القاهرة التى لا تنام

الإثنين، 07 أغسطس 2023 12:29 م
القاهرة التى لا تنام
ياسر الهوارى

 
أنا ابن القاهرة، لا تستهوينى المدن الساكنة، ولا يستهوينى الفراغ، أحب النشاط والحركة والحياة، وأكره الانطباعات الناتجة عن الصور العامة الميتة إكلينيكا منذ ولادتها، أجد راحتى إذا ما غادرت معشوقتى القاهرة فى مدن عريقة مفعمة بالحياة مثل إسطنبول، لندن، بيروت.. وجوه البشر، المنازل القديمة والشوارع الضيقة العتيقة المغرقة فى التفاصيل، وراء كل حجر حكاية تخبرك عن ملك أو صعلوك، عن مناسبة مبهجة او معركة دامية، وأنا مغرم بالحكايات. والحكايات ليست مجرد كلمات عابرة، الحكايات هى الحياة، لا سكون إلا بموت ولا حياة الا بصخب.
 
فشلت فى التكيف مع السكون ولا أرى فى المدن الساكنة إلا قبورا مغلقة على أصحابها وإن كانوا أحياء.
 
القاهرة مدينة الحكايات والمرويات والقصص.. مدينة حية لا تنام ولا تكف عن إمدادك بتفاصيل تلو التفاصيل.. ولا أجد نفسى غريبا، أنا وغيرى امتداد لهؤلاء البشر الأوائل الذين لم يطيقوا الحياة فرادى فأنشأوا المجتمعات فى فجر الحضارة، وتلك طبيعة البشر التى جبلوا عليها.
 
نلجأ إلى الهدوء والسكينة فقط لالتقاط الأنفاس من قسوة الحياة، وإذا ما طالت السكينة والهدوء اشتقنا إلى الصخب والناس والحركة.
 
القاهرة ليست مجرد مدينة يشتاق الناس من كل بقاع الأرض إلى لياليها، هناك سحر غامض يكتنف الطرقات والمقاهى لا يجد المرء عنها بديلا فى أى مدينة أخرى، النوم من المكروهات حين يأتى الزائرون للقاهرة وتلك إحدى مزاياها، انها المدينة التى لا تنام، ساهرة عامرة تبهر الجميع بقدرتها على مطاردة أى رغبة فى النوم، وهنا يأتى السؤال، لماذا نفُقد احد كنوزنا الفريدة احد اهم عطاياها التاريخية بقرار إغلاق فى ساعة محددة من الليل، هل بسبب توفير نفقات على الطاقة فى ظل أزمة طاقة عالمية؟.. ربما بدا الأمر منطقيا للوهلة الأولى.. نعم نغلق حتى لا نتكبد إنفاقا على تشغيل إضاءات وأجهزة تكييف وخلافه، ولكن لننظر للأمر من جهة أخرى، نحن يقينا نخسر أموالا أخرى يدفعها السائحون الجائعون إلى السهر والسمر فى ليالى القاهرة التى لا بديل عنها، ومن لهم بمدينة تنبض بالحياة حتى الصباح مثل قاهرة المعز.. لماذا نفقد بأيدينا أحد أهم روافد العملة الأجنبية فى وقت احتياجنا؟.. لست ضد تقنين مواعيد ساعات عمل المحال التجارية أو ما شابه، لكننى قطعا ضد إفقاد القاهرة أحد أهم امتيازاتها حين نمنع المقاهى والمطاعم وأماكن الخدمة من السهر لخدمة مرتاديها.
 
لا تحرموا المشتاقين إلى سماع صوت أم كلثوم مجلجلا فى ساعات السحر، ولا البقاء مع نغمات العود على المقاهى حتى أذان الفجر.
 
القاهرة بمثابة منتجع سياحى عملاق لا تحده حدود المدن المتعارف عليها، لسنا مدينة يملكها سكانها بل يملكها عشاقها، أطلقوا سراح ليالى القاهرة المكبلة بقوانين الإغلاق المبكر.
 
عدد السائحين برغم الاستقرار الأمنى الواضح لا يليق أبدا بمكانة القاهرة فى القلوب، ولا يصح أن يزور إسطنبول أضعاف من يزور القاهرة.
أعلم أن الأمر ليس بهذه البساطة وأن معوقات السياحية يتخطى كثيرا مسألة الإغلاق المبكر وله حديث مفصل، ولكن لا بأس، لتكن البداية من هنا، من إعادة القاهرة التى لا تنام إلى عهدها.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق