في ذكرى 30 يونيو.. خط الدفاع الأول عن قضايا العرب
الأحد، 29 يونيو 2025 11:00 ص
محمود علي
الحفاظ على الدول الوطنية ورفض التدخلات الخارجية وعدم الانجرار إلى لمغامرات غير محسوبة أهم مبادئ الدولة
يُحيي المصريون الذكرى الثانية عشر لثورة 30 يونيو، التي لم تكن مجرد محطة مفصلية في التاريخ الوطني الحديث، بل لحظة إنقاذ تاريخية أسقطت مشاريع الفوضى والإرهاب التي كادت تلتهم الدولة، ليس في مصر وحدها، بل في المنطقة بأسرها، وفي هذه المناسبة، تتجدد الأسئلة حول الكيفية التي نجحت بها الدولة المصرية في إعادة التوازن لسياستها الخارجية بعد سنوات من الاضطراب، وكيف تصدت للمخططات التي استهدفت تفكيك الدول الوطنية في إطار ما عُرف بمشروع "الفوضى الخلّاقة"، والتي صيغت في غرف بعض العواصم الكبرى؟ كيف تمكنت مصر من إدارة مشهد إقليمي شديد التعقيد، وأعادت الروح إلى ملفات حيوية كانت قد طواها النسيان، لتعود اليوم فاعلًا أساسيًا في رسم خريطة الاستقرار في الشرق الأوسط؟
منذ 30 يونيو عام 2013، دخلت مصر مرحلة جديدة من تاريخها السياسي والدبلوماسي، حيث أعادت رسم ملامح سياستها الخارجية على أسس من السيادة والاستقلال الوطني، واضطلعت بدور محوري في حماية الأمن القومي العربي والإقليمي، ووقف مشاريع الفوضى والإرهاب، ليس فقط داخل حدودها، بل في مختلف أنحاء المنطقة.
إسقاط مشروع الفوضى الإخواني محليًا وإقليميًا
خروج ملايين المصريين في 30 يونيو كان نقطة تحول فارقة في تاريخ مصر والمنطقة، حيث تم إسقاط مشروع جماعة الإخوان الذي استهدف تحويل مصر إلى نقطة انطلاق لتفكيك الدولة الوطنية وإعادة رسم خريطة المنطقة وفق أيديولوجيات عابرة للحدود.
وقد أثبتت الأيام أن استمرار حكم الإخوان الإرهابى في مصر كان سيقود إلى انهيار منظومة الدولة وتصدع الإقليم بأكمله، فخلال عام حكمهم، تورطت الجماعة الإرهابية في خطاب تحريضي صريح، ظهر جليًا في دعوات الجهاد العلنية من قلب استاد القاهرة تجاه سوريا، وتحركات مشبوهة في ليبيا والأردن، وتحالفات مع أطراف إقليمية دعمت الفوضى.
وبعد سقوط الجماعة في مصر، بدأت ملامح التحول تظهر في دول الجوار، فاستفاقت تونس، واحتشد الليبيون والأردنيون واليمنيون ضد المدّ الإخواني، وبدأت العواصم العربية تدرك أن المشروع كان يستهدف إسقاط الدول لا إصلاحها، تيقّن الجميع أن بقاء الإخوان في حكم مصر كان سيحوّل المنطقة إلى فوهة بركان تحكمها الفوضى والميليشيات المسلحة، إلا أن ملايين المصريين خرجوا ليسقطوا المشروع من جذوره، ويعيدوا القاهرة إلى موقعها الطبيعي كضامن لاستقرار المنطقة لا تابعًا لقوى خارجية أو مشاريع مشبوهة.
استعادة التوازن الدولي وتوسيع العلاقات مع القوى الكبرى
اتبعت مصر سياسة خارجية متوازنة قائمة على تنويع الشراكات وعدم الارتهان لمحور بعينه، حيث عززت علاقاتها مع روسيا والصين من جهة، ومع الولايات المتحدة وأوروبا من جهة أخرى، في إطار دبلوماسية متعددة المسارات، حافظت مصر على استقلال قرارها السياسي، ورفضت الضغوط الخارجية، وسعت لبناء علاقات تقوم على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، مع التركيز على الاستثمار في شراكات تنموية واقتصادية تعزز من مكانة مصر الدولية.
رؤية الرئيس عبد الفتاح السيسي كشفها منذ توليه المسؤولية، مؤكدا على أهمية ملف السياسة الخارجية لمصر باعتباره يمثل ظهير قوي لعودة الدولة لدورها الإقليمي، حيث كانت للإدارة المصرية تحركات نشطة وذلك من خلال الاهتمام الكبير بالبعد العربي والإفريقي في المقام الأول ومن ثم البعد الدولي، مولية كل تركيزها على صياغة العلاقات المصرية على أساس متوازن مع جميع دول العالم. كما حدد الرئيس السيسي الكثير أوليات سياساته الخارجية بالتأكيد على أن الدولة لديها الكثير من المقومات التي بموجبها يجب أن تكون أكثر انفتاحا على علاقاتها الدولية.
على مدى 12 عاما، أثبتت مصر قدرتها الفائقة على إدارة الأزمات الإقليمية والدولية بحكمة واتزان، ورغم ما واجهته من تحديات جسيمة على الصعيدين الداخلي والخارجي، تمسكت القاهرة بثوابت سياستها الخارجية، رافضة الانجرار إلى أي مغامرات عسكرية غير محسوبة، ومؤكدة في كل المحافل التزامها بمبدأ "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول".
هذا الموقف المبدئي، الذي اتخذته مصر نهجًا ثابتًا، انعكس في دعوتها الدائمة إلى حلول سياسية وسلمية تحافظ على وحدة الدول ومؤسساتها الوطنية، وترفض سياسات الهيمنة أو فرض الأمر الواقع بالقوة. وقد منحها هذا النهج مصداقية متنامية، وعزز مكانتها كقوة إقليمية مسؤولة ووسيط موثوق في عدد من أكثر الملفات حساسية وتعقيدًا في المنطقة.
وقد تجلى هذا الدور بوضوح في تعاملها مع الأزمات المتلاحقة والفوضى المسلحة التي عصفت بعدد من دول الإقليم، حيث أكدت مرارًا أن الحلول العسكرية لا يمكن أن تؤدي إلى استقرار حقيقي، وأن غطرسة القوة لا تصنع أمنًا دائمًا لأي دولة، بل تُفاقم الأزمات وتزيد من معاناة الشعوب، فالأمن الحقيقي يتحقق عبر احترام سيادة الدول، والحفاظ على وحدة أراضيها، وتحقيق العدالة، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، بما يضمن استقرارًا شاملًا وسلمًا عادلًا ودائمًا في المنطقة.
القضية الفلسطينية: ثبات في المواقف ودعم لا محدود
ظلت القضية الفلسطينية مركزية في السياسة المصرية، حيث لعبت القاهرة دورًا أساسيًا في الحفاظ على التهدئة في الضفة الغربية وقطاع غزة لسنوات، وسعت دائمًا لمنع الانفجار الكامل حتى تفجرت الأوضاع في 7 أكتوبر 2023، وبدأ العدوان الإسرائيلي، لتتحرك مصر عقب ذلك بسرعة دبلوماسية وإنسانية، رافضة التهجير القسري، داعمة للشعب الفلسطيني في المحافل الدولية، ولا سيما في مجلس الأمن، وشاركت بفاعلية في إيصال المساعدات وتسهيل دخول الوفود الإنسانية والدبلوماسية عبر معبر رفح.
ومنذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، لم تدخر القاهرة جهدًا في التحرك على المستويات كافة، دبلوماسية وإنسانية وسياسية، لإيقاف نزيف الدم الفلسطيني، والدفع نحو وقف شامل لإطلاق النار، وتهيئة الأرضية اللازمة لإعادة الإعمار، ورغم تصاعد الدعوات الإسرائيلية والأمريكية لفرض حلول تُكرّس تهجير الفلسطينيين، تمسكت مصر برؤيتها الثابتة: لا إعادة إعمار بدون الفلسطينيين، ولا سلام بدون دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.
وفي هذا الإطار، كانت مصر من أول الدول التي دعت إلى مؤتمر دولي لإحلال السلام في فلسطين، بعد أيام قليلة من بدء العدوان على القطاع، ففي إطار الحلول السياسية وضعت مصر خارطة طريق من خلال مؤتمر القاهرة للسلام 2023 الذى استضافته القاهرة 21 أكتوبر الماضي، وأعلنت عن رؤيتها التي تستهدف حلًا عادلًا وشاملًا يضمن الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، من خلال إقامة دولة فلسطينية على خطوط الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، رؤية أجهضت من خلالها المخططات الغربية تنحاز لإسرائيل وتستهدف استبعاد غزة من سيناريو حل الدولتين وتخطط لاستبعاد فصائل فلسطينية معينة من المشهد وإقصاءها.
وكان من ضمن الإنجازات التي حققت خلال قمة القاهرة للسلام 2023، هي إلقاء الضوء على جرائم الاحتلال الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة من استهداف وقتل وترويع كل المدنيين المسالمين، مستعرضة خلاله الدول والمنظمات الحقوقية فرصة لاستعراض الأزمة الإنسانية التي توصف بالكارثية، والتي يتعرض لها 2.5 مليون داخل قطاع غزة، حيث تفرض إسرائيل عليهم عقاب جماعي، وحصار وتجويع، وضغوط عنيفة للتهجير القسري، في جرائم اعتبرها القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني بأنها جرائم حرب نادى كثيراً بمنع تكرارها، مما دفع الكثير من المراقبون الدوليون والمتخصصون في القانون الدولي للتأكيد على توفير الحماية الدولية، للشعب والمدنيين الأبرياء.
كما نجحت مصر في انتزاع مواقف دولية لوقف أي مخططات ساعية لتصفية القضية الفلسطينية، مستمرة في جهودها الحثيثة لإجهاض مؤامرة التهجير، وأعلنت مصر بشكل واضح أن التهجير القسري للفلسطينيين مرفوض، وأن محاولات تصفية القضية الفلسطينية مرفوضة، وأن تصدير الأزمة لمصر هو خط أحمر غير قابل للنقاش.
كما تضمنت التحركات المصرية عقد قمة عربية استثنائية بالقاهرة، كصرخة عربية موحدة في وجه محاولات تصفية القضية الفلسطينية وفرض واقع جديد على الأرض. وقد مثلت هذه القمة لحظة مفصلية في مواجهة مشاريع التهجير القسري وطمس الهوية الفلسطينية، حيث شددت القاهرة، بدعم عربي واسع، على أن أمن المنطقة يبدأ من فلسطين، وأن استمرار العدوان الإسرائيلي، وتفاقم الاستيطان في الضفة الغربية، ومحاولات تهويد القدس، تمثل تهديدًا وجوديًا للأمن القومي العربي برمته، خاصة لدول الجوار كالأردن ومصر.
حماية الأمن القومي المصري ورفض التدخل الأجنبي في ليبيا
تبنت مصر منذ بداية الأزمة الليبية موقفًا ثابتًا يعتبر أن أمن ليبيا جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري، رسمت القاهرة خطوطًا حمراء واضحة في مواجهة التهديدات، واحتضنت سلسلة من اللقاءات بين الفرقاء الليبيين لتقريب وجهات النظر ودفع المسار السياسي، كما رفضت بشكل قاطع التدخلات العسكرية الأجنبية التي تهدد وحدة ليبيا واستقرارها، وسعت لتهيئة مناخ ملائم لإجراء انتخابات وتشكيل سلطة موحدة تمثل كافة الأطراف الليبية.
ونجحت مصر في أكثر من مناسبة في لم شمل الفرقاء الليبيية، وذلك بجمع رئيسي مجلسي النواب والدولة في القاهرة من أجل حلحلة الأزمة الليبية، والتوافق حول قاعدة دستورية تمهد في القريب العاجل لانتخابات رئاسية وبرلمانية تنقل البلاد، من مرحلة الفوضى إلى الاستقرار، الأمر الذي مهد للقاءات عديدة لوضع خارطة طريق واضحة ومحددة؛ لاستكمال كل الإجراءات اللازمة لإتمام العملية الانتخابية سواء التي تتعلق بالأسس والقوانين، أو المتعلقة بالإجراءات التنفيذية، وتوحيد المؤسسات.
ووضع الليبيون الثقة في مصر ومحطاتها العديدة لتهدئة الأوضاع في ليبيا باعتبارها نقطة انطلاق للتوافق حول الكثير من الأمور العالقة الأخرى.
سوريا: ثوابت واضحة ودعم الحلول السياسية
في الملف السوري، حافظت مصر على مبادئها تجاه ضرورة حماية الدولة السورية ومؤسساتها، ورفضت أي تدخلات عسكرية أو أجندات خارجية تسعى لتفتيت سوريا، وقبل تغيير شكل النظام في سوريا، استضافت القاهرة عدداً من الاجتماعات بين القوى السياسية السورية في محاولة لبلورة حلول تنهي معاناة الشعب السوري، كما دعمت الجهود الأممية والإنسانية لحماية المدنيين، وأكدت دائمًا على وحدة الأراضي السورية كخط أحمر لا يمكن تجاوزه.
ومنذ اندلاع الأزمة السورية في عام 2011، اتخذت مصر موقفاً متوازناً يدعو إلى الحل السياسي باعتباره الطريق الوحيد لإنهاء الأزمة، استندت السياسة المصرية إلى احترام سيادة سوريا ووحدة أراضيها، ورفضت التدخلات الخارجية العسكرية التي ساهمت في تعقيد المشهد.
ونجحت القاهرة في الحفاظ على قنوات التواصل مع كافة الأطراف السورية، مؤكدة مصر مراراً على ضرورة مكافحة الإرهاب بكافة أشكاله، وهو ما ظهر في البيانات الرسمية لوزارة الخارجية المصرية، خاصةً عند التنديد بالتدخلات العسكرية الأجنبية في الشمال السوري، ورفض الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية، بما في ذلك الجولان المحتل، من جانبه، شدد وزير الخارجية الدكتور بدر عبد العاطي على أهمية دعم الجهود الرامية لاستعادة الأمن والاستقرار في سوريا، داعياً إلى عودة اللاجئين السوريين بشكل آمن وطوعي إلى وطنهم.
تنسيق مصر مع دول الخليج والمنطقة، كان له بالغ الأثر في مواجهة الجماعات الإرهابية والمتطرفة، ومواجهة مشاريع التخريب والتدخلات الإقليمية في الشأن العربي، ساهم هذا التنسيق في إحباط عدد من المخططات، سواء في اليمن أو العراق أو شمال إفريقيا، وأكدت مصر دومًا على وحدة الصف العربي وضرورة تبني موقف مشترك لمواجهة التهديدات التي تستهدف المنطقة.
استعادة الدور الإقليمي وصياغة توازن استراتيجي
الخلاصة، أن على مر السنوات التي أعقبت 30 يونيو، استعادت مصر مكانتها كلاعب إقليمي فاعل، ومركز ثقل سياسي لا غنى عنه، لقد تعاملت مع محيطها بعقلانية ورؤية استراتيجية، فلم تدخل في استقطابات حادة، ونجحت في الحفاظ على علاقات متوازنة مع المعسكرين الغربي والشرقي في عالم متغير ومتعدد الأقطاب، هذا التوازن أكسب مصر احترام المجتمع الدولي، وفتح أمامها آفاقًا أوسع من التعاون في ملفات الاقتصاد والطاقة والدفاع.
ما بعد 30 يونيو ليس فقط تاريخًا لميلاد جديد للدولة المصرية الحديثة، بل بداية مسار طويل من الإصلاح السياسي والدبلوماسي، أعاد لمصر مكانتها ومركزها الطبيعي في قلب الشرق الأوسط، فمن الدفاع عن الدولة الوطنية، إلى دعم الاستقرار، إلى محاربة الإرهاب، مرورًا بحماية الأمن القومي العربي.. جسدت السياسة الخارجية المصرية نموذجًا للاتزان والواقعية والسيادة، في وقت كانت فيه المنطقة غارقة في الفوضى والانقسامات.