المعاملة بالمثل.. والأمن مسئوليتنا
لن نحمي من لا يحمينا.. ولا تهاون مع التقاعس عن توفير الحماية لبعثات مصر في الخارج
السبت، 06 سبتمبر 2025 09:49 م
لم يكن قرار السلطات المصرية بإزالة الحواجز الأمنية التي كانت مغلقة لسنوات أمام حركة السير من أمام مبنى السفارة البريطانية في القاهرة إجراءً عابرًا أو وليد لحظة غضب، بل هو رسالة سياسية ودبلوماسية مدروسة، تؤكد أن حماية البعثات الدبلوماسية داخل الأراضي المصرية ليست التزامًا أحاديّ الجانب، وإنما مسؤولية متبادلة ترتبط بمدى التزام الدول الأخرى بحماية البعثات المصرية على أراضيها.
فمصر لم تعد تقبل أن تُستباح سيادتها أو أن تُستهدف سفاراتها بينما تظل ملتزمة بتوفير أقصى درجات الحماية لسفارات دول تتقاعس عن أداء واجبها تجاه البعثات المصرية، وبذلك تكون القاهرة قد فعّلت بوضوح مبدأ "المعاملة بالمثل"، وهو المبدأ الراسخ في العلاقات الدولية الذي يضمن التوازن ويحول دون التمييز في التعامل بين الدول.
لقد جاءت هذه الخطوة المصرية بعد سلسلة من الحوادث المرفوضة التي تعرّضت لها السفارات المصرية في بعض العواصم الغربية، ففي لندن تعرّض مبنى السفارة لمحاولة اعتداء من قبل متظاهرين رفعوا شعارات مرتبطة بالحرب على غزة، وانتهى الأمر باعتقال عدد من الشباب المصريين الذين هرعوا للدفاع عن سفارتهم، قبل أن يتم الإفراج عنهم بعد تدخل مباشر من القاهرة.
ويوم الثلاثاء 26 أغسطس الماضى، أجرى وزير الخارجية والهجرة اتصالاً هاتفياً مع "جوناثان باول" مستشار الأمن القومي البريطاني، أكد خلاله "عبد العاطى" للمسئول البريطاني أن وزارة الخارجية تتابع باهتمام بالغ تطورات القبض على المواطن المصرى أحمد عبد القادر فى لندن مساء 25 أغسطس، وطلب سرعة التعرف على ملابسات القبض عليه، والاسباب التى أدت لذلك.
وفي لاهاي، تكررت المشاهد بشكل أكثر خطورة، إذ حاولت مجموعات اقتحام مبنى السفارة المصرية، ما اعتبرته القاهرة تجاوزًا غير مقبول يستهدف هيبة الدولة المصرية، وهذه الاعتداءات لم تكن مجرد أعمال احتجاج عفوية، بل تحركات منظمة من جماعات إرهابية تستغل الغضب الشعبي تجاه المأساة الإنسانية في غزة لتوجيهه بشكل مشبوه ضد مصر، وكأنها هي المسؤولة عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي.
في مواجهة ذلك، لم يكن أمام القاهرة إلا أن ترفع الصوت عاليًا "حماية السفارات التزام قانوني ودولي، وأي تقصير في هذا الواجب سيقابله رد مماثل".
وسبق أن أتهم الدكتور بدر عبد العاطي، وزير الخارجية والهجرة وشئون المصريين في الخارج، دولاً بـ"التقاعس عن توفير الحماية للبعثات الدبلوماسية المصرية"، معلناً في حوار سابق مع قناة dmc تطبيق مبدأ "المعاملة بالمثل" مع سفاراتها في القاهرة، وتبليغهم "رسائل احتجاج شديدة اللهجة"، وقال عبد العاطى إنه تم "إعطاء تعليمات لكل السفارات بعدم التهاون بمن يمس السفارات بعدّها جزءاً لا يتجزأ من السيادة المصرية، ومحاسبة أي متجاوز ضدها، وأنه تم القبض على كل من هاجم السفارات المصرية ببعض الدول ويتم التحقيق معهم من جانب سلطات هذه الدول".
ويوم الأثنين 18 أغسطس الماضى، تلقى عبد العاطي، اتصالاً هاتفياً من "كاسبر فيلدكامب" وزير خارجية هولندا، شدد خلاله على أهمية توفير الحماية الأمنية للبعثة الدبلوماسية المصرية فى هولندا، مشيراً إلى مسئولية الجانب الهولندي بموجب القانون الدولى بحمايتها من أيه تجاوزات، منوهاً بالاستياء البالغ من حادث الاعتداء علي مبني السفارة المصرية، وبما يؤدى إلى اتخاذ إجراءات مماثلة من جانبنا. ومسئولية الجانب الهولندي عن عدم تكرار هذه الأحداث المؤسفة.
وأعرب الوزير الهولندي عن بالغ الأسف إزاء الحادث الفردي الذي وقع أمام مقر السفارة المصرية في لاهاى، مشيراً الي انه تحدث في الأمر مع السلطات الامنية المعنية واعتزامهم تكثيف الإجراءات الأمنية على السفارة المصرية اتساقاً مع المسئوليات التي تقع على عاتق الدولة المضيفة بموجب الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، مشدداً على العلاقات الوثيقة التي تربط بلاده بمصر والتي تستند على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة والعمل على الارتقاء بالعلاقات الثنائية فى المجالات المختلفة خاصة فى المجال الاقتصادى والتجارى والاستثماري، وتعزيز التعاون في القطاعات المختلفة بما يصب في مصلحة الشعبين.
وهكذا جاء قرار خفض مستوى الحماية الأمنية حول بعض السفارات الأجنبية في القاهرة، وفي مقدمتها السفارة البريطانية، ليكون رسالة عملية لا تحتمل التأويل، لتقول القاهرة بوضوح: "ما نتعرض له في الخارج ستواجهونه في الداخل، ليس رغبة في التصعيد، وإنما لتأكيد مبدأ المساواة والالتزام المتبادل".
لم يكن قرار القاهرة مجرد رسالة سياسية، بل استند إلى قواعد قانونية راسخة في العلاقات الدولية، فالقانون الدولي يكرّس منذ عقود مبدأ "المعاملة بالمثل" باعتباره أداة مشروعة تضمن التوازن في العلاقات الدبلوماسية، وهذا المبدأ يعني ببساطة أن ما تمنحه الدولة من امتيازات أو تسهيلات أو حماية للبعثات الأجنبية على أراضيها، يجب أن يُردّ إليها بالمثل عند وجود بعثاتها في الخارج، فإذا قصّرت دولة ما في أداء التزاماتها، فلن يكون منطقيًا أو عادلًا أن تستمر الدولة الأخرى في الالتزام الكامل تجاهها، ومن هنا، يصبح ما قامت به مصر ممارسة مشروعة لحقها السيادي، بل وسلوكًا وقائيًا لضمان احترام بعثاتها مستقبلًا.
وفي هذا السياق، تكتسب اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961 أهمية خاصة، كونها تُعد المرجع الأهم في تنظيم العلاقات بين الدول، وتنص بوضوح في مادتها الثانية والعشرين على أن "مباني البعثة مصونة، ولا يجوز لممثلي الدولة المضيفة دخولها إلا بموافقة رئيس البعثة"، كما تُلزم الدولة المضيفة باتخاذ جميع التدابير اللازمة لحماية السفارة من أي اقتحام أو ضرر أو مساس بكرامتها.
هذا النص القانوني لا يحتمل تأويلات، ولا يترك مجالًا للتقصير أو التهاون، فإذا كانت بعض الدول الأوروبية قد سمحت – بصمتها أو بضعف إجراءاتها – باعتداءات على السفارات المصرية، فهي بذلك تتحمل مسؤولية دولية كاملة عن هذا الإخفاق.
خبراء القانون الدولي أكدوا أن الاعتداءات التي تعرّضت لها البعثات المصرية تُعد خرقًا مباشرًا لالتزامات تلك الدول، وأن من حق القاهرة أن تلجأ إلى المعاملة بالمثل لحماية مصالحها، وما جرى في لندن ولاهاي يمثّل انتهاكًا صريحًا للاتفاقية، ويشكّل سابقة خطيرة إذا لم يتم التعامل معها بحزم، ويعد لجوء مصر إلى المعاملة بالمثل ليس عملًا عدائيًا، وإنما هو تذكير عملي بأن الالتزامات الدبلوماسية ليست اختيارية.
ومن المهم التذكير بأن مبدأ المعاملة بالمثل ليس اختراعًا مصريًا، بل ممارسة دولية متعارف عليها، فعلى مدار العقود الماضية، لجأت إليه دول كبرى لحماية مصالحها، فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، استخدمته مرارًا مع روسيا ودول أخرى، حيث قامت بتقليص عدد الدبلوماسيين أو فرض قيود على بعثات أجنبية ردًا على إجراءات مماثلة، وإذا كانت الدول الكبرى لا تتردد في تطبيق هذا المبدأ، فمن باب أولى أن تتمسّك به مصر دفاعًا عن سيادتها وكرامة بعثاتها.
إن تجاهل بعض الحكومات الغربية لمسؤوليتها تجاه السفارات المصرية، في وقت ترفع فيه شعار حماية الدبلوماسية وحرية التعبير، يكشف ازدواجية في المعايير، فمن غير المقبول أن تُشدد تلك الحكومات إجراءات الحماية عندما يتعلق الأمر بسفارات دول أخرى، بينما تتهاون عندما يكون المستهدف بعثة مصرية، ولذلك، فإن قرار القاهرة لم يكن خروجًا عن الأعراف، بل تصحيحًا لمعادلة مختلة، ورسالة واضحة بأن "المساواة هي القاعدة، وأي إخلال بها سيقابل بخطوة مماثلة".
ما إن أعلنت القاهرة قرارها بتقليص مستوى الحماية الأمنية حول بعض السفارات الأجنبية في العاصمة، حتى بدأ صدى الخطوة يتردّد في الأوساط الدبلوماسية الغربية. فالعواصم المعنية أدركت أن مصر، بما لها من ثقل سياسي ومكانة استراتيجية، لا تتخذ مثل هذه الإجراءات إلا عندما تصل الأمور إلى حد لا يُحتمل، لذلك، جاءت ردود الفعل سريعة وحذرة في آن واحد، فقد سارعت السفارة البريطانية في القاهرة إلى إصدار بيانات مقتضبة تؤكد أنها "تقدّر الترتيبات الأمنية المصرية"، وفي المقابل، بدأت وزارات الخارجية الأوروبية تحرّك قنواتها الدبلوماسية لاحتواء الموقف، إدراكًا منها أن استمرار تجاهل الاعتداءات على البعثات المصرية سيؤدي إلى أضرار أكبر في العلاقات مع القاهرة.
وقد كشفت مصادر دبلوماسية أن وزير الخارجية الدكتور بدر عبد العاطى، أجرى اتصالات مباشرة مع نظرائه في بريطانيا وهولندا ودول أخرى، لوضع النقاط على الحروف في رسالة واضحة بأن حماية بعثاتنا التزام قانوني غير قابل للمساومة، وأي تقصير لن يمر دون رد.
هذه الرسالة الحازمة كان لها أثر بالغ، إذ سرعان ما أعلنت لندن تعزيز الإجراءات الأمنية حول السفارة المصرية ومقر إقامة السفير، في خطوة فسّرها مراقبون على أنها اعتراف غير مباشر بالتقصير السابق، كذلك، تحرّكت السلطات الهولندية لتشديد الرقابة حول مبنى السفارة المصرية في لاهاي بعد تعرضها لمحاولات اقتحام متكررة.
اللافت في كل ذلك أن الرأي العام المصري تفاعل إيجابيًا مع الخطوة، معتبرًا أنها تعبير عن كرامة الدولة واستقلال قرارها، فقد امتلأت منصات التواصل الاجتماعي بتعليقات مرحّبة بالقرار، حيث رأى كثيرون أن القاهرة كانت لسنوات أكثر صبرًا من اللازم في مواجهة الاستفزازات والاعتداءات على بعثاتها، وأن الوقت قد حان لتذكير العالم أن مصر لا تقبل الاستهانة. وهذا التفاعل الشعبي عزّز من قوة القرار، وأضفى عليه بعدًا داخليًا مهمًا، إذ بدا وكأنه استجابة لمشاعر وطنية عامة، لا مجرد إجراء بيروقراطي.
وعلى المستوى الدولي الأوسع، فهمت القوى الكبرى الرسالة المصرية على أنها جزء من سياستها المستقلة، التي ترفض الانخراط في لعبة المحاور لكنها في الوقت ذاته لا تتهاون في الدفاع عن مصالحها.
وهذا ما يفسّر أن الأزمة لم تتطور إلى مواجهة مفتوحة، بل انتهت سريعًا إلى مراجعة أمنية في العواصم الغربية لصالح تأمين السفارات المصرية، وهو ما يؤكد أن القاهرة نجحت في فرض احترامها عبر خطوة محسوبة بدقة.
من خلال هذه الخطوة الواضحة، أثبتت مصر أن احترام البعثات الدبلوماسية وحمايتها ليس تفضّلًا ولا منحة، بل التزام متبادل لا يجوز الإخلال به، فالمعاملة بالمثل، كما طبقتها القاهرة، لم تكن أداة للانتقام أو التصعيد غير المحسوب، وإنما وسيلة لفرض القواعد الدبلوماسية على أرض الواقع. وبذلك، نجحت مصر في إعادة التوازن إلى علاقاتها مع بعض العواصم التي كانت تتهاون في أداء التزاماتها، وأجبرت الجميع على إدراك أن استهداف بعثاتها لن يمر بلا ثمن.
الأبعاد المستقبلية لهذه الخطوة تتجاوز مجرد الإجراءات الأمنية. فهي رسالة بأن مصر في هذه المرحلة الدقيقة من الإقليم، وفي ظل تصاعد أزمات المنطقة، لن تقبل التعامل معها كدولة هامشية يمكن تجاوز حقوقها. بل على العكس، هي ترسّخ مكانتها كقوة إقليمية تمتلك أدوات الضغط الناعمة والخشنة على حد سواء. وهذا ما يجعل القرار المصري جزءًا من سياسة أوسع تسعى إلى تعزيز الاستقلالية في القرار الخارجي، وموازنة العلاقات مع القوى الدولية على أساس الندية والاحترام المتبادل.
كما أن هذه التجربة تضع سوابق مهمة للدول الأخرى: فالقاهرة لم تكتفِ بالشكوى من الاعتداءات أو إصدار بيانات إدانة، بل انتقلت إلى الفعل العملي عبر تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل، وهو ما أعاد الاعتبار للقانون الدولي نفسه. فبدون هذه الآلية، كان يمكن أن تتحول الاتفاقيات إلى مجرد نصوص نظرية لا تجد من يحترمها. لكن مصر بقرارها جعلت الالتزام بالقواعد الدولية قضية ملموسة، لها ثمن وتبعات، الأمر الذي سيجعل العواصم الأجنبية أكثر حرصًا مستقبلًا على توفير الحماية لسفاراتها خشية التعرض لرد مماثل.
وفي الوقت ذاته، فإن الخطوة المصرية لا تعني إغلاق الباب أمام التعاون أو الحوار، بل على العكس، فهي تؤسس لعلاقات أكثر صحة واستقرارًا، قائمة على التكافؤ لا على التبعية أو التهاون، فإذا كان احترام مصر وسيادتها واضحًا في أذهان شركائها الدوليين، فإن ذلك سيخلق بيئة أكثر إيجابية للتعاون في ملفات إقليمية شائكة مثل غزة وليبيا والبحر المتوسط. وبالتالي، يصبح القرار المصري استثمارًا طويل المدى في تعزيز هيبة الدولة وترسيخ صورتها كفاعل لا يقبل التهميش أو الاستهداف.