وفد الله

السبت، 02 يوليو 2022 03:41 م
وفد الله
يحيى يوسف أيوب

 
الحج رحلة ربانية تهفو إليها القلوب فى رغبة دافعة وشوق عارم ويحدوها الحنين إلى منازل لها فى النفوس منازل، ولم يشرع الحج لمجرد الانتقال بالبدن من بلد إلى بلد، لكنه سمو بالروح وارتقاء بالمشاعر وتفجير لأكرم العواطف وأنبلها وتطبيق عملى لمبادئ الإسلام الخالدة.
 
ليس الحج مجرد رحلة لكنه مخطط سماوي الهدف منه تسوية الصفوف المبعثرة وجمع القوى المتفرقة وتنسيق الجهود المتنافرة وصيانة الحقوق المشروعة ورعاية المصالح المشتركة، يسعى المسلمون إليه رجالا و"على كل ضامر يأتين من كل فج عميق"، ليعلنوا منهجهم فى الحياة وليجددوا المعالم على طريقهم إلى الله وليشهدوا منافع لهم.
 
والحجاج وفد الله او ملائكته من البشر يمشون مطمئنين على هذه الأرض، وإذا انتظموا في هذا الموكب الجليل فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، يتجردون من المخيط ليتجردوا من جواذب المادة وهواتف النفس ونوازع الغرور، ويطوفون حول البيت ليُترجموا عقيدة التوحيد إلى عمل متحرك، فهم يستقبلون بيتا واحدا ويعبدون ربا واحدا ويتبعون نبيا واحدا ويحكّمون فيما بينهم دستورا واحداً، فهم عند قول ربهم "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون"، الانبياء 92.
 
ويسعون بين الصفا والمروة ليجددوا ذكرى المؤمنة المهاجرة "هاجر" وهي تهرول بين الجبلين لتبحث عن الماء لولدها الظامئ إسماعيل، معلنة للمؤمنين والمؤمنات أن الجهاد فى سبيل المبادئ من أقدس الواجبات، وأن من توكل على الله فقد أوى إلى ركن شديد.
 
ويقف الحجاج بعرفة ليشهدوا أعظم مؤتمر إسلامي يملأه الحب والتآلف، ويتم فيه التشاور والتعارف ويفيض منه المسلمون وقد تزودوا بزاد روحي يحملونه إلى أطراف الأرض، ويبلغونه قومهم إذا رجعوا إليهم، ويرمون الجمرات ليتدربوا عمليا على قهر الشيطان وسحق مكايده وهواجسه.
 
ومن أهم صفات الحجاج التواضع وهضم النفس، فالمقام مقام انكسار لله وخضوع لجلاله وعظمته، وليس مقام تعاظم وتفاخر وتطاول، فقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حقيقة الحاج فقال "الشعث التفل"، ومعناه: المتواضع الذي يترك الزينة ويبتعد عن الطرف غير مائل إلى أسباب التفاخر والتكاثر والتجبر على خلق الله.
 
فقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال "حج النبي صلى الله عليه وسلم على رحل رث وقطيفة خلق تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي، ثم قال (اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة)".
 
وكان الانبياء والصالحون إذا وفدوا بيت الله حجاجا يؤدون هذا النسك العظيم فى تواضع وجنوح عن مظاهر الحياة.
 
فعن إبي موسى رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد مر بالروحاء سبعون نبيا، فيهم نبي الله موسى عليه السلام حفاة عليهم العباء يؤمون بيت الله العتيق".. رواه ابو يعلى والطبراني.
 
فيا ليت الحجاج يعقلون معنى هذه الأحاديث، فيكونوا فى حجهم متراحمين لا متزاحمين، ومتعاونين لا متعادين، متسامحين لا متخاصمين، فليس أضيع لأجرهم عند الله من اللجاجة والجدل وبسط اليد واللسان بالسوء.
 
ومن شعائر الحج رفع الصوت بالتلبية "لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. ان الحمد والنعمة لك والملك.ز لا شريك لك".. ما اجمله من هتاف وما اروعه من شعار، إنه الشعار الذي يصحب الحاج فى جميع مراحله والتلبية فى حقيقتها هي النزوع بالنفس عن عالم الظلم والطغيان إلى عالم العدل والإحسان وترجمتها.. يارب أنا الواقف ببابك المستجيب لندائك المطيع لأمرك المقيم على عهدك، فأنت الواحد الأحد، رب النعمة السابغة والعزة والقوة القاهرة والسلطان النافذ فى الأرض والسماء، سبحانك لا اله الا أنت.
 
وبهذه التلبية القدسية يتحول الناس من عبيد شهواتهم ودنياهم إلى سادة يملكون أنفسهم فيملكون كل شيء.
 
وعلى اجنحة هذا الهتاف الرباني يرتفعون إلى آفاق عاليه، إلى سماء الترفع عن المادة وظلمتها والنفوس وطغيانها واستغلال القوي للضعيف والغني للفقير والاستكبار فى الأرض بغير الحق.
 
فالحج شُرع من أجل حكمة تعبدية وحكمة اجتماعية، "فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج".. صدق الله العظيم.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة