إبراهيم علوان مدير عام التراث الفلسطيني لـ"صوت الأمة": الاحتلال يغتال هويتنا وثقافتنا
السبت، 24 مايو 2025 11:30 م
حواره - محمود علي
إسرائيل دمرت 105 مركزا وجمعية ثقافية و87 مكتبة في غزة.. ونهبت مخطوطات أثرية نادرة من قسم الأرشيف في بلدية القطاع
مصر الرئة التي يتنفس منها الفلسطينيين والحاضنة الكبرى للقضية.. وموقفها في رفض التهجير والعدوان كان حائط الصد القوى في وجه مخططات الاحتلال
رغم المحاولات الإسرائيلية على مر التاريخ لطمس الهوية الفلسطينية، يبقى التراث الفلسطيني صامدًا شاهدًا حيًّا على حضارة ممتدة في جذور الأرض المحتلة. ليس مجرد حجارة أو نقوش، بل هو ذاكرة وهوية وصرخة وجود في وجه محاولات التزوير الدائمة.
وفي هذا الحوار الخاص الذي أجريناه مع إبراهيم علوان مدير عام التراث بوزارة الثقافة الفلسطينية، سنفتح نافذة على الجرح الثقافي الفلسطيني النازف في غزة والقدس، ونستمع إلى صوت وزارة الثقافة الفلسطينية وهي توثق الألم، وتضع أسس الأمل وإعادة البناء، في قلب عاصفة العدوان، التي تتساقط خلالها القنابل على أحلام الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة في نيل دولته المستقلة.
بداية، كيف تقيّمون في وزارة الثقافة، حجم الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الثقافية والتراثية في قطاع غزة والضفة الغربية نتيجة العدوان الإسرائيلي الأخير؟
العدوان الإسرائيلي لم يقتصر على استهداف الإنسان الفلسطيني، بل امتد أيضًا إلى الحجر الفلسطيني، إلى التراث، وإلى كافة مكونات الحياة الثقافية، وبناءً على توجيهات الوزير عماد حمدان، قمنا برصد شامل للدمار الذي طال الأماكن التراثية والمراكز والجمعيات الثقافية. وبدأنا فورًا بعمليات التوثيق والرصد، وللأسف وجدنا أن الأضرار جسيمة للغاية، فقد تعرضت المكتبات، والمواقع الأثرية، والفضاءات الثقافية، والمراكز لتدمير واسع النطاق.
على سبيل المثال، مكتبة الجامع الكبير، المعروفة باسم مكتبة الظاهر بيبرس، تم تدميرها بالكامل، كذلك مكتبة منصور اليازجي، وقسم الأرشيف في بلدية غزة الذي كان يضم وثائق تعود إلى أكثر من 150 عامًا، بالإضافة إلى مخطوطات أثرية نادرة، تعرضت للتدمير والنهب، البيوت الثقافية مثل بيت العلمي، وبيت السقا، وبيت الغصين، التي كانت تستضيف الأدباء والمثقفين في أمسيات ثقافية، دُمِّرت بالكامل. أيضًا مكتبات دار الكلمة، وأبو شعبان، ومكتبة البلدية، ومنزل الرئيس الراحل ياسر عرفات، كلها لم تسلم من هذا الدمار الممنهج.
هل لديكم بيانات دقيقة بشأن عدد المرافق الثقافية والمواقع التراثية التي دمرت أو تضررت خلال هذا العدوان؟
لدينا 105 مركزًا وجمعية ثقافية، تم تدمير 55 منها بالكامل، بينما لحقت الأضرار الجزئية بالباقي. كذلك لدينا ثلاث مسارح كبرى في قطاع غزة، تم تدميرها بالكامل. أما المكتبات، فتم تدمير 87 مكتبة بشكل شبه كامل. وبالنسبة لدور النشر، فقد تم تدمير 8 من أصل 15 دار نشر بشكل كامل، وتعرض الباقي لأضرار جزئية.
وفيما يتعلق بالمواقع الأثرية والتراثية، فقد تم تدمير 200 موقع من أصل 325 موقعًا. وهناك أكثر من 3500 قطعة تراثية، ومطرزات، ومقتنيات أثرية، تعرض منها 2100 للسرقة أو التدمير. الأخطر من ذلك، استشهاد أكثر من 130 من الفنانين والكتاب والموسيقيين وصناع السينما، كان آخرهم الكاتبة فاطمة حسونة وعشرة من أفراد عائلتها.
كما تعرضت مواقع مسجلة ضمن قائمة التراث العالمي للتدمير، أبرزها موقع "تل أم عامر" الذي يحتوي على أرضيات فسيفسائية نادرة. أما الضفة الغربية فلم تكن بمنأى عن العدوان، حيث ألغيت العديد من الفعاليات الثقافية بسبب تقطيع الأوصال والاقتحامات، وتم فرض قيود مالية وعسكرية على مراكز ثقافية، لا سيما في القدس والحرم الإبراهيمي، مثل جمعية الملتقى الشبابي التراثي ومسرح الحكواتي.
هذا الدمار له انعكاسات خطيرة على الهوية الثقافية الفلسطينية. فالاحتلال الإسرائيلي لا يحارب فقط البشر، بل يسعى منذ عام 1948 إلى طمس الرواية والسردية الفلسطينية. ورغم بشاعة هذا العدوان، إلا أنه لن يقضي على هويتنا. فلدينا جيل فلسطيني قوي، من الأطفال والشباب، لا يمكن لهذا الاحتلال أن يهزمه مهما بلغت همجيته.
في ظل التحديات الكبيرة التي فرضها العدوان، ما الاستراتيجية التي وضعتها الوزارة لإعادة بناء القطاع الثقافي؟
نعم، لدينا أولويات واضحة وخطة استراتيجية حاضرة. وأقتبس هنا مقولة يرددها دائمًا معالي وزير الثقافة، وهي: "الإنسان الفلسطيني هو أولويتنا القصوى". فإذا خُيّرنا بين بناء مكتبة أو توفير سرير في مستشفى، فإننا نختار الإنسان الفلسطيني أولًا.
مع ذلك، نعمل في موازاة ذلك على حصر الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الثقافية وتوثيقها، سواء من مكتبات أو متاحف أو مقتنيات تراثية ومخطوطات. كما نسعى لدعم الكوادر الفنية والثقافية نفسيًا وماليًا. نحافظ أيضًا على التراث الثقافي غير المادي، ونعمل على توثيق القصص والروايات والممارسات التراثية التي قد نفقدها بسبب النزوح الداخلي والخارجي.
ونبني الآن شبكات تعاون دولية بهدف إعادة إعمار ما تم تدميره من منشآت ثقافية في غزة، وكذلك في الضفة الغربية. كما نعيد إحياء الحياة الثقافية من خلال تنظيم فعاليات وندوات بسيطة في مختلف المناطق، رغم كل الصعوبات.
شاركتم مؤخرًا في اجتماعات إقليمية وعربية بشأن حماية التراث الإنساني، ومنها الاجتماع التاسع للجنة الدولية في جامعة الدول العربية.. ما مدى أهمية هذه اللقاءات في ظل المخاطر التي تتهدد التراث الفلسطيني؟ وما أبرز التوصيات التي خرج بها الاجتماع لدعمكم؟
لقد شعرنا بحرارة العلاقات العربية والتضامن الواسع مع الشعب الفلسطيني، ولاحظنا جدية كبيرة في دعم الملف الثقافي الفلسطيني. ما ميز هذا الاجتماع أنه ركز بشكل أساسي على التراث الفلسطيني، وناقشنا فيه سبل وآليات حماية هذا التراث في ظل الهجمة الإسرائيلية الشرسة.
كما استعرضنا جهود وزارة الثقافة في رقمنة وتوثيق التراث، وأبرزنا أهمية العمل العربي المشترك لحماية هذا التراث من الضياع. وتمت مناقشة خطوات عملية من شأنها أن تساهم في صون الإرث الفلسطيني الذي يتعرض لخطر حقيقي ومستمر.
في إطار جهودكم التوثيقية، ما الدور الذي يلعبه "السجل الوطني للتراث" في حماية الموروث الفلسطيني من محاولات الطمس والتزييف؟
مشروع "السجل الوطني للتراث غير المادي" هو إنجاز وطني استراتيجي بكل ما للكلمة من معنى، وهو الآن في مراحله النهائية وسيُطلق رسميًا خلال أسابيع قليلة. هذا المشروع يتضمن أرشفة كافة عناصر التراث الفلسطيني، من فيديوهات وأفلام وسجلات سينمائية ومخطوطات قديمة.
يحظى هذا المشروع بدعم عربي قوي، ونحن نعمل على تطويره ليكون أداة فعالة في إبراز التنوع الثقافي وتعزيز الهوية الوطنية الفلسطينية. كما أنه يتماشى مع المعايير الدولية، مثل اتفاقية اليونسكو لعام 1970، واتفاقية عام 2003. ونطمح لأن يُستخدم أيضًا في دعم البحث العلمي.
نعمل حاليًا على توقيع اتفاقيات إقليمية ودولية لتوفير حماية قانونية ودبلوماسية لهذا التراث. كما واصلنا تسجيل عناصر التراث في اليونسكو والإيسيسكو، حيث نجحنا مؤخرًا في تسجيل الصابون النابلسي ضمن قائمة التراث الإنساني، وقبله التطريز والثوب الفلسطيني، وكذلك الكوفية الفلسطينية.
كيف تعاملت وزارة الثقافة الفلسطينية مع خطر اندثار التراث الثقافي، وحمايته الموروث التاريخي الذي يتعرض يوميا للنهب أو التدمير؟
هم يعملون ويجتهدون، ونحن أيضًا نعمل ونجتهد، نحن ملتزمون التزامًا مطلقًا بالدفاع عن الهوية الوطنية الفلسطينية، وليس أمامنا خيار آخر. ما تقوم به إسرائيل من محاولات لنهب التراث ونسبه لروايات مزيفة هو أمر مستمر منذ عقود. على سبيل المثال، حاولوا مؤخرًا نسب التطريز الفلسطيني إلى الثقافة الإسرائيلية، واستخدموه في شعارات الطيران.
لكن أي فلسطيني يعرف جيدًا من أين جاء هذا التطريز، وكيف صُنع، وما الطقوس المرتبطة به. الإسرائيليون يستخدمون القشور، أما نحن فنعرف العمق، الموقف الأمريكي من هذا الملف مؤسف ومخزٍ، ويعكس غطرسة تاريخية، ورغم كل ذلك، فإن الشعب الفلسطيني وقيادته مستمرون في قول "لا" لهذا الدعم الأعمى لإسرائيل.
التراث الفلسطيني متجذر في الأرض والهوية. محاولات طمسه لم تتوقف منذ عام 1948، لكننا مستمرون في حمايته. أطلقت الوزارة مشاريع واسعة بالتعاون مع مؤسسات محلية ودولية لجمع وتوثيق عنائر التراث، كما نظمنا ورشات تدريبية لطلبة المدارس لتعزيز مفهوم التراث لدى الأجيال الجديدة. أطلقنا كذلك حملات توعوية عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وأقرّينا تشريعات تحمي هذا التراث. لدينا خطة جاهزة لإعادة الإعمار فور توقف العدوان، وستشمل مشاريع ترميم وإنقاذ التراث الثقافي الفلسطيني.
كيف تقيّمون دور منظمة "اليونسكو" والمنظمات الأممية في دعم التراث الفلسطيني؟
دور اليونسكو في دعم التراث الفلسطيني جيد إلى حد ما، خصوصاً في الضفة الغربية حيث نُفذت عدة مشاريع بالشراكة مع مؤسسات محلية. أما في قطاع غزة، فبسبب استمرار العدوان والحصار، فإن المشاريع الميدانية متوقفة حالياً، ويقتصر العمل على جمع البيانات والمسوحات الإحصائية من خلال المتواجدين على الأرض.
مع ذلك، هناك تعاون قائم مع اليونسكو، ونُخطط لمشاريع مستقبلية نأمل تنفيذها بعد انتهاء الحرب. الوزارة تثمّن هذا الدور، وترى فيه نقطة ارتكاز يمكن البناء عليها لحماية التراث الفلسطيني، خاصة في ظل التهديدات المستمرة التي تطاله في مختلف أنحاء الوطن.
ما الرسالة التي توجهونها من خلال وزارة الثقافة إلى العالم بشأن ما يحدث في القدس وغزة من انتهاكات بحق التراث والإنسان الفلسطيني؟
نوجه نداءً إلى العالم الحر، إلى الأمة الإسلامية والعربية، بأن ما يحدث في غزة والقدس لا يطال الحجر فحسب، بل يطال الذاكرة والهوية، ويستهدف الوجود الثقافي الفلسطيني بأكمله. العدوان الإسرائيلي دمر الحياة بكل مكوناتها في غزة – الإنسان، الحجر، والشجر.
نناشد المجتمع الدولي إدانة هذا الاستهداف الممنهج للتراث الفلسطيني، واعتباره جريمة ثقافية وإنسانية تستوجب المساءلة. ونطالب بإدراج ما يحدث في غزة ضمن قائمة الجرائم الثقافية ضد الإنسانية، وتكثيف الدعم لجهود توثيق وحماية التراث الفلسطيني – المادي وغير المادي – باعتباره جزءًا من التراث الإنساني المشترك الذي يستحق الحماية كما تُحمى الأرواح.
كيف تنظرون إلى موقف مصر في دعم الجهود الفلسطينية للحفاظ على الهوية الثقافية والتراثية، خاصة في ظل رفض القاهرة المستمر لسياسات التهجير والتهويد، ودورها في المحافل العربية والدولية لدعم الرواية الفلسطينية؟
جمهورية مصر العربية، قيادةً وشعبًا، كانت وما زالت الحاضنة الكبرى للقضية الفلسطينية. موقفها الثابت في رفض التهجير والاستيطان والعدوان، كان حائط الصد القوى في وجه مخططات الاحتلال، كما أن دعمها المستمر للشعب الفلسطيني في المجالات الثقافية والإنسانية والطبية والغذائية، يعكس عمق العلاقة التاريخية بين الشعبين.
مصر تمثل الرئة التي يتنفس منها الفلسطينيون، وهي تلعب دورًا فاعلًا في المحافل الدولية لدعم الرواية الفلسطينية في وجه محاولات الطمس والتهويد. ونحن نثمّن هذا الموقف، ونتطلع إلى استمرار وتعزيز هذا الدعم في ظل التصعيد الخطير الذي تتعرض له هويتنا الثقافية.