حمدي عبد الرحيم يكتب: معركة الفراض بين الحقيقة والأوهام

السبت، 24 ديسمبر 2022 06:00 م
حمدي عبد الرحيم يكتب: معركة الفراض بين الحقيقة والأوهام

جمعتني مناسبة بخمسة من الشبان يحملون جميعًا مؤهلات دراسية عليا، شرّق بنا الحديث وغرّب، ثم قال أحدهم: لقد شاهدت تسجيلًا عجيبًا لرجل أمريكي تحدث فيه عن معركة خرافية بين العرب المسلمين وتحالف ضم الروم والفرس وبعض القبائل العربية المتحالفة مع القوتين الأعظم، وقد سحق العرب المسلمون جيوش التحالف سحقًا، وقد أسهب الأمريكي في وصف تلك المعركة التي لم أسمع باسمها إلا منه، وظني أنها لم تقع أصلًا.
 
سأله زميل له: وما اسم تلك المعركة.
 
قال: هو يقول إن اسمها الفرض أو الفراض.
 
تعجبوا جميعًا وقالوا بصوت واحد: أي معركة تلك، نحن لم نسمع بها، وقد يكون الأمريكي يوتيوبر، يبحث عن الإثارة، وليس باحثًا مدققًا.
 
عندما رأيت إصرار الشبان على الخوض في الأمريكي بدون علم قلت لهم: يا جماعة الخير تمهلوا، فمن أجل هذا خلق الله لنا جوجل.
 
ضحكوا فقلت: والله أتحدث جادًا، فالأمريكي لم يكذب ولم يبحث عن الإثارة وجمع اللايكات، ولو كتب أحدكم معركة الفراض على جوجل لحصل على نتائج صحيحة ومؤكدة عن معركة عظمى.
 
ولتعميم الفائدة سأكتب لأصحابي الخمسة ولغيرهم من شبان الوطن ملخصًا لمعركة عظيمة ذهبت من بين أيدينا إلى جب النسيان.
 
كانت بين الفرس والروم العداوة المعروفة، ولكن بعد انتصار المسلمين في كثير من المعارك التي قامت بينهم وبين الجانبين، رأى الجانبان ضرورة التحالف لكي يصدا معًا تقدم المسلمين.
 
في منطقة اسمها الفراض وهى منطقة حدودية تقع بين سوريا والعراق، تجمع جيش الروم والقبائل العربية المتحالفة مع الروم وتلك المتحالفة مع الفرس وفرق من جيش الفرس، في حشد عظيم قدره بعض المؤرخين بمئتي ألف محارب، وهبط بعضهم بالرقم إلى مئة وخمسين ألف محارب، وكل هؤلاء في مواجهة جيش المسلمين الذي يقوده الصحابي الجليل خالد بن الوليد، وقد أجمع المؤرخون على أن جيش خالد لم يزد على عشرين ألف مجاهد.
 
قبل أن تبدأ المواجهة كان خالد قد عرف بعدد الحشد العدو وبخدعة سيعمل على تنفيذها لكي يوقع جيش المسلمين في المهالك.
 
كيف عرف القائد الفذ خالد بن الوليد؟
 
من العيون، والعيون هى الاسم القديم للاستخبارات الحربية، فمن ظن أن جيوش الإسلام كانت تقاتل هكذا في المطلق بدون معلومات وبدون تدريب وبدون تجهيز هو واهم لا شك في ذلك.
 
كانت الخدعة أن يقول قائد جيش العدو لخالد: إما أن تعبر إلينا جسر (كوبري) مقام على نهر الفرات، وإما أن نعبر إليكم.
 
لو سقط خالد في الفخ وقبل العبور لهلك جيش المسلمين، لأنه سيقاتل في أرض غير أرضه لا يعرف عنها شيئًا.
 
حنكة خالد كانت حاضرة، فقال: بل تعالوا أنتم إلينا.
 
وفي يوم 15 من ذي القعدة سنة 12هـ تكامل عبور قوات جيش العدو.
 
أنقل بتصرف عن موقع "قصة الإسلام": "وما إن تكامل عبورهم حتى انقض عليهم المسلمون كالأسود الكاسرة، وقد اغتر العدو بكثرتهم الكبيرة، ولكنهم فوجئوا بشدة الهجوم الإسلامي فاضطربت صفوفهم، خاصة وأنهم خليط من أعداء الأمس «الروم والفرس»، وقد لاحظ خالد بن الوليد هذا الخلل فأمر جنوده بتشديد الهجوم وتصعيده بكل قوة، فعمت الهزيمة على جيوش الحلفاء الثلاثة، وأخذتهم السيوف من كل مكان حتى بلغ عدد قتلاهم مائة ألف مقاتل، وكانت هذه المعركة الكبيرة أعظم وآخر معارك خالد بن الوليد بالعراق، لأنه سينتقل إلى الجهاد على الجبهة الشامية.
 
وكان من أبطال تلك الملحمة الفارس العظيم القعقاع بن عمرو التميمي رضى الله عنه، الذي أضاف إلى فروسيته المعروفة الشعر الطيب المحكم فقد قال في وصف تلك الملحمة:
 
"لَقينا بالفِراض جموعَ رُومٍ وفُرس غَمّها طولُ الَسلام
 
أبَدْنا جَمعَهُم لَما التَقينا وبَيَتّنا بجمع بني رزام
 
فما فـتـئت جنودُ السلم حتى رأينا القوم كالغنم الَسّوام".
 
وعند تلك المعركة يقول ياقوت الحموي في معجم البلدان: "واجتمعت عليه الروم والعرب والفرس، فأوقع بهم وقعة عظيمة.. قتل فيها مائة ألف".
 
رقم قتلى جيش العدو الذي صعد به بعض المؤرخين إلى مئة وخمسين ألف قتيل لم يعجب السيد موير.
 
السيد موير، حسب المركز الإسلامي للدراسات الإسلامية ، بتصرف يسير، هو مستشرق اسكتلندي 1819-1905، قام بعمل دراسات حول حياة النبي محمد والخلافة الإسلامية المبكرة. وتولى إدارة جامعة إدنبرة.
 
و قضى حياته كلها تقريبا فى دراسة الإسلام وكتب أول سيرة شاملة باللغة الإنجليزية عن حياة محمد من أربعة أجزاء، كتب عن سقوط وصعود الإسلام، كتب أيضا عن الخلافة، وكان شديد التعصب حتى أنه قال: "إن سيف محمد والقرآن هما أكثر الأعداء فتكا بالحضارة والحرية والحق، من أى شئ عرفه العالم حتى الآن".
 
قال موير في كتابه الخلافة: إن وصول عدد القتلى إلى مائة ألف قتيل هو عدد خرافي وعظيم غير معقول.
 
نعم عدد القتلى كبير ولكنه ليس خارقًا للعقل، فقد كان عدد جيوش العدو كبيرًا جدًا، وقد باغتهم خالد بهجوم كاسح صاعق، معتمدًا على روح الاستشهاد التي تسري بين جنوده وعلى الفرقة التي بين قوات التحالف، فهم بالأساس أعداء وكونهم اليوم في تحالف لن يجعل العداوة تذوب بين ليلة وضحاها.
 
على أي حال كسب خالد بجدارة المعركة ورأى أن يكافئ نفسه على هذا الإنجاز العظيم فمكث في أرض المعركة عشرة أيام، ثم في طريق العودة أمر عاصم بن عمرو أن يسير في مقدمة الجيش.
 
وأمر شجرة بن الأعز أن يسير في الساقة ليظهر كأنه خالد ابن الوليد.
 
وجاء بعدد قليل من أصحابه وتوجه إلى مكة المركة، سالكًا طريقًا لا يعرفه أحد وعندما وصل إلى مكة المكرمة قام بأداء فريضة الحج ولم يعلم بذلك إلا قلة من الناس، فقد كانت رحلة سريعة لقائد عظيم منتصر دائمًا وأبدًا بحسن استعداده وبرغبته الجارفة في الشهادة، لكي يسجل اسمه في سجلات الشهداء الخالدين.
حقًا لم يكذب الأمريكي ولم يبالغ، نحن فقط الذين لا نبحث عن أمجادنا.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق