في ذكرى رحيل الدكتور طه حسين..

حمدي عبد الرحيم يكتب: معالي العميد في مرآة الشيخ شاكر

السبت، 28 يناير 2023 06:00 م
حمدي عبد الرحيم يكتب: معالي العميد في مرآة الشيخ شاكر

«في الشعر الجاهلي» تسبب في خلاف بين عميد الأدب العربى والشيخ الإمام لكن الرجلان عالمان يعرفان حدود الاختلاف فلم يتطاول شاكر قط على أستاذه ولم يستهتر العميد قط بتلميذه
 
رحل الأستاذ الدكتور طه حسين، عميد الأديب العربي في الثامن والعشرين من يناير من العام 1973، وها قد مر نصف قرن على رحيل الأستاذ العلم المعلم، وتلك الذكرى تستحق أن نحتفل بها بوصل ما قطعته السنون من أدب وعلم العميد.
 
إذًا الاحتفال إن لم يكن واجبًا على الجميع فهو من حق المشتغلين بالأدب والعلم وشئون الجامعة، ولكن بعض هؤلاء لا يطيب له الاحتفال بالعميد إلا إذا قذف غير العميد من أعلام الأمة !
 
ومن العجيب المريب أنه لا يذكر العميد إلا إذا سب بعضهم الأستاذ الشيخ الإمام محمود محمد شاكر!
 
وكأن العميد لم يخاصم غير الشيخ شاكر وكأن الشيخ شاكر كان بمفرده الذي نقد العميد.
 
الأمر يصبح مريبًا حقًا عندما تقرأ لغلام يكتب بيقين كيقين الأنبياء: «شاكر هدم العميد وفتح باب الطعن في دينه».
 
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، متى هدم شاكر العميد ومتى فتح باب الطعن في دين العميد؟.. متى وأين وكيف؟.
 
لن تجد إجابة لأن هؤلاء لن تعرف الاستقامة طريقها لقلوبهم.
 
نبدأ فنسأل كيف عرف شاكر العميد؟
 
الإجابة سأنقلها من شاكر نفسه، الذي نشر إجابته بعد رحيل العميد بعامين فقط، وقد نشرها في مجلة "الكاتب" عدد مارس من العام 1975، ثم هى منشورة في "جمهرة مقالات الاستاذ محمود محمد شاكر" الجزء الثاني بهوامش قيمة كتبها معد الجمهرة الأستاذ الدكتور عادل سليمان جمال.
 
قال شاكر: "كان -رحمه الله- ينشر "حديث الأربعاء" في صحيفة السياسة، وذلك في حدود سنة 1923 وكنت يومئذ فتى صغيرا في المدارس الثانوية، فكنت أقرأ ما يكتب وأتتبعه. وكنت قبيل ذلك أيضًا أقرأ كتاب "الكامل" للمبرد وكتاب "الحماسة" لأبى تمام على شيخى وأستاذى -رحمه الله- إمام العربية في زمانها "سيد ابن علي المرصفي" في بيته، وكان الشيخ لا يكاد يقرأ الصحف، ففي بعض حديثي معه ذكرت له ما كان يكتبه الدكتور طه حسين. فعرفت يومئذ منه أن الدكتور طه حسين قرأ عليه أيضًا ما شاء الله أن يقرأ من كتاب الكامل للمبرد. فحفزنى ذلك على أن أسعى إلى لقاء الدكتور طه حسين وإلى السماع منه. فمن يومئذ عرفته معرفة عن قرب. عرفته محبا لعربيته حبا شديدا، حريصا على سلامتها، متذوقا لشعرها ونثرها أحسن التذوق، وعلمت أن هذا الحرص وهذا التذوق كان ثمرة من ثمار قراءته على المرصفي. فإني لم أر أحدا كان يحب العربية ويحرص على سلامتها، ويتذوق بيانها، كشيخنا المرصفي رحمة الله عليه، ولم أر لأحد تأثيرا في سامعه كتأثير الشيخ في سامعه".
 
هل لاحظت ترحم أبو فهر على أستاذه؟
 
ثم هل لاحظت حرصه على تتبع ما يكتبه أستاذه؟
 
ثم هل لاحظت أن العميد قد تلمذ على يد المرصفي شيخ شيوخ العربية؟
 
فعلًا شاكر هدم العميد وطعن في دينه!
 
ثم يمضي بنا الزمان إلى أن نصل إلى يوم 11 مارس 1925 وفيه صدر مرسوم بقانون إنشاء الجامعة الحكومية باسم الجامعة المصرية وكانت مكونة من كليات أربع هي: الآداب، والعلوم، والطب، والحقوق.
 
كان العميد أستاذًا بالجامعة وكان شاكر قد حصل على الثانوية من القسم العملي، نعم كان شاكر متفوقًا في الرياضيات والإنجليزية، وكان مترجمًا لا يشق له غبار، ولكنه أراد أن يدرس الأدب العربي، وكان العميد يتردد على بيت الشيخ الأستاذ محمد شاكر فعرف برغبة الابن النابغة فتوسط لدى رئيس الجامعة أحمد لطفى الشيد لكي تقبل الجامعة شاكرًا العملي في كلية أدبية!
 
هل تعرف أن الشيخ محمد شاكر والد الابن محمود، كان وكيلًا للأزهر الشريف ومن أكابر علماء الأزهر؟
 
هل رجل كهذا سيصاحب ويستقبل في بيته رجلًا مشكوك في دينه؟
 
فلنستمع لشاكر واصفًا جامعة طه حسين: "صار الدكتور طه حسين أستاذ الأدب العربي في "قسم اللغة العربية" في "كلية الآداب". ولكن لم  تكد تمضي سنة على إنشاء الجامعة حتَّى صرنا إلى أمر غريب جدا: لا يكاد يذكر اسم "الجامعة" حتَّى ينصرف ذهن كل سامع إلى "كلية الآداب" وحدها، ثم إلى الدكتور طه حسين وحده، هذا مع أن عدد طلبة "كلية الآداب" كان يومئذ يعد بالعشرات، وكان عدد طلبة "قسم اللغة العربية" من هذه الكلية يكاد يعد على الأصابع. أي أنك تستطيع أن تقول بلا تجوز كثير: أن طه حسين كان  عند الناس هو الجامعة، وكان الجامعة عندهم هي طه حسين.
 
وهكذا أيضًا كنا نراها نحن طلبة كلية الآداب، وقسم اللغة العربية من هذه الكلية خاصة. وبين أن الفضل في ذلك راجع كله إلى الدكتور طه حسين، وإلى ما أثاره يومئذ من صراع عنيف في الحياة الأدبية لذلك العهد. ولا تتوهم أنى أريد بهذا أن أثنى على الدكتور طه حسين، بل أنا شاهد أقرر لك حقيقة كانت مصورة حية في الأذهان منذ خمسين سنة لا أكثر ولا أقل. وهي صورة غريبة قل أن تتكرر. وقد بقيت حية على عنفوانها بضع سنوات، ثم بدأت في الركود شيئًا فشيئا بضع سنوات أخر. حتَّى انسلخت عنه الجامعة واستقلت بصورتها المعروفة اليوم عند الأمة العربية وانسلخ الدكتور طه أيضًا عنها.. وصار هو طه حسين بصورته المعروفة اليوم عند الأمة العربية لا مصر وحدها".
 
شاكر يقول عن الجامعة هى طه حسين، وطه حسين هو الجامعة، ثم يتهمه غلمان لا يريدون معرفة الإنصاف بأنه هدم أستاذه!
 
ثم قال العميد مقولته المشهورة في الشعر الجاهلي فهب شاكر بما لديه من معرفة ليدافع عن ميراثه وتراث أمته لأنه رأى أن نظرية العميد في: "البحث والإنكار والجحود، وقلب العلم القديم رأسا على عقب، والانتهاء إلى محو أكثر العلم القديم، وبطلان الشعر الجاهلى وهو عماد اللسان العربي كله بعد القرآن والحديث، كل ذلك أفزع القلوب التي كانت تحس وتسمع وترى وتقرأ ما يكتبه أعوان الاستعمار والتبشير يومئذ، فاختلط الأمر، وصار طه حسين عند عامة الناس، واحدا ممن يمثل هذا الاتجاه الَّذي يتولاه فلان وفلان من خبثاء المبشرين الذين يكتبون بالقلم العربي".
 
وكانت تلك السنة هى بدء الخلاف بين شاكر وأستاذه، والرجلان ليس كغيرهما، فهما عالمان يعرفان حدود الاختلاف بين العلماء فلم يتطاول شاكر قط على أستاذه ولم يستهتر العميد قط بتلميذه.
 
ولنستمع إلى أبي فهر: "لقد لقى طه حسين يومئذ ما لقى، ونسب إليه ما أقطع بأنه برئ منه، والدليل على براءته عندي هو أنَّه منذ عرفته في سنة 1924، إلى أن توفي في 28 أكتوبر 1973، كان كما وصفته في أول حديثي؛ محبا للسانه العربي أشد الحب، حريصا على سلامته أشد الحرص، متذوقا لروائعه أحسن التذوق، فهو لم يكن يريد قط باللسان العربي شرا، بل كان من أكبر المدافعين عنه، المنافحين عن تراثه كله إلى آخر حياته. ومحال أن يحشر من هذه خصاله في زمرة الخبثاء ذوى الأحقاد من ضعاف العقول والنفوس، الذين ظهروا في الحياة العربية لذلك العهد، بظهور سطوة "الاستعمار" وسطوة "التبشير" وهما صنوان لا يفترقان".
 
أرجو قراءة الفقرة السابقة مرة ثانية لأنها الدليل الذي لا ينقض على احترام شاكر لأستاذه، والأمر كله كان خلاف حول العلم وليس طعنًا في الدين ولا هدمًا للعميد.
 
ثم بعد أن هدأت عواصف "في الشعر الجاهلي"، نسمع أبو فهر يقول: أدرك طه حسين إدراكا واضحا جدا أن اللسان العربي قد صار في محنة، لا في نفسه، بل في هذه الأعداد الهائلة من المثقفين الذين رفضوا الأدب العربي كله، ففزع فزعا شديدا لانصراف الناس عنه وعن عربيته التي يحبها، وعن لغته التي يحرص على سلامتها، وعن بيانها الَّذي يعتز به".
 
وبعدُ، رحم الله العميد والشيخ شاكر، فقد رضعا أدب الاختلاف وعرفا معنى العلم، وتاب الله على الذين يعكرون صفو الاحتفال بتراب كتابتهم المبتذلة.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق