء المساجد، حتى قيل إنه قد بُنيَ على زمانه أكثر من أربعةِ آلافِ مسجدٍ.
كل ذلك من أفعال الدين، فماذا عن أفعال الدنيا؟
ستعجب عندما تعلم أن الفاروق عليه الرضوان هو المؤسس الأول لوزارة المواصلات.
إنه العبقري الذي لا تفلت منه شاردة أو واردة، العبقري الذي يريد بناء دولة على أسس متينة، العبقري الذي درس وعرف أحوال الأمم القوية وحصد ما بها من خيرات.
وأنا أجمع مادة هذا المقال وجدت دراسات كتبها الباحث الأستاذ علي بن محمد الصلابي، عن أعمال الفاروق عمر، سأنقل منها بتصرف يسير.
يقول الصلابي: قام الفاروق عليه الرضوان ، بوضع حصّةٍ من بيت مال المسلمين للإنفاق على المواصلات ووسائل النّقل بين الدول الإسلامية؛ لتسهيل تنقُّل المسلمين، فقد وضع عدداً ضخماً من الجِمال لهذا الغرض، كما أنّه قد خصّص أنواعاً من الطعام كالدّقيق والزبيب لإعانة الفقراء والمحتاجين به، ووضع بين مكة والمدينة أماكن فيها ماء وطعام للمسافرين، واهتمّ في النّقل البحري أيضاً، وأمر أن يصلحوا خليجاً كان مهملاً سابقاً لإحياءِ التجارةِ بين مصر وبلاد الحجاز من خلال البحر الأحمر، كما أنه حفر في العراق قناةً مائيةً؛ لإيصالِ الماء إلى البصرة من نهر دجلة.
قبل عمر كان المسلمون عائلة كبيرة العدد ، ولكن مع عمر أصبح المسلمون شعوبًا ودولًا ، وهؤلاء يحتاجون لضبط أمورهم المادية ضبطًا محكمًا، فجاء عمر بنظام الدواوين من الفرس ، تلك الدولة العظمى التي خبرت الحكومة المركزية منذ قرون قبل ظهور الإسلام ، والدواوين هي ما نسميه الآن بسجلات الحكومة ، فكل شيء يجب تقيده كتابة لمعرفة الحقوق والواجبات .
يقول الصلابي : حصر عمر ما في بيت المال ، الذي هو الآن وزارة المالية  والخزانة العامة ، فوجد فيه أموالُ الزكاة وأموال الجزيةِ من أهلِ الذّمةِ، وخُمسُ غنائمِ الفتوحات، وأموال ميراث من لا وارثَ لهم.
تجمع للفاروق مبالغ ضخمة فكيف يديرها؟
 قام بعمليات إعمار واسعة في شتى بلاد المسلمين، ثم سدَّ حاجاتِ الفُقراء والمحتاجين، وجهَّز الجُيوش للفتوحات، وأكرم كُل من قام بعملٍ عظيمٍ أو تضحيةٍ في الإسلام، وأكرم المُجاهدين الذين يزيلون الضرر عن المسلمين، ولأولياءِ الأمور الذين يأتون بالمنافع للمُسلمين.
وما كان سينجح في تنفيذ كل تلك الإصلاحات في غياب الدواوين التي جاء بها من الفرس والتي لم يكن العرب والمسلمون يعرفون عنها شيئًا.
 كان الفاروق عليه الرضوان يؤمن بأن الفرد حتى وإن كان عبقريًا مثله لن يقوم بأعباء الدولة منفردًا، ولذا سارع إلى تكوين ثلاثة مجالس تعينه على الحكم وعلى اتخاذ القرارات المصيرية.
الأول: وهو مجلس المهاجرين والأنصار، كان يتكوّن من كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، وكانوا يجتمعون إذا وقع أمر مهم.
نستطيع القول بأن هذا المجلس كان النواة الأولى للبرلمان الذي نعرفه الآن.
أما  المجلس الثاني: فكان مجلس العامة، فهذا المجلس يتكون من عامة المسلمين من المهاجرين، والأنصار، والبدو، والوافدين، وكان يُعقد بعد صلاةِ الجُمعةِ، حيث يجتمع عددٌ كبيرٌ من المسلمين في المسجد، وكان عُمر بعد الصلاة يخطب بالمسلمين ويَذْكر الأمر، ثم يستمع لآرائهم، وهذا المجلس كان يختص بأُمور الأُمّة الإسلامية وقضاياها اليومية الخطيرة.
ففي مجلس من تلك المجالس ناقش عمر طريقة توزيع أرض الفتوحات، وهى قضية خطيرة جدًا لأن عمر جعل كل الأرض المفتوحة ملك لكل المسلمين وليست مقصورًا على الذين شاركوا في فتحها فقط.
أما المجلس الثالث: فكان مجلس لمناقشة الأخبار التي تأتي من البلدان المسلمة البعيدة عن العاصمة.
بعد تلك الإجراءات أخترع عمر مفهوم الموظف الحكومي الذي يعمل مقابل أجر، فأمر بأن يكون على رأس كل ولاية والٍ هو المسؤول عن باقي الموظفين، ولديه كاتبٌ في ديوان الجيش، وقاضي، و مدير للشرطة ومدير لبيت مال الولاية  ومسئول مالي كبير عن الخراج والضرائب .
وكان عليه الرضوان يمنع موظّفي الدولة عن الأعمال الخاصة التي تُشغلهم عن مناصبهم.
لو توقف الفاروق عند تلك الإصلاحات لضمن لاسمه وجودًا خالدًا في سجلات أعظم الرجال الأوائل، ولكنه لأنه الفاروق فقد مضى يقطع الشوط لمنتهاه.
لقد قرر تأمين حدود الدولة، وهذا قرر في غاية الخطورة لأن معناه ببساطة هو الاصطدام المسلح مع الفرس والروم.
فرس وروم ذاك الزمان هما الأمريكان والروس الآن!
فانظر إلى خطورة المواجهة؟
في عهد الرسول تواجه المسلمون والروم في موقعتين، الأولى كانت مؤتة وقد خسرها المسلمون ، والثانية كانت تبوك ولم يقع فيها قتال لانسحاب جيش الروم قبل المواجهة، ولكن في عهد الفاروق كانت ضربة البداية القوية جدًا التي ستنتهي بفتح القسطنطينية بعد زمن الفاروق بقرون.
إن الذي يتأمل معركة مثل معركة أجادين أو اليرموك، سيعرف أي رجل كان عمر وأي قواد كانوا قواده.
وهو يحارب الروم كان يحارب الفرس ويعيد العراق إلى حضنه العربي الخالص ثم يتوغل داخل أراضي الإمبراطورية الفارسية، ويكفي موقعة القادسية التي لها من اسمها نصيب، فهي تبدو مقدسة، فما قبلها كان شيئًا ومعا بعدها كان شيئًا مختلفًا بالكلية. 
تلك الفتوحات المدوية التي شملت أجزاء عظيمة من قارتي آسيا وإفريقيا لم تشغل عمر عن بذل المزيد من الجهد لتأمين الجبهة الداخلية، وصدق أو لا تصدق، فإن عمرًا كان أول من أخترع جواز السفر، فلم يكن يسمح لأحد من أكابر الصحابة بأن يغارد العاصمة إلا بوثيقة خطية يقعها عمر بيمينه، فتلك هى تأشيرة المغادرة.
وكأن عمر هو أول من أقام منفذًا جمركيًا، ومع المنفذ الجمركي بدا تطبيق الضريبة الجمروكية، والأصل في ظهورها كما يقول الأستاذ الصلابي:إن الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري أرسل إلى عمر رسالة يستفسر فيها ماذا يفعل مع تجار دار الحرب الداخلين دار الإسلام (أي بلاد المسلمين) متاجرين في حين أن المسلمين تؤخذ منهم جزية على ما يحملونه من بضائع اذا دخلو دار الحرب متاجرين ( أي البلاد التي بينها وبين المسلمين حرب ) فأمره الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأخذ العشور من تجار دار الحرب أسوة بما يفعلونه مع المسلمين وأخذ نصف العشر من الذميين عندما يدخلون ببضائعهم الى الدولة الاسلامية وربع العشر من المسلمين كضريبة جمركية عند دخول البضائع الى الديار الاسلامية.
ثم لقي الفاروق ربه شهيدًا ليأتي من الصفوف الخليفة رجل سيصبح الرجل الأول، وهذا نقصه في الاسبوع المقبل بإذن الله.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة