حرب الاستنزاف.. فتحت طريق العبور (1)

السبت، 07 أكتوبر 2023 06:00 م
حرب الاستنزاف.. فتحت طريق العبور (1)
محمد فزاع

- رأس العش ونهاية المدمرة إيلات والحفار كينتينج وقصف بالوظة ورمانة بطولات شاهدة على تحويل  المحنة إلى منحة

- خطة «الصمود والردع والنصر» جعلت العدو يترك أرضنا باصطفاف الشعب مع الجيش.. أكثر من 4 آلاف عملية عسكرية في 1000 يوم

نكسة 1967 كانت مأساة على جميع المصريين والعرب، تحولت من محنة إلى منحة، بعدما اتخذ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، قرارا بعدم الصمت، فدأب على رفع معنويات المصريين بشن حرب الاستنزاف، والتي أطلق عليها الإسرائيليون «حرب 1000 يوم»، لتكون بداية الطريق لنصر أكتوبر، بعد عمليات فدائية عظيمة اعتمدت على خطة ثلاثية «الصمود، ثم الردع، والنصر المبين».

"نواجه عدوا لن يترك أرضنا إذا لم نستطع نخلعه منا، وهو ما سنفعله" كلمات كانت صريحة وواضحة للرئيس الراحل عبد الناصر، أمام عمال مصانع حلوان، لتأتي حرب الاستنزاف كطريق لم يكن فيه رفاهية الاختيار، واصطف الشعب المصري خلف قواته المسلحة التي كسرت الحاجز النفسي بين الجندي المصري والجندي الإسرائيلي، لتكون البروفة الرئيسية لحرب أكتوبر.

صنع الأجداد والآباء بدمائهم وأرواحهم المجد، بعد أسبوع واحد من الهزيمة، لتبدأ القيادة السياسية في إعادة بناء القوات المسلحة وإعادة هيكلتها، وتسليح الجيش ورفع كفاءته في التدريبات خلال سنوات الحرب.

كانت بداية حرب الاستنزاف، عندما تقدمت المدرعات الإسرائيلية صوب مدينة بور فؤاد بهدف احتلالها يوم  1 يوليو 1967، بعد النكسة بـ3 أسابيع، وظنوا وقتها أن المصريين انهاروا، لكن بسالة الصاعقة المصرية نجحت بالتصدي لهم فيما عرف بمعركة «رأس العش». لتتكبد إسرائيل أول هزيمة وخسائر موجعة، استمرت بعدها أطول حرب استنزاف في العالم، لمدة 3 سنوات.

حرب رد الأعتبار، أكدت معدن الجندي المصري، وأثبتت للعالم رغم قسوة الهزيمة أن الجيش المصري لم يفقد إرادة القتال، وأنه قادر على رد اعتباره، هذا الى جانب أنها كانت بمثابة ميدان التدريب التي استعد من خلاله الجيش المصري لحرب أكتوبر 1973 والطريق للعبور.

يقول اللواء أركان حرب علي حفظي، رئيس جهاز الاستطلاع وأحد أبطال القوات المسلحة في حرب أكتوبر، إن حرب الاستنزاف استمرت 1000 يوم، بينهم 500 يوم قتال فعلي على أرض الواقع، مؤكدا أن الحرب ضمت أكثر من 4 آلاف عملية عسكرية، وكان يجري تنفيذ من 8 إلى 10 عمليات يوميا.

رأس العش

صباح 1 يوليو 1967، كانت رأس العش المنطقة الوحيدة في سيناء التي لم تحتلها إسرائيل أثناء حرب يونيو 1967، وعندما وصلت القوات الإسرائيلية جنوب بورفؤاد، وجدت قوة مصرية محدودة من قوات الصاعقة المصرية، قوامها 30 مقاتلًا فقط، مزودين بالأسلحة الخفيفة، أما القوة الإسرائيلية كانت 10 دبابات مدعمة بقوة مشاة ميكانيكية في عربات نصف مجنزرة.

نزلت الصاعقة على القوة الإسرائيلية بعدما تفاجأت بالمقاومة العنيفة للقوات المصرية التي أنزلت بها خسائر كبيرة في المعدات والأفراد أجبرتها على التراجع جنوبا، ورغم محاولة جيش الاحتلال الهجوم ثانية لكن فشل باقتحام الموقع بالمواجهة أو الجوانب، ومني الاحتلال بتدمير عربات نصف مجنزرة مع خسائر بالأفراد، وانسحبت القوات الإسرائيلية بعد صدمة الهزيمة وصمود المصريين 4 أيام.

نهاية المدمرة إيلات

مرت 4 أشهر وتحديدا 21 أكتوبر 1967، وجهت القوات البحرية ضربة قوية جديدة للاحتلال الإسرائيلي، أفقدته اتزانه، بإغراق المدمرة البحرية الإسرائيلية إيلات، طراز HMS Zealous R39  في البحر الأبيض المتوسط، أمام مدينة بورسعيد.

وكانت إيلات، تتمتع بثقة كبيرة في أوساط جيش الاحتلال حتى إنها داخل المياه الإقليمية المصرية ليلة 21 أكتوبر، وجاءت عملية إغراقها بواسطة 4 صواريخ بحرية سطح/ سطح، كانت هي الأولى من نوعها في تاريخ الحروب البحرية، وبداية مرحلة جديدة لمراحل تطوير الأسلحة البحرية واستراتيجيات القتال البحري في العالم، وجرى في العملية تدمير مدمرة حربية كبيرة بلنش صواريخ للمرة الأولى في التاريخ، بجانب 3 عمليات أخرى بميناء إيلات، تم فيها إغراق 4 سفن نواقل وتفجير الرصيف الحربي للميناء.

تدمير داكار

ضربة جديدة وجهت للاحتلال بعد 19 يوما فقط، وحين سلمت البحرية البريطانية، الغواصة الحديثة «داكار» لإسرائيل، وعند مقربة من الحدود المصرية الغربية، صدرت أوامر، 10 نوفمبر 1967 لقائد الغواصة بالتجسس على أحواض لنشات الصواريخ المصرية بمقر قيادة القوات البحرية المصرية بالإسكندرية.

تلقت هيئة عمليات القوات البحرية من عدة قطع بحرية، تقارير تفيد بأن هناك صوت يبدو وكأنها غواصة تقترب من حدود مصر الإقليمية، وبسرعة اتخذ القرار بالهجوم، وبدأت المدمرات بإلقاء القذائف واحدة تلو الأخر وبأعداد كبيرة، حتى صدرت أوامر مباشر من قائد الغواصة الإسرائيلية بالنزول إلى أقصي عمق ممكن لتفادي الصدمة الانفجارية التي يمكن وحدها أن تؤدي الي تدمير المعدات الإلكترونية داخل الغواصة، وبعد عدة ساعات شوهدت بقع زيتية ومخلفات تطفو بسطح المياه ما يؤكد أن الغواصة قضي عليها.

تدمير وإغراق الحفار كينتينج

عقب الهزيمة حاول الإسرائيليين تحطيم الروح المعنوية للمصريين فقرروا استخراج البترول من خليج السويس، وكانت تخطط لضرب حقل «مرجان» للبترول الوحيد الباقي في يد مصر لتحرم الجيش المصري من إمدادات البترول بعد استدراج مصر في مواجهة عسكرية لم تكن تستعد لها جيدا، أو يضطر المصريون للتراجع والصمت.

قدم جهاز المخابرات المصري اقتراحا إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، يقضي بضرب الحفار خارج حدود مصر بواسطة عملية سرية مع عدم ترك أي أدلة تثبت مسؤولية المصريين عن العملية بعد التأكد بأن الحفار سيتوقف في داكار بالسنغال بجوار قاعدة بحرية فرنسية.

ورغم صعوبة عملية تفجيره، وصلت الضفادع المصرية بقيادة الرائد خليفة جودت، فوجئ الجميع بالحفار يطلق صفارته معلنا مغادرته للميناء، متجها إلى أبيدجان، وفي 6 مارس 1970 بالتزامن مع الانشغال لاستقبال عدد من رواد الفضاء الأمريكيين الذين يزورون إفريقيا لأول مرة، استثثمرت الضفادع البشرية الفرصة الذهبية بتأمين الزيارة لتوجيه الضربة للحفار.

كانت الدفعة الأولى من الضفادع 3 أفراد وقائدهم ونزلت الضفادع المصرية من منطقة الغابات ولغموا الحفار وسمع دوي الإنفجار، بينما كان أبطال الضفادع في طريق عودتهم للقاهرة.

قصف بالوظة ورمانة

كان للقوات الإسرائيلية على الساحل الشمالي لسيناء موقعان، أحدهما لتجمعات إدارية في منطقة رمانة، والثاني موقع صواريخ هوك في بالوظة، وتجمعات شؤون إدارية في شرقي بورسعيد بحوالي 40 كيلومترًا، وصدرت التعليمات بتدميرهما، بواسطة المدمرتين الناصر ودمياط، بالتعاون مع لنشات الطوربيد والصواريخ ليلة 8 و9 نوفمبر 1969.

جاءت العملية مخادعة وسرية معتمدة على أساس أن تغادر المدمرتان ميناء الإسكندرية، لتكونا أمام فنار البرلس عند الغروب، ثم يستكملان إبحارهما شرقًا وتلتقيان أمام بورسعيد بمجموعة من لنشات الطوربيد والصواريخ، التي ستقوم بواجب الحراسة، ثم يستكمل التشكيل إبحاره شرقًا للوصول إلى الموقع في الساعة الحادية عشرة، مساءً يوم التنفيذ.

ويبدأ فوج المدفعية الساحلية المتمركزة في قاعدة بورسعيد، في ضرب الموقع الإسرائيلي شرق بور فؤاد، حتى يتيقن الإسرائيليون بأن الضرب يأتيهم من اتجاه بورسعيد، وفي ذلك الوقت تكون المدمرات قد وصلت موقع ضرب منطقتي رمانة وبالوظة، وجرت العملية طبقًا للمخطط تمامًا، رغم محاولات طائرات إسرائيل مهاجمتهما.

7 أيام سوداء للفانتوم

مرت إسرائيل بكابوس لمدة أسبوع بدأ من 30 يونيو حتى 7 يوليو 1970، بعد تزويد الاحتلال بطائرة أمريكية حديثة، تستخدم أنظمة الحرب الإلكترونية بتجهيزات إلكترونية حديثة جدًا من حواسيب ورادارات لأغراض متعددة وأجهزة استشعار للصواريخ المعادية المنطلقة باتجاه الطائرة لأول مرة، مما يسمح للطيار بأخذ مناورة حادة مما يفجر الصاروخ وهو يطارد الطائرة.

وتمكنت قوات الدفاع الجوي المصرية من إسقاط العديد من الطائرات طراز فانتوم بلغت 12 طائرة وأخرى سكاي هوك وأسر العديد من الطيارين الإسرائيليين وكانت هذه أول مرة تسقط فيها طائرة «فانتوم»، وتوالت بعده انتصارات رجال الدفاع الجوى المصري.

عمليات برا وبحرا وجوا

قامت القوات الجوية خلال يومي 14 و15 يوليو 1967 بأول معاركها فقد نفذت القوات الجوية المصرية طلعات هجومية ضد القوات الإسرائيلية في سيناء، أحدثت فيها خسائر فادحة، وأدت لفرار بعض من الأفراد الإسرائيليين من مواقعها، وهو ما أدى إلى زيادة الثقة لدى المقاتلين في قواتهم الجوية بعد هذه العملية الناجحة وسميت بضربة مدكور أبو العز قائد القوات الجوية وقتها.

كانت عبارة عن اشتباكات  كبيرة ركزت فيها المدفعية المصرية كل إمكانياتها في قطاع شرق الإسماعيلية يوم 20 سبتمبر 1967، وتمكنت خلالها  من تدمير وإصابة عدد كبير من الدبابات الإسرائيلية بالإضافة إلى الإصابات في الدبابات الأخرى وعربات لاسلكي، وأسقطت 25 قتيلًا و300 جريح منهم.

شهدت الفترة التي أعقبت حرب يونيو 1967 وحتى أوائل أغسطس 1970، أنشطة قتالية بحرية بين الجانبين وكان كلاهما يهدف إلى إحداث أكبر خسائر في القوات البحرية للطرف الآخر بغرض إحراز التفوق والحصول على السيطرة البحرية.

كان أهمهم دخول المدمرة إيلات ومعها زوارق الطوربيد ليلة 11/12 يوليو 1967 داخل مدى المدفعية الساحلية في بورسعيد بمثابة استفزاز للجيش المصري وعندما تصدت لها زوارق الطوربيد المصرية فتحت إيلات على الزوارق وابلا من النيران ولم تكف عن الاستفزاز حتى  صدرت توجيهات إلى قيادة القوات البحرية المصرية بتدمير المدمرة إيلات تماما وإخفائها من الوجود.

استعدادات مصر

بالتزامن مع بداية حروب الاستنزاف كانت مصر تستعد للمعركة الكبرى، وبدأت بتأسيس مجلس الدفاع الوطني عام 1968، الذي أنشأه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وكان يتكون من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء و5 وزارات أساسية هي «الدفاع، والداخلية، والخارجية، والإعلام، والمالية»، بالإضافة إلى باقي الوزارات وعدد من الجهات السيادية، وكان الهدف من إنشاء هذا المجلس هو وجود تنسيق فعلى بين مؤسسات الدولة لتذليل العقبات في سبيل اتخاذ قرارات سريعة وحاسمة والابتعاد عن الإجراءات الحكومية الروتينية المعروفة، وتسهيل كل العقبات التى تواجه أى خطوة فى الحرب.

واجهت مصر صعوبة في تمويل الحروب، ليتحول الاقتصاد المصري قبل حرب السادس من أكتوبر 1973 إلى «اقتصاد الحرب»، وذلك بمعنى تعبئة جميع المصانع ومنتجاتها لاستيفاء احتياجات القوات المسلحة أولا، كما لجأت مصر ضمن خطتها في خداع العدو إلى توقيع تعاقدات دولية لتوريد السلع الإستراتيجية مثل القمح على مدد زمنية غير منتظمة حتى لا تلفت انتباه العدو إلى أن الدولة تقوم بتخزينها، وقد تم تحقيق الاحتياطي اللازم من هذه السلع ليكفى احتياجات الدولة لمدة 6 أشهر قبل الحرب مباشرة.

استطاعت مصر أن تعيد بناء القوات المسلحة وتكوين قيادات ميدانية جديدة، وإعداد القيادات التعبوية الجديدة، وإعادة تشكيل القيادات في السلاح الجوى، وإدخال نظم تدريب على كل ما هو أساسي للحرب، وكذلك التدريب على مسارح مشابهة لمسرح عمليات الحرب.

وجر إنشاء سواتر ترابية مماثلة لخط بارليف على ضفة النيل وتدريب القوات على عبورها، كما احتفظت القوات المسلحة بالقوة الرئيسية من المجندين دون تسريحهم بعد انتهاء فترة تجنيدهم حتى أن بعض المجندين استمروا في تجنيدهم لمدة 7 سنوات.

كما استعدت القوات المسلحة للحرب بكل ما هو حديث في تكنولوجيا التسليح وقامت بتطوير أسلحة المشاة واستبدلت الدبابات القديمة بالجديدة وتم إحلال المدفعية القديمة بأخرى متطورة وتم الدفع بطائرات حديثة وإدخال طرازات جديدة من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، إلى جانب الصواريخ طويلة المدى وكذلك تطوير معدات المهندسين العسكريين وأجهزة الكشف عن الألغام وإدخال أسلحة غير تقليدية ابتكرها مهندسون مصريون مثل قاذفات اللهب المحمولة على الأكتاف ومسدسات المياه التي استخدمت في هدم خط بارليف الرملي.

كما أصدرت القيادة العامة توجيهاتها قبل الحرب للتدريب على العمليات بدأ من إعداد الجندي للقتال حتى إعداد الوحدة والوحدة الفرعية للتشكيل للحرب، والتدريب على أسلوب اقتحام الموانع المائية والنقاط القوية المشرفة على حمايتها، وأسلوب الدفاع عن مناطق التمركز والوحدات والمعسكرات لمواجهة عناصر «المتكال» المتمركزة خلف خطوط الدفاع الإسرائيلي.

حائط الصواريخ ومبادرة روجرز

اتحذت مصر قرار الحرب الشاملة بعد أن نجحت بإنشاء "حائط الصواريخ" المضاد للطائرات على طول خط المواجهة مع إسرائيل وبالعمق المصري، وجرى بناؤه بعهد الرئيس عبدالناصر، وحمى الجيش أثناء حرب أكتوبر 1973.

استغرق بناء حائط الصواريخ 40 يوما، وكان يضم مجموعات منفصلة من قوات الدفاع الجوى "المدفعية المضادة للطائرات، ووحدات الصواريخ، وأجهزة الرادار والإنذار"، ومراكز القيادة المشتركة التى أنشأتها مصر 1970 بهدف صد الهجمات الجوية الإسرائيلية، وكان لهذا الحائط دور كبير في تحييد القوات الجوية الإسرائيلية خلال حرب أكتوبر 1973، ما سهل عملية العبور واجتياز خط بارليف.

ومع تصاعد الصدمة في الجانب الإسرائيلي من خسائر حرب الاستنزاف، اقترحت أمريكا تسوية سلمية عرفت بمبادرة روجرز، وأعلنت مصر موافقتها على المبادرة الأمريكية لكسب الوقت لتجهيز الجيش واستكمال حائط الصواريخ، والاستعداد للعبور.

 

جاء المشهد الأخير في الثانية من ظهر يوم 6 أكتوبر 1973، عندما بدأ أكثر من 2000 مدفع ثقيل قصفه لمواقع العدو في نفس اللحظة التي عبرت فيها سماء القناة 208 طائرات تشكل القوة الجوية المكلفة بالضربة الجوية الأولى التي أصابت مراكز القيادة والسيطرة الإسرائيلية بالشلل التام.

وفى نفس الوقت كان آلاف المقاتلين بدؤوا النزول لمياه القناة واعتلاء القوارب المطاطية والتحرك تحت لهيب النيران نحو الشاطئ الشرقي للقناة، بعد ذلك بدأت عمليات نصب الكباري بواسطة سلاح المهندسين، وتحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر.

 

 

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق