المعارك دول مثل الأيام

السبت، 27 يناير 2024 03:00 م
المعارك دول مثل الأيام
حمدي عبد الرحيم

من الأوهام التي يروجها البعض، أن المعارك الحربية تكسب بالضربة القاضية!
 
الضربة القاضية تصلح في وصف نتائج الألعاب الرياضية مثل الملاكمة، لكن المعارك الحربية ما هي إلا جولات، فجولة لك وجولة عليك، ثم الحسم يكون بتحقيقك لأهدافك، فإن لم تحققها فأنت خاسر حتى لو كنت قد قضيت على قوات عدوك.
في تاريخنا الإسلامي جولتان، تؤكد صحة ما ذهبنا إليه.
 
الجولة الأولى معروفة باسم موقعة الجسر، وسأنقل بتصرف يسير عن الإمام ابن كثير وصفه لتلك الموقعة المهمة والخطيرة.
 
في شعبان من العام الثالث عشر من الهجرية النبوية الشريفة وفي عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، بدأت موقعة الجسر بين المسلمين والإمبراطورية الفارسية، تقابل الفريقان وليس بينهما إلا نهر عليه جسر(كوبري)
 
قال الفرس للمسلمين: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم؟
 
فقال المسلمون لأميرهم أبي عبيد الثقفي: أأمرهم فليعبروا هم إلينا.
 
فقال: ما هم بأجرأ على الموت منا، ثم اقتحم إليهم فاجتمعوا في مكان ضيق هنالك فاقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد مثله المسلمون في نحو من عشرة آلاف، وقد جاءت الفرس معهم بأفيال كثيرة عليها الجلاجل، قائمة لتذعر خيول المسلمين فجعلوا كلما حملوا على المسلمين فرت خيولهم من الفيلة، ومما تسمع من الجلاجل التي عليها، ولا يثبت منها إلا القليل على.
 
في خضم المعركة لقى القائد أبو عبيد ربه شهيدًا، ثم استشهد سبعة من القادة الذين تولوا رئاسة الجيش.
 
باستشهاد القادة ضعف موقف المسلمين، فكثر فيهم القتل حتى أن الفرس قتلوا من جيش الإسلام أربعة آلاف مجاهد، وكان الناس لما انهزموا جعل بعضهم يلقي بنفسه في الفرات فيغرق.
 
ومن الناس من ذهب في البرية لا يُدري أين ذهب، ومنهم من رجع إلى المدينة النبوية مذعورا.
 
ثم تولى الصحابي الجليل المثنى بن حارثة قيادة الجيش واستطاع بعبقرية عسكرية نادرة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، انسحاب المثنى أنقذ الجيش من الهلاك التام، وذهب عبد الله بن زيد بن عاصم المازني إلى عمر بن الخطاب فوجده على المنبر، فقال له عمر: ما وراءك يا عبد الله بن زيد؟
فقال: أتاك الخبر اليقين يا أمير المؤمنين، ثم صعد إليه المنبر فأخبره الخبر سرا.
 
عرف أمير المؤمنين بهزيمة المسلمين وفرار بعض الجند من أرض المعركة فلم يوبخهم ولم يؤنبهم بل قال: إنا فيئكم، وأشغل الله المجوس بأمر ملكهم.
 
تلك كانت الجولة الأولى التي انتهت بنصر واضح لا لبس فيه للفرس وبهزيمة واضحة لا لبس فيها للمسلمين.
 
ثم صدق أو لا تصدق لقد انتفض المسلمون بعد أقل من شهر ليخوضوا غمار الجولة الثانية التي نعرفها باسم معركة البويب التي وقعت في رمضان من العام الثالث عشر الهجري.
 
سأنقل عن جماعة من المؤرخين بتصرف يسير خبر تلك الجولة العظمى من جولات الإسلام المظفرة.
 
عرف أمير عمر بن الخطاب رضي الله بخبر احتشاد الفرس لمواصلة القتال بعد نصرهم الواضح في معركة الجسر فندب الناس إلى الانضواء تحت قيادة المثنى بن حارثة الذي انحاز بالمسلمين غربيّ نهر الفرات، وأرسل إلى من بالعراق من أمراء المسلمين يطلب منهم الإمداد، وترامت الأنباء إلى رستم قائد الفرس بأن المسلمين قد حشدوا له الحشود، فجهّز جيشاً عظيماً بقيادة مهران الهمداني، ولما سمع المثنى بذلك كتب إلى أطراف الجيش الذين قدموا لنجدته قائلاً لهم: "إنا جاءنا أمرٌ لم نستطع معه المقام حتى تقدموا علينا، فعجّلوا اللحاق بنا، وموعدكم "البويب" -وهو مكان بأرض العراق قريب من الكوفة اليوم ـ" فتوافوا جميعاً هناك في شهر رمضان سنة (13هـ).
 
وكان مهران قد وقف في الجهة المقابلة لنهر الفرات، وأرسل إلى المثنى يقول له: "إما أن تعبر إلينا، وإما أن نعبر إليك"، فقال له المثنى: "بل اعبروا إلينا"، فعبر مهران فنزل على شاطئ الفرات، وأقبل الفرس في ثلاثة صفوف مع كل صفٍّ فيل، ولهم زجلٌ وصياح: فقال المثنى لأصحابه : "إن الذي تسمعون فشل فالزموا الصمت". ثم عبّأ المثنى جيشه وأمرهم بالإفطار ليتقووا على عدوهم فأفطروا، وطاف بين الصفوف وهو على فرسه، فجعل يمر على كل راية من رايات الأمراء والقبائل يحرضهم، ويرفع معنوياتهم، ويحثهم على الجهاد والصبر، ويثني عليهم بأحسن ما فيهم، وكلما مرّ على صفٍّ قال لهم : "إني لأرجو ألا يؤتى الناس من قبلكم بمثل اليوم، والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامَّتِكم"، فيجيبونه بمثل ذلك، وأنصفهم من نفسه في القول والفعل، وخالط الناس فيما يحبون وما يكرهون، فاجتمع الناس عليه، ولم يعب له أحد قولاً ولا فعلاً.
 
ثم قال لهم: إني مكبر ثلاثاً فتهيّئوا، فإذا كبَّرت الرابعة فاحملوا، فلما كبَّر أول تكبيرة عاجلتهم الفرس وحملوا عليهم، فالتحم الفريقان واقتتلوا قتالاً شديداً، وعندها رأى المثنى خللًا في بعض صفوفه فبعث إليهم رجلاً يقول لهم: "الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول لكم: "لا تفضحوا المسلمين اليوم" فتماسَكُوا واعتَدَلُوا، ثم بعث في الناس من يقول: "يا معشر المسلمين عاداتكم، انصروا الله ينصركم"، فجعلوا يدعون الله بالنصر والظفر.
 
ولما طال القتال جمع المثنى نفراً من أصحابه الشجعان يحمون ظهره، وحمل هو على مهران فأزاله عن موضعه حتى أدخله في الميمنة، وزاد المثنّى من ضغطه على العدوّ حتى اختلطت الصفوف، واشتدّ القتال. وفي أثناء ذلك أصيب مسعود بن حارثة قائد مشاة المسلمين وأخو المثنى، ولم تزل جراحه تنزف حتى فارق الحياة، ورأى المثنى ما أصاب أخاه فقال للناس: "يا معشر المسلمين! لا يرعكم مصرع أخي؛ فإن مصارع خياركم هكذا".
 
ثم تضعضع جيش الفرس، وحاولوا الفرار ولحق المسلمون في إثره، وكان المثنى قد سبق إلى الجسر فوقف عليه ليمنع الفرس من العبور عليه، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة حتى قيل: إنه قتل منهم يومئذ وغرق قريبٌ من مائة ألف، وبقيت جثث القتلى وعظامهم دهراً طويلاً، وسمي هذا اليوم بيوم الأعشار، فقد وجد من المسلمين مائة رجل، كلُّ رجل منهم قَتَل عشرة من الفرس.
 
وهكذا  أكدت تلك الجولة ما سبق وأن أكدته جولات: المعارك مثل الأيام كلاهما دول، والعاقبة للصابرين المجاهدين.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق