الفرق بين التاريخ والدين

الأحد، 11 يونيو 2023 09:00 ص
الفرق بين التاريخ والدين
كتب: حمدي عبد الرحيم

لو فعلنا ما طالب به المؤرخ حسين مؤنس بتنقية كتب التراث من كل ما يسيء للإسلام ما خرج علينا بعضهم صارخًا بحديث الشاه التي أكلت القرآن

 

من مشكلات حياتنا العقلية العجيبة، أن كثرة منا لا تعرف الفرق بين التاريخ والدين.

فإذا سمع أحدهم كلمة عن صحابي أو صحابية أو فقيه أو مفسر أو محدث ظن أنه قد وقع على حقيقة تتعلق بأصل الدين، ولم يتمهل في حكم سينطق به بالسلب أو الإيجاب تجاه ما سمع.

هؤلاء يغفلون عن أن التاريخ فعل بشري، يدونه بشر ليحمل وجهة نظرهم ثم يقبل عليه بشر وكل منا يقرأ حسب عقله ووجدانه ومشاعره، أما الدين (والكلام عن الإسلام) فلن تجده سوى في آيات القرآن الكريم وفي الثابت من فعل النبي وكلامه، ما عدا هذا ففعل بشري ينسب لأصحابه وليس للدين.

أقول هذا وعيني على كلام فجره أحدهم عن حادثة منسوبة لأم المؤمنين عائشة عليها الرضوان.

تقول الحادثة: "لَقَدْ أُنْزِلَتْ آيَةُ الرَّجْمِ، وَرَضَعَاتُ الْكَبِيرِ عَشْرٌ، فَكَانَتْ فِي وَرَقَةٍ تَحْتَ سَرِيرٍ فِي بَيْتِي، فَلَمَّا اشْتَكَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَاغَلْنَا بِأَمْرِهِ، وَدَخَلَتْ دُوَيْبَةٌ لَنَا فَأَكَلَتْهَا".

هل هذا دين؟

إنها حادثة بشرية منسوبة للسيدة عائشة، وقد فندها غير واحد من أكابر العلماء منهم وقد أحسن موقع "فيصل نور" عندما قام باختصار رأي الإمام الباقلاني الذي قال عن هذه الحادثة: "وليس على الأرض أجهل ممن يظن أن الرسول والصحابة كانوا جميعا يهملون أمر القرآن ويعدلون عن تحفظه وإحرازه، ويعولون على إثباته في رقعةٍ تجعل تحت سرير عائشة وحدها، وفي رقاعٍ ملقاة ممتهنةٍ، حتى دخل داجن الحي فأكلها أو الشاة!

وما الذي كان ترى يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا التفريط والعجز والتواني، وهو صاحب الشريعة، والمأمور بحفظه وصيانته ونصب الكتبة له، ويحضره خلْقٌ كثيرٌ متبتلون لهذا الباب، ومنصوبون لكتب القرآن الذي ينزل، وكتب العهود والصلح والأمانات وغير ذلك مما نزل ويحدث بالرسول خاصةً وبه حاجةٌ إلى إثباته.. والرسول عليه السلام منصوبٌ للبيان وحياطة القرآن وحفظ الشريعة فقط، لا حرفة له ولا شيء يقطعه من أمور الدنيا غير ذلك إلا بنصبٍ يعود بنصرة الدين وتوكيده، ويثبت أمر القرآن ويشيده، وكيف يجوز في العادة أن يذهب على هؤلاء وعلى سائر الصحابة آية الرضاع والرجم فلا يحفظها ويذكرها إلا عائشة وحدها، لولا قلة التحصيل والذهاب عن معرفة الضرورات، وما عليه تركيب الفطر والعادات.

فقد بان بجملة ما وصفناه من حال الرسول والصحابة أنه لا يجوز أن يذهب عليهم شيءٌ من كتاب الله تعالى قل أو كثر، وأنّ العادة توجب أن يكونوا أقرب الناس إلى حفظه وحراسته وما نزل منه وما وقع وتاريخه وأسبابه وناسخه ومنسوخه.

كلام الإمام الباقلاني هو أيسر رد على تلك الحادثة التي تظهر بوضوح تخبط بعضهم وعدم معرفتهم بأن الدين دين والتاريخ تاريخ والقضاء قضاء، وهذا ما عرفه حق المعرفة أمير المؤمنين الفاروق عمر، فثمة واقعة منسوبة له تقول: إن رجلًا يهوديًا تقدم بشكوى ضد الإمام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه.

لو كانت الحادثة منظورة أمام الذين يخلطون الأوراق لقال عمر لليهودي: كيف تتهم علي بن أبي طالب؟

عليّ هو الإمام والفقيه والفارس، عليّ هو ابن عم الرسول، عليّ هو زوج كريمة الرسول، عليّ هو الصوام القوام حافظ القرآن، عليّ هو سيد سادات قريش، فكيف تجرؤ على اتهامه؟

لم يحدث شيء من كل هذا، لقد نظر الفاروق القضية بوصفها قضية بين مواطنين هو رئيسهما، وليس بوصفها قضية بين الدين ورجل من اليهود.

عندما نقرأ كتاب "تنقية أصول التاريخ الإسلامي" للأستاذ الدكتور حسين مؤنس سنجده يعرض قضية التاريخ أحسن عرض فيقول: "إن التاريخ الإسلامي قد فقد شخصيته وروحه ورسالته، لأن التاريخ إذا لم تكن له غاية أو روح أصبح حديثًا مكررًا معادًا لا معني له، لقد فقد تاريخنا شخصيته منذ أصبح مجرد نزاع علي السلطان، التاريخ لا شيء إذا لم تكن له رسالة، والإسلام هو رسالة التاريخ الإسلامي".

هذا الكلام الجاد الخطير يكتبه مؤنس بكل سهولة ويسر بعد أن امتلأ قلبه وعقله بروح ورسالة التاريخ، ولذا فهو لا يخشى في تاريخه الإسلامي لومة لائم.

ولذا تراه يصف المؤرخ الجليل والكبير الطبري بأنه رجل به سذاجة، وفي موضع آخر من الكتاب سابق الذكر يصفه بالعبط، وهو لا يزعم الجرأة بدون دليل ولا يحط من قدر الطبري وعلمه ولكنه يناقش ما جاء في تاريخ الطبري وتفسيره من روايات إسرائيلية ستكون حربة يطعن بها المستشرقون القلب الإسلامي، مثل الأسطورة التي أوردها الطبري وروج لها عن تلفظ رسولنا بآيات تمتدح أصنام قريش، وهي الآيات التي تتحدث عن أن اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى هن الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى.

ينسف مؤنس بكل هدوء وأدب تلك الأسطورة التي يتمسك بها الاستشراق لأنها مروية في كتب الإمام الطبري.

وعلى مدار حياته كان مؤنس يلح في طلب تنقية كتب التراث من كل ما يسيء للإسلام ولرسوله، وكانت طريقته في التنقية تقوم على أن يقرأ تلك الكتب أهل العلم بها وينشرونها كما هي، ولا يتدخلون فيها بالحذف أو الإضافة ثم يأتون في هامشها ويعلقون على متنها موضحين موقفهم مما ذكره المؤلف دون تدخل في متنه.

لو فعلنا ما طالب به المؤرخ العظيم الدكتور مؤنس ما خرج علينا بعضهم صارخًا بحديث الشاه التي أكلت القرآن.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق