ماذا يحدث في سوريا؟
السبت، 26 يوليو 2025 10:04 م
ماذا يحدث في سوريا؟
أزمة السويداء توجه أقوى ضربة للدولة الوطنية السورية الموحدة
توزع الولاءات وتعدد شبكات النفوذ والمشاريع الدولية والإقليمية أكبر خطر يهدد دمشق
النظام الجديد يواجه الانقسام الجغرافى والطائفى بالمسكنات.. ويفشل في إعادة التوحيد تحت سلطة سياسية واحدة
أكثر من ثلاثة عشر عامًا من الحرب الأهلية أعادت تشكيل سوريا بوصفها كيانًا جغرافيًا ممزقًا ومؤسساتيًا هشًا، حيث لم تعد البلاد تُدار من مركز واحد، بل تحوّلت إلى خارطة منقسمة تتقاطع فيها سلطات متنافسة، وتتنازعها مشاريع محلية وإقليمية متضادة، فعلى الأرض، تتقاسم السيطرة اليوم عدة قوى: النظام الجديد في دمشق بقيادة الرئيس أحمد الشرع، والإدارة الذاتية الكردية في الشمال الشرقي، وفصائل المعارضة في الشمال الغربي، إلى جانب حضور روسي وأمريكي وتركي وإسرائيلى كثيف، بات يُشكّل شبكة نفوذ تتجاوز قدرة الدولة على احتوائها.
ولا يعكس هذا التوزع في السيطرة فقط تحولات عسكرية، بل يكشف عن تآكل عميق في المركز السياسي، إذ باتت دمشق عاجزة فعليًا عن فرض سيادتها على كامل التراب الوطني، مما حولها من عاصمة لدولة جامعة إلى طرف سياسي ضمن صراع مركّب تتعدد فيه مستويات الفاعلين، من دول إقليمية إلى كيانات محلية.
اقتصاديًا وإنسانيًا، تُظهر المؤشرات انهيارًا شبه شامل. فقد تقلّص الناتج المحلي بأكثر من النصف منذ عام 2010، ووصلت نسبة السكان تحت خط الفقر إلى ما يتجاوز 90%، بينما تراجعت الصادرات من 18.4 مليار دولار إلى أقل من ملياري دولار بحلول 2021، وهو انحدار اقتصادي ترافق مع تمدد شبكات التهريب التي باتت تُدر ما يقارب 5.6 مليار دولار سنويًا، في ظل غياب شبه كامل لمؤسسات الضبط والتنظيم، فلم تعد الدولة قادرة على تأمين الخدمات الأساسية، حيث حلت محلها ترتيبات محلية تُدار غالبًا من قبل ميليشيات أو شبكات فساد متغلغلة في البنى المتبقية.
وعلى المستوى الاستراتيجي، تبدو سوريا اليوم ساحة مفتوحة لقوى إقليمية ودولية تتعامل مع الأزمة من منظور مصالحها الضيقة، لا من منطلق الحفاظ على وحدة البلاد، فروسيا، بعد سقوط نظام الأسد، خفّضت سقف طموحاتها مكتفية بالحفاظ على موطئ قدم في طرطوس وحميميم، بينما ركزت الولايات المتحدة على ترسيخ التوازنات القائمة في شمال شرق سوريا دون دفع جدي نحو إعادة بناء الدولة المركزية، أما تركيا، فتعاملت مع شمال غرب سوريا باعتباره عمقًا أمنيًا متصلًا بصراعاتها مع الأكراد، في حين واصلت إيران دعمها لميليشيات محلية تعزز نفوذها في البادية والمناطق الجنوبية.
وأمام هذا الواقع، لم تعد فكرة "الدولة الوطنية الموحدة" سوى تصور نظري يتآكل أمام تصاعد الهويات المناطقية والولاءات المحلية، فالخريطة السورية ما بعد الحرب لا تُظهر فقط انقسامًا جغرافيًا، بل تعكس تحللًا في البنية الوطنية ذاتها، وتراجعًا في مركزية القرار لصالح كيانات تدير شؤونها وفق أولوياتها الأمنية والاقتصادية، وكما وصف البعض هذا الواقع، فإن فرص إعادة توحيد سوريا تحت سلطة سياسية واحدة تبدو اليوم أبعد من أي وقت مضى، ما يضع البلاد أمام مفترق طرق تاريخي بين مشروع وطني متعثر، وواقع تجزيئي آخذ في الترسخ.
السويداء: غضب فوق صفيح الهوية
في 20 يوليو، كشف المرصد السوري لحقوق الإنسان، استنادًا إلى شهادات مدنية ومواد موثقة، عن ارتكاب انتهاكات جسيمة في محافظة السويداء خلال الأيام الماضية، نفّذتها قوات تابعة لوزارتي الدفاع والداخلية في الحكومة السورية، إلى جانب مجموعات مسلحة من الطائفة الدرزية والعشائر البدوية، في تصعيد دموي غير مسبوق جنوب سوريا.
وارتفع عدد الضحايا جراء أعمال العنف التي اندلعت مؤخراً إلى 1120 قتيلاً، وفق حصيلة جديدة أوردها المرصد، ووفقًا للتقرير، فقد شملت الخسائر 427 مقاتلاً و298 مدنيًا من أبناء الطائفة الدرزية، من بينهم 194 شخصًا أُعدموا ميدانيًا برصاص عناصر من وزارتي الدفاع والداخلية، وفي المقابل، قُتل 354 عنصرًا من القوات الحكومية والأمن العام، بالإضافة إلى 21 من أبناء العشائر، بينهم ثلاثة مدنيين أعدموا ميدانيًا على يد مسلحين دروز.
كما أكد المرصد أن غارات جوية إسرائيلية نُفّذت خلال التصعيد أسفرت عن مقتل 15 عنصرًا من القوات الحكومية، مضيفاً أن القوات الحكومية ارتكبت انتهاكات ممنهجة في مدينة السويداء وريفها، حيث أظهرت تسجيلات مصوّرة جثثًا متحللة ملقاة في ساحة المشفى الوطني، بينها جثة امرأة، وقد بدت عليها علامات التعفن وانتشار الحشرات، نتيجة تعذّر دفنها بسبب الاشتباكات وتعطّل الخدمات.
وكان المشفى الوطني قد خرج عن الخدمة عقب قصف عنيف بقذائف ثقيلة، مما أدى إلى توقف برادات حفظ الجثث، وتراكمها في العراء، في مشهد أثار موجة من الدعوات لإعلان السويداء منطقة منكوبة.
وتضمنت الشهادات الموثقة جريمة إحراق رجل مكبّل اليدين على كرسي، بالإضافة إلى عمليات حرق ممنهجة طالت منازل وممتلكات مدنية في المدينة ومحيطها، ووردت شهادات متطابقة عن استخدام العناصر المهاجمة لعبارات طائفية صريحة أثناء اقتحام الأحياء السكنية، وتهديدهم بـ"الذبح وسفك الدماء"، ما يعكس وجود خطاب تحريضي ممنهج فاقم مناخ الرعب في أوساط الأهالي.
في المقابل، لم تكن الانتهاكات حكرًا على القوات النظامية، إذ وثّق المرصد أيضًا ممارسات وحشية من جانب مجموعات مسلحة تنتمي إلى الطائفة الدرزية وأخرى من العشائر البدوية، شملت إعدامات ميدانية لأسرى وموقوفين، وتمثيلًا بالجثث، وقطع رؤوس لمدنيين.
وتضمّنت الأدلة المصوّرة شريطًا يُظهر رأسًا مفصولًا عن جسد أحد أبناء ريف حلب الشمالي، عُثر عليه في السويداء بعد أن سيطرت عليه مجموعات بدوية، كما وثّق تسجيل آخر لحظة إعدام مدني درزي بقطع رأسه على يد أحد مقاتلي العشائر، وفي تسجيل ثالث، ظهر عدد من الأسرى الدروز وهم يتعرضون لتهديدات مباشرة بالذبح والثأر من قبل مسلحين بدو، في مشاهد تعكس تصاعد العنف الطائفي وانهيار كل الضوابط الأخلاقية والإنسانية.
وفي جريمة مروّعة أخرى، وثّق المرصد تصفية ثلاثة شبّان من عائلة "عرنوس" داخل شقة سكنية تقع في الطابق الرابع بمنطقة الشرطة العسكرية في مدينة السويداء، وأظهر مقطع مصوّر المسلحين وهم يقتادون الضحايا تحت الإهانة إلى الشرفة، ويجبرونهم على إلقاء أنفسهم منها، قبل أن يطلقوا النار عليهم أثناء سقوطهم، وقد أثارت هذه الجريمة صدمة كبيرة في أوساط المدينة، وسط انفلات أمني غير مسبوق.
السويداء ليست وحدها: فسيفساء التمزّق السوري ل
في ظل الاحتجاجات المتصاعدة في السويداء، يتكشف المشهد السوري كمجموعة متشابكة من الكيانات المتجاورة، لا كدولة موحدة، ما يجري في الجنوب لا يبدو استثناءً، بل يكشف هشاشة التركيب الوطني بمجمله، ويعيد طرح سؤال الدولة السورية بصيغته الوجودية، فالسويداء، على رمزية حركتها، ليست وحدها في رسم ملامح هذا التمزق.
ففي الشمال الشرقي، يتبلور مشروع الإدارة الذاتية الكردية بدعم أمريكي مباشر، رغم تراجع الحضور العسكري الأمريكي مؤخراً، اتفاق مارس 2025 مع حكومة دمشق الانتقالية، منح الأكراد مساحة خاصة لحكمهم المحلي، دون أن يُفرض عليهم الانضواء الكامل تحت راية النظام، ما بدا تسوية سياسية، يُخفي استمرار التباعد الهيكلي بين هذه المناطق والدولة المركزية، واليوم لا يزال المشهد الكردي يحتفظ بمؤسساته العسكرية والمدنية، بل ويصوغ لنفسه موقعاً تفاوضياً متقدماً في خارطة ما بعد الحرب.
في المقابل، تحكم فصائل المعارضة المدعومة تركياً مناطق الشمال الغربي، وسط بيئة ميدانية ترفض عودة قوات النظام، وتعمل ضمن ترتيبات أمنية تشرف عليها أنقرة بشكل مباشر، الجيش الوطني السوري، على سبيل المثال، يستمر في ممارسة سلطته على بعض المناطق الحيوية، دون أن ينجح مشروع دمجه الكامل في الجيش الوطني الموحد الذي يُفترض أنه يمثل الدولة الجديدة، والواقع يُظهر أن هذه الفصائل باتت تُدار بمنطق الأمر الواقع، مع إدارات محلية موازية، تتعامل مع تركيا كمرجعية استراتيجية أكثر من دمشق.
أما مناطق النظام، خاصة دمشق واللاذقية وطرطوس، فهي تعاني من تدهور اقتصادي ومعيشي حاد، يتجاوز أي تماسك أمني أو رمزي تدّعيه السلطة، المظالم اليومية تتكاثر، والانقطاع المزمن للكهرباء والخدمات الأساسية يثير نقمة لم تعد محصورة في الهامش، بل تسللت إلى عمق العاصمة، رغم بقاء هذه المناطق تحت سيطرة رسمية، إلا أن شرعية الحكم فيها تتآكل تدريجياً تحت وطأة الانهيار.
وضمن هذا التوزيع الجغرافي والسياسي، باتت سوريا أشبه بفسيفساء مفككة من مناطق النفوذ المتداخلة، ما يبدو كدولة واحدة هو في الحقيقة خريطة لسلطات محلية متنافسة، تتحرك وفق أجندات إقليمية ودولية متباينة، فالرموز الوطنية، مثل العلم السوري، لم تعد كافية لخلق شعور جامع بالانتماء، من السويداء إلى الحسكة، تتصاعد رموز بديلة تعبّر عن هويات فرعية تتحدى الصيغة المركزية القديمة.
إن ما تعيشه سوريا ليس مجرد انقسام سياسي، بل تحول عميق في تعريفها كدولة، ولم تعد الحدود وحدها كافية للقول بوجودها الموحد، ولم يعد ممكناً تجاهل واقع التعدد الإداري والعسكري والرمزي، وفسيفساء التمزق السوري اليوم لم تعد قابلة للإخفاء تحت شعارات السيادة أو المصالحة، بل تفرض نفسها كحقيقة قيد التشكل، وربما، كمسار طويل الأمد يعيد رسم مفهوم الدولة في هذا البلد المنكوب.
دور النظام السوري.. إدارة الأزمات أم ترحيلها؟
أظهرت الأزمة الأخيرة في السويداء حدود أدوات النظام السوري المستحدث، وطرحت أسئلة جوهرية حول منهجيته في التعامل مع التحديات، بدت السلطة في حالة ارتجال مستمرة، تُراكم ردود الأفعال اللحظية عوضًا عن صياغة رؤية استراتيجية متماسكة، فمن التوسط السريع في هدنة مع شيوخ الطائفة، مرورًا بإطلاق سراح معتقلين لتهدئة الشارع، وصولًا إلى توجيه نداءات للتهدئة ثم نشر قوات في المدينة، قبل أن تعلن لاحقًا انسحابها الكامل من المحافظة كما جاء على لسان الرئيس أحمد الشرع نفسه، كل ذلك يُشير إلى غياب مقاربة مستدامة لإدارة الصراع.
التبريرات الرسمية التي ساقها الشرع، والتي تمثلت في الاختيار بين "حرب مفتوحة مع إسرائيل" أو "ترك المجال للعقلاء"، تسلط الضوء على طبيعة المفاضلات الصعبة التي تواجهها السلطة، والانسحاب، في هذا السياق، لم يكن مجرد قرار تكتيكي، بل خيار اضطراري يُفضّل الانكفاء على التصعيد، في محاولة لحماية ما تبقى من تماسك السردية الوطنية. في المقابل، تُظهر هذه القراءة أن النظام لا يدير الأزمات، بل يحاول تفكيكها إلى لحظات معزولة يتجاوزها كل مرة بأقل تكلفة ممكنة.
ولم يكن سلوك الأجهزة الأمنية بعيدًا عن هذا النمط، ففي مشاهد متكررة، صدرت تعليمات مشروطة للجيش بعدم فتح النار إلا للضرورة القصوى، وتشكّلت لجان هدنة بالاتفاق مع وجهاء محليين، سرعان ما فقدت فعاليتها مع تجدّد التوترات، وهذه المعالجات الظرفية أوحت بأن المقاربة لا تستهدف معالجة الجذور السياسية والاجتماعية، بل احتواء الاضطراب إلى حين، عبر تكتيكات قصيرة الأمد.
ولعل أكثر ما يثير التساؤلات هو أن النظام، الذي طالما أعلن حرصه على "وحدة سوريا وسلامة مواطنيها"، لم يتوانَ عن ترك أجزاء من البلاد تُدار عمليًا من قبل زعامات محلية أو تدخلات خارجية، طالما خفّ التوتر، وهو ما يُعيد طرح السؤال المؤجل: هل فقدت السلطة قدرتها على الفعل، أم أنها فقدت شرعيتها؟ في السويداء، كانت الوقائع الميدانية حاسمة؛ إذ وثقت تقارير صحفية دولية، قيام القوات الحكومية بإضرام النار في منازل خاصة ومصادرة ممتلكات، في سلوك صنّفته أوساط درزية كـ"حرب إبادة"، وفي موازاة ذلك، قدم التدخل الإسرائيلي بحجة حماية الدروز رسالة مزدوجة: تراجع الدولة عن مسؤولياتها، مقابل ملء الفراغ من أطراف خارجية.
هذا كله يكشف أن النظام السوري يتعامل مع الأزمات بمنطق التخفيف اللحظي والتصريف المرحلي، لا بمنطق الحل الجذري، إنه يتجنب الانفجار لا عبر الإصلاح، بل عبر الترحيل المستمر للأزمات، أو تسكينها مؤقتًا عبر وساطات دولية أو اتفاقات أمنية برعاية روسية وأمريكية. وبذلك، يظهر الرئيس أحمد الشرع كسياسي تكتيكي أكثر منه قائدًا لمشروع وطني، الأمر الذي يُعمّق الشكوك حول مستقبل الدولة السورية، طالما أنها تُدار من دون مشروع جامع، وبعقلية تستثمر في الوقت بدلًا من البُنى.
وبالتالي فإن ما يتشكل في سوريا اليوم ليس دولة مركزية تُعيد بناء نفسها، بل منظومة ترحيل مستمر للأزمات، تُدار لحظة بلحظة، دون أي ضمان لبلوغ الاستقرار الفعلي.
المجتمع الدولي: قبول بالانقسام غير المعلن؟
يوحي سلوك القوى الدولية بأن فكرة تقسيم سوريا أصبحت أمرًا واقعًا غير معلن، تتقبله العواصم الكبرى ضمنيًا من دون تبنٍ صريح، فقد تراجعت المبادرات الدولية الجادة لإعادة توحيد البلاد، لتحل محلها ترتيبات نفوذ وتحالفات تخدم مصالح الأطراف الإقليمية والدولية، وليس وحدة سوريا، وبدلًا من الدفع نحو حل سياسي شامل، ركزت روسيا على ترسيخ وجودها في مواقع استراتيجية مثل اللاذقية ومطار القامشلي، وهو ما يعكس أولوية السيطرة الجيوسياسية على السعي للتسوية.
في المقابل، جاء الموقف الغربي محكومًا بالحذر، إذ ميّز بعض المسؤولين الأمريكيين بين القطيعة الكاملة مع النظام، وبين الانخراط المشروط معه في ملفات محددة، وتجنبت الولايات المتحدة وأوروبا الانخراط العميق، مفضلة استراتيجية "الإدارة المرحلية" عبر دعم قوى محلية كقوات سوريا الديمقراطية، ومراقبة الحدود التركية، دون تبنٍّ لخريطة حل شامل.
أما القوى الإقليمية، فتفاوتت مقارباتها وفقًا لحسابات الكلفة والمصالح. فبعض الدول العربية والأوروبية التي استنزفتها الحرب، باتت ترى أن دعم إدارة سورية جديدة أقل كلفة من استمرار الصراع أو الانخراط في مشاريع إعادة الإعمار طويلة الأمد، وفي هذا السياق، عبّر مسؤولون في تركيا عن تمسكهم بوحدة الأراضي السورية، بينما روجت أوساط إسرائيلية لفكرة نموذج لا مركزي يضمن حماية الأقليات، خصوصًا الطائفة الدرزية، أما واشنطن، ففتحت الباب لإضفاء طابع رسمي على الوضع القائم، بشرط تحقيق النظام لجملة من الالتزامات مثل التخلص من الأسلحة الكيماوية، وطرد المقاتلين الأجانب، والاستمرار في محاربة داعش.
وهكذا تبدو المقاربة الدولية أقرب إلى إدارة الأمر الواقع من السعي إلى تغييره. فكل قوة دولية تعمل على تأمين مصالحها ضمن الجغرافيا السورية، سواء عبر التحالف مع وكلاء محليين، أو عبر تكريس قواعد نفوذ، ومع غياب الإرادة الدولية الموحدة لإعادة بناء دولة مركزية، يترسخ ما يمكن وصفه بـ"الواقع الهجين" في سوريا: دولة قائمة اسميًا، ولكن بسلطات محلية تتصرف عمليًا ككيانات شبه مستقلة، تُرسم حدود نفوذها بصمت دولي لا يخلو من القبول.
فكرة الدولة في سوريا: بين تفكك النموذج المركزي وصعود الهويات المحلية
في قلب التحولات الجارية في سوريا، يطفو على السطح سؤال مصيري: هل تشهد البلاد انهيارًا كاملاً لنموذج الدولة المركزية الذي حكمها لعقود، أم أنها تمرّ بمرحلة إعادة تشكّل تنذر ببروز نظام سياسي جديد؟ الإجابة لا تبدو محسومة، لكن المؤشرات المتراكمة ترجّح أن النموذج الأحادي للدولة السورية يواجه تآكلاً عميقًا، في ظل تمدد نزعات الحكم الذاتي والهويات الفرعية، سواء بصيغ معلنة كما لدى الأكراد، أو ضمنية كما في الجنوب الدرزي، أو حتى في مناطق الغالبية العربية التي باتت تميل إلى التعاون المحلي بعيدًا عن مركزية القرار.
في هذا السياق، تعكس تقييمات غربية ملامح نظام حكم قيد التشكل، يرتكز على تحالف بين منشقين من المعارضة القديمة وبعض شبكات النفوذ العسكرية، مع التوجه نحو تشكيل جيش وطني من مكونات متفرقة، غير أن هذا التصور لا ينبع من اندماج عضوي أو إرادة وطنية جامعة، بل هو نتاج وقائع ميدانية فرضت نفسها بعدما سيطرت كل ميليشيا على رقعة جغرافية معينة وبنت مؤسساتها الخاصة فيها، وتزداد القناعة بين دوائر التحليل بأن حلم «سوريا الواحدة» لم يعد كما كان، وأن الدولة الجامعة باتت خيارًا مؤجلًا بفعل التشظي القائم.
المفارقة الأبرز تتمثل في صعود سياسات الهوية على حساب الوطنية المركزية فالإدارة الذاتية الكردية أبرمت اتفاقًا مع السلطة الجديدة يكرّس مكاسب ثقافية وإدارية للأكراد، فيما تعززت الرموز الدرزية في مظاهرات السويداء، وسط شعارات تعكس خصوصية الهوية الدينية والثقافية للمجتمع المحلي، حتى في معاقل الغالبية السنية التي ظلت تحت سيطرة النظام، بدأت تبرز نبرة خطاب أكثر ارتباطًا بالبيئة المحلية، كما في درعا وحمص، ما يشير إلى تراجع الإيمان بالدولة المركزية بصيغتها التقليدية.
بينما دمشق، مركز الدولة الرمزي والتاريخي، فتبدو في هذه التصورات مرشحة لتكون مجرد عاصمة في دولة لا مركزية، أو ضمن منطقة نفوذ دولية متعددة الأقطاب، أو حتى في حالة انفصال زاحف بلا إعلان، ويبقى السيناريو الأقل احتمالًا، لكنه الأكثر جذرية، أن تخرج من الجنوب لحظة وطنية جديدة، تؤدي إلى موجة احتجاجات جامعة تعيد صياغة الانتماء السوري وتمنح البلاد فرصة لإعادة بناء وحدتها من رحم الغضب المحلي.
بين تفكك الأمر الواقع واحتمالات الصياغة الجديدة
تتأرجح سوريا اليوم بين أطياف متعددة من المصير، لا تُحسم عناوينها لا بالحسم العسكري ولا بالتفاهمات الدولية، بل بإيقاع يومي يُعيد تعريف ما تعنيه «الدولة» في السياق السوري المعاصر، ومن السويداء إلى القامشلي، ومن إدلب إلى درعا، تتبلور أربعة سيناريوهات رئيسية، تختلف في طبيعتها لكنها تلتقي في كونها تعبيرًا عن أزمة بنيوية تتجاوز النظام والمعارضة معًا:
1. وحدة شكلية في إطار نظامي هش:
يظل اسم "الجمهورية العربية السورية" حاضرًا في الوثائق الرسمية والمحافل الدولية، إلا أن الواقع على الأرض يشهد تشظيًا إداريًا وولاءات محلية متباينة، وفي هذا السيناريو، تُحافظ السلطة المركزية على الحد الأدنى من الرمزية السيادية، بينما تدير القوى المحلية – الدينية أو العشائرية أو العسكرية – مناطق نفوذها بعلاقات مستقلة مع الخارج، ما يحوّل الدولة إلى مجرد قشرة مؤسساتية لا تتعدى حدود اللافتات والأختام الرسمية.
2. تقاسم أمر واقع دون إعلان تقسيم:
في ظل العجز عن فرض سلطة شاملة أو صياغة تسوية سياسية حقيقية، يُعاد ترتيب الخارطة السورية داخليًا عبر تفاهمات غير مكتوبة، فمناطق كالساحل والجزيرة والجنوب تُدار بنموذج «إدارة ذاتية» فعليًا، وإن كانت تحتفظ بالشعارات الوطنية مثل العلم أو الجواز السوري، وهنا، يكون الانفصال سياسيًا وإداريًا لكن دون اعتراف قانوني، ما يجعل البلاد تعيش حالة "تقسيم ناعم" تُكرّسها السنوات والأعراف اليومية.
3. فيدرالية ترعاها قوى دولية:
مع ازدياد التشابك الإقليمي والدولي في الملف السوري، قد تدفع بعض القوى - من روسيا إلى الولايات المتحدة - نحو حل توافقي يقوم على نموذج فيدرالي أو كونفدرالي، يُمنح فيه لكل إقليم هامش واسع من الاستقلال، مع الحفاظ على بنية موحدة للدولة في الملفات السيادية الكبرى، وهذا السيناريو يقتضي تفاهمات إقليمية معقدة، وتعديلات دستورية جذرية، ما يجعله ممكنًا نظريًا، لكن مؤجلاً عمليًا إلى حين نضوج شروطه الجيوسياسية.
4. لحظة وطنية تعيد صياغة الانتماء:
في الاتجاه المعاكس لسيناريوهات التشظي، هناك احتمال أن تُعيد احتجاجات مثل تلك التي تشهدها السويداء إحياء حس وطني جامع، يتجاوز الطوائف والمناطق، وقد تشكّل هذه الاحتجاجات لحظة تأسيسية جديدة، تُطرح فيها فكرة الدولة على أسس مدنية وديمقراطية ومواطنة شاملة، لكن نجاح هذا الخيار يبقى مرهونًا بتوافر كتلة وطنية حرجة، وقبول إقليمي ودولي لمعادلة جديدة في سوريا.
وفي المجمل، لا تُواجه سوريا اليوم مجرد تحديات أمنية أو اقتصادية، بل اختبارًا وجوديًا لفكرة الدولة نفسها، التحولات الديمغرافية والاصطفافات الإقليمية والأجندات المتضاربة تُضعف من فرص العودة إلى النموذج المركزي التقليدي، وتُبقي الباب مفتوحًا أمام خرائط مستقبلية متعددة، لم تُرسم حدودها بعد.