أشرف ضمر يكتب: سين من الناس.. بطولة أن يكون الإنسان عاديا

السبت، 03 يونيو 2023 10:00 م
أشرف ضمر يكتب: سين من الناس.. بطولة أن يكون الإنسان عاديا

بهمسات أنثوية ناعمة، وبنبرة صوت مثيرة ومغرية، يسمع المندوه اسمه فى الليل، حين يبسط الظلام رداءه القاتم مرصعا بالنجوم والقمر فوق فضاء الحقول فى الريف المصرى، فيصاب بسحر النداهة.
 
و«النداهة» أسطورة من الأساطير الريفية المصرية القديمة، فيها يزعم الفلاحون أنها امرأة جميلة جدا، وغريبة عن قريتهم، تظهر فى الليالى الظلماء فى الحقول، لتنادى باسم شخص معين منهم، فيقوم هذا الشخص مسحورا ويتبع النداء إلى أن يصل إليها، ثم يجدونه ميتا فى اليوم التالى.
 
فى عصرنا الحالى، اتخذت النداهة شكلا أكثر واقعية من أسطورتها القديمة، فصارت لدينا نداهات كثيرات، ينادين ضحاياهن بكثير من المغريات التى تجاوزت سحر الصوت ونعومته الأنثوية، فرأينا ضحايا نداهة الشهرة والمال، تلك التى لها بريق لا يقاوم، يتبعها المندوه مسحورا، فيفعل بنفسه وفى نفسه أى شىء فى سبيل تحقيق الشهرة، وجنى الأرباح، ومن نرى وجوههم على تطبيقات التيك توك، ونطالع أفعالهم على قنوات اليوتيوب التافهة، وتصدمنا تصرفاتهم وتصيبنا بالقرف والاشمئزاز على مواقع التواصل وما أكثرها، خير مثال، وأكبر تجسيد لانهيار القيمة الأخلاقية، مقابل السير فى طريق تلك النداهة، لتتجسد الأسطورة بحذافيرها وتموت الضحية معنويا قبل جسديا فى النهاية، وقد تكتمل المأساة التراجيدية، بموت الضحية غنية ومشهورة، فكلما كان السقوط أكبر والفضيحة مدوية، كانت التراجيدايا أقوى وأكثر ربحا.
 
وعليه، فإذا كنت من المسحورين الهائمين على وجوههم يطاردون أسماءهم فى عالم الشهرة والمال، بعدما همست بها النداهة فى آذانهم، فقطعا أنت غير معنى بهذا المقال، لأن الأمور لا تستقيم أبدا هكذا، فالمجد الشخصى والشهرة الحقيقية والتحقق الذاتى، والثروة المالية أشياء مشروعة، بل على الإنسان السوى أن يعمل فى صمت ليحققها، عليه أن يسعى إليها بالجهد والمثابرة، بالتحمل والجلد، بالمعرفة والثقافة والوعى والإدراك، لا بالسير وراء نداهة الأوهام، وابتذال النفس وتحطيم الروح وتلطيخ السمعة وانحطاط القيمة والمعيار والشرف.
 
كنت مراهقا فى بداية القرن العشرين، وقتها بدأت كتابة الشعر، كانت موهبتى متواضعة للغاية، وكان الجميع يدرك ذلك، الجميع إلا أنا، فى ذلك الوقت كنت عضوا فى نادى أدب قصر ثقافة روض الفرج، الذى يعقد جلسة أدبية أسبوعية يوم الأحد، نقول فيها الشعر والقصة ونتناقش حول كل ما يقال ويلقى، كان النادى مقسما دون قصد من أحد إلى فريقين، أو جيلين، جيل القدماء وجيل الشباب، سرعان ما انخرطتُ طبعا فى زمرة الشباب وصارت بعدها صداقة عمر، تجمعنا مشتركات كثيرة، كالإبداع، والمراهقة، والفقر، والدراسة، فضلا عن طاقة الشباب وحماس المراهقين وطيشهم، لدرجة أننا أنشأنا رابطة مقرها رصيف المقهى الذى يجمعنا ليلا، وأسميناها رابطة قتل الآباء، هدفها التخلص من سلطة جميع الأساتذة، من جيل القدماء والكبار، على إبداعنا الغض، عزز شعورنا بالاضطهاد اشتراكنا جميعا فى اليتم الأبوى، الذى كنا جميعا حديثى العهد به، وأصدرنا وقتها نشرة أدبية جمعنا ثمنها من جيوبنا الخاوية، لندفع لمكتب الآلة الكاتبة والتصوير، وأسميناها «تمرد» وكتبنا تحت العنوان الكبير عنوانا أصغر فرعيا «ضد السائد والمألوف»، فكان الصدام المحتوم بين المأمول والمألوف.
 
فى تلك الأثناء، أتى قاص غريب عنا للقصر، ووزع علينا قصة اسمها «سين من الناس»، وبطريقة بائعى اللبان والنعناع فى الأتوبيسات ألقاها فى حجورنا وانصرف ولم نره بعدها ولو مرة واحدة.
 
طويت القصة ووضعتها فى جيب قميصى، ولم أقرأها حينها، وإن كنت قد طالعت عنوانها دون اهتمام، بعد الندوة جلسنا على رصيف المقهى، مقر رابطتنا العزيزة، وفتحنا النقاش الذى عادة ما كان يبدأ هادئا، ليتحول بمرور الوقت لشجار وتلاسن وفوضى، ثم المغادرة كل منا فى اتجاه، وكنا متصالحين مع فكرة أصواتنا العالية بسبب أحيانا، وبدون سبب كثيرا، لكن تلك الليلة انصرف كل الأصدقاء وبقيت وحدى على الرصيف، يعلو صدرى ويهبط بانفعال، أقاوم البرد بقميص كاروهات تحت منه «تى شيرت هاى كول» موضة ذلك الوقت، رافضا فكرة الملابس الثقيلة، المناسبة أكثر لجيل الكبار الذين تستهدفهم رابطتنا بالقتل المعنوى والتصفية السلطوية الأدبية علينا.
 
قررت جلب الدفء إلى أناملى بتدخين سيجارة، فارتطمت أصابعى بورقة مطوية فى جيب قميصى، فتحتها وقرأت، كانت الورقة هى «سين من الناس»، قصة قصيرة جدا، لا تتجاوز الثلاثة سطور، مفادها أن سين من الناس هذا شخص عادى، مجرد شخص عادى يدور فى دورة حياة عادية للغاية، فها هو يولد، ينمو، يدخل المدرسة، ثم الجامعة، يتخرج، يعمل، يتزوج، ينجب، يشيخ ويموت فى النهاية، فتأتى بعده ملايين النسخ المكررة من السينات البشرية، لتعيش الدورة الحياتية ذاتها بلا انقطاع، وبغير نهاية، مع نصيحة سلطوية فى نهاية القصة، تقول: «لا تكن عاديا مثل سين من الناس.. اترك أثرك».
 
اقتنعت جدا، ولم أكن ساعتها أدرك أننى وقعت فى فخ نداهة ما، ولسنوات ظللت أطارد ذلك المجد العظيم، محاولا - بكل ما أوتيت من قوة - الهروب من عادية هذا السين اللعين من الناس، إلى أن مر على تلك الواقعة ربع قرن تقريبا، ثلاثة وعشرون عاما من عمرى قضيتها فى أوهام صناعة المجد والتاريخ الأدبى، إلى أن اكتشفت بطولة أن يكون الإنسان عاديا، مجرد سين من الناس، يكافح بشرف من أجل من يعول، يؤدى رسالته بصمت، دون ضجيح، يسقط مرغما من وعثاء الرحلة ووعورة الطريق، فينهض مقاوما بصلابة وكبرياء مستشرفا المستقبل لمن هم معلقون فى رقبته، وما إن يكبر، ويشيخ، ويشارف على النهاية، حتى يطمئن قلبه، وتعلو قسمات وجهه ملامح الراحة والضمير الحى، ذلك هو الأثر الحقيقى الذى لا بد أن يتركه الإنسان حين يرحل، وتلك هى البصمة العظيمة التى على المرء أن يجعلها غائرة وراسخة فى نفوس محبيه، فما أعظم أن ينام الواحد فينا خالى البال، مرتاح الضمير، إنها بطولة لا يحققها سوى العظماء، فالمجد كل المجد لهم، ولك سين من الناس.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق