دار الإفتاء توضح حكم التهرب من سداد الضرائب الحكومية بحجة أن تقديراتها غير عادلة
الأربعاء، 17 سبتمبر 2025 02:23 م
منال القاضي
أوضحت دار الافتاء خلال ردها على سائل يقول ، ما الحكم الشرعي لتهرب الخاضع للضريبة من سداد ما فرضته عليه مصلحة الضرائب الحكومية، بحجة أن تقديراتها غير عادلة وظالمة؟
الجواب:
لا يجوز التهرب من الضرائب التي يفرضها ولي الأمر (مصلحة الضرائب الحكومية)، ويجب على المرء تحري الصدق في كل أحواله وتجنب الكذب والزور والخداع، والالتزام بقوانين الدولة ولوائحها التي تنظم شؤون المجتمع ومصالحه وتهدف إلى تحقيق مصالح المواطنين في الجملة. ويقع على عاتق المسؤولين عن تقديرها وجبايتها وتوزيعها واجبًا شرعيًّا يتمثل في سلوك مسالك العدل والرفق، ومراعاة المصلحة، ولا يجوز التهرب من الضرائب بحال من الأحوال، وإذا رأى أن تقديراتها غير عادلة فعليه أن يسلك المسارات القانونية المتاحة لتصحيح التقديرات وسداد ما عليه من التزامات تجاه الدولة، لا الإتيان بأفعال تنطوي في ذاتها على محرمات شرعية صريحة، وجرائم قانونية واضحة.
الحقوق المالية في الإسلام سوى الزكاة
من المقرر شرعًا أن في المال حقوقًا غير الزكاة، تُعَدّ التزامات مالية على المسلم؛ فقد أخرج الإمام الترمذي عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، قالت: سُئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الزكاة؟ فقال: «إِنَّ فِي المَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ» ثم تلا: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177].
فالآية قد عُطِفَ فيها إيتاء الزكاة على إيتاء المال مما يقتضِي المُغايرة بين المتعاطفين، مما يدل على وجود حقوق مالية أخرى واجبة سوى الزكاة لتصح المُغايرة، مع اشتراكهما في كونهما من الحقوق، لتوقف التقوى الواجبة شرعًا على كلٍّ منهما، كما قرره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" (5/ 216، ط. دار إحياء التراث العربي).
الرأي الشرعي في الضرائب
تُعدُّ الضرائب من أهم هذه الالتزامات المالية، وهي: ما يُفرض على المِلْك والعَمَل والدخْل لصالح الدولة، وهي تختلف باختلاف القوانين والأحوال. ينظر: "المعجم الوسيط" (1/ 537، ط. دار الدعوة)، و"تاج العروس" للزبيدي (3/ 249، ط. دار الهداية)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 550، ط. دار صادر)، وذلك لتقوم الدولة بواجبها في تغطية النفقات العامة والحاجات اللازمة التي لا مورد لها إلا تلك الضرائب.
ومن مزايا الشريعة الغراء أن المصالح التي لا تختلف باختلاف الأزمان والبلدان تنصُّ على الحكم فيها نصًّا قاطعًا لا مجالَ معه للنظر والاجتهاد، أما المصالح التي تختلف باختلافهما فتَكِلُ الحكمَ فيها إلى أربابِ النظر والاجتهاد في إطار قواعدها العامة.
ويتجلى ذلك في الضرائب التي يفرضها ولي الأمر على الأغنياءِ أو على الدخول والمرتبات والمبيعات ونحوها؛ فهي قابلةٌ للإبقاء تارةً وللإلغاء أو التعديل تارةً أخرى على حسب ما تستلزمه مصلحة الأمة.
وكذلك الضرائب التي تفرضها الدولة في الجملة على الدخول والمرتبات والمبيعات ونحوها.
وكان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب أوَّلَ مَن اجتهد في فرْض أموال تُؤْخَذ من الناس من غير زكاة أموالهم لتغطية نفقات بيت المال المتزايدة مع اتساع الدولة؛ كالخراج الذي هو ضريبة، ويطلق الخراج على الجزية وغيرها مما يفرض دفعه سواء على الرؤوس أو الأراضي. ينظر: "لسان العرب" لابن منظور (2/ 252).
وقد أقرَّ جماعة من فقهاء المذاهبِ المتبوعة الضرائب، وإن سماها البعض بغير هذا الاسم، كالحنفية، حيث سموها بـ "النوائب"، جمع نائبة، وهي اسم لما ينوب الفرد من جهة السلطان، كما في "رد المحتار" للإمام ابن عابدين (5/ 330، ط. دار الفكر)، وقد أقرها الإمام الشاطبي مِن المالكية في "الاعتصام" (2/ 619، ط. دار ابن عفان)، والإمام الغزالي من الشافعية في "المستصفى" (ص: 177، ط. دار الكتب العلمية).
حكم التهرب من سداد الضرائب الحكومية بحجة أن تقديراتها غير عادلة
وفقًا لنُظم الحكم الحديثة، فإن ولي الأمر هو مجموعة المؤسسات التشريعية بالدولة، والتي تقوم على إعداد نظام الضرائب، من خلال قوانين منظمة، تبين فيها: أنواع هذه الضرائب، وكيفية حساب الضرائب وفق الشرائح الضريبية للأفراد والشركات، وعلى مختلف مصادر الدخل، ضمن قواعد الفحص الضريبي، وفئات الإعفاءات، وحدودها.
وقد وضعت الدولة نظامًا قانونيًّا منضبطًا ألزمت جميع مؤسساتها به، كما ألزمت به جميع أفراد المجتمع، وكل ضريبة تفرض وفق هذا النظام هي ضريبة عادلة في جبايتها وتوزيعها، فالضرائب التي تفرضها الدولة لا علاقة لها بالمكس المحرَّم شرعًا؛ لأنها تُفْرَض في نظير حقوق مشروعة، حيث تُصرف في خدمات والتزامات تقوم بها الدولة لمواطنيها في الجملة لتحقيق مصالحهم وتنظيم سائر شؤون معاشهم للنهوض بأحوالهم في جميع الميادين. بخلاف المكس الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإنه يؤخذ بغير حق وينفق في غير حق؛ لأن المكوس الجائرة هي الضرائب التي تؤخذ من الأفراد بواسطة الحكام جباية؛ توسعة على أنفسهم وأتباعهم وتضييقًا على شعوبهم. ينظر: "تاج العروس" (16/ 514- 515)، و"لسان العرب" (6/ 220).
والتهرب من الضرائب ينطوي على عدد من المحرمات، منها:
1- الزور والكذب: فالتهرب من دفع الضريبة المستحقة بتقديم إقرارات كاذبة تخفي حقيقة الذمة المالية للشخص، وإظهارها على خلاف الواقع هو عين الزور، وهو حرام، وكبيرة من الكبائر، قال تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [الحج: 30].
قال الإمام الجصاص في "أحكام القرآن" (3/ 314، ط. دار الكتب العلمية): [قال الله عز وجل: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ والزور الكذب، وذلك عام في سائر وجوه الكذب] اهـ.
وهذه الآية الكريمة قد اعتمد عليها الفقهاء في تحريم الإخبار بغير الحقيقة كذبًا وتدليسًا، فهي عمدتهم في ذلك، فقد قَرَن الله تعالى بين التزوير وعبادة الأوثان التي هي من الكبائر، فانسحب حكمها على قول الزُّور من حيث كونها كبيرة، كما قرره بدر الدين الزركشي في "البحر المحيط" (6/ 99، ط. دار الكتبي).
وكما هو معلوم شرعًا فالكذب من الكبائر، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النحل: 105].
قال الإمام الواحدي في تفسيره "الوسيط" (3/ 85، ط. دار الكتب العلمية): [وفي الآية أبلغ زجر عن الكذب] اهـ.
2- خيانة الأمانة: إذ يعتبر التهرب الضريبي مخالفة صريحة للالتزام الذي نشأ بين الشخص (مقدم البيانات) والدولة، وتضييع الأمانة من الخيانة المنهي عنها، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58].
وقد ذكر رسول صلى الله عليه وآله وسلم أن خيانة الأمانة من صفات المنافق، فقال: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» متفق عليه.
والخيانة فيما يضر بحق المجتمع أشد إثمًا وأقبح جرمًا مما يضر بحق الأفراد؛ لأن التهرب الضريبي يعيق الدولة عن جمع الأموال الناتجة مِن الضرائب وصرفها في مشاريعها القومية، أو رعاية حاجة الفقراء والمساكين ومحدودي الدخل.
أما وجه التجريم القانوني فقد نص قانون "الضريبة العامة على المبيعات" رقم 11 لسنة 1991م في مادته (41) على أنَّه [يعاقب بغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تجاوز ألفي جنيه فضلًا عن الضريبة والضريبة الإضافية المستحقتين: كُلُّ مَن خالف أحكام الإجراءات أو النظم المنصوص عليها في هذا القانون ولائحته التنفيذية دون أن يكون عملًا من أعمال التهرب المنصوص عليها فيه، وتعد مخالفة لأحكام هذا القانون الحالات الآتية...
2-تقديم بيانات خاطئة عن المبيعات مِن السِّلَع أو الخدمات الخاضعة للضريبة إذا ظهرت فيها زيادة لا تجاوز 10% عما ورد بالإقرار] اهـ.
وهو ما نص عليه قانون رقم 91 لسنة 2005م الخاص بشأن "الضريبة على الدَّخْل"، وذلك وَفْقًا لآخر تعديلاته لسنة 2023م، حيث نَصَّ في مادته (133) على أنَّه: [يعاقب كل مموِّلٍ تَهرَّب من أداء الضريبة بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، ولا تجاوز خمس سنوات، وبغرامة تعادل مثل الضريبة التي لم يتم أداؤها بموجب هذا القانون أو بإحدى هاتين العقوبتين] اهـ.
كما يقع على عاتق المسؤولين عن تقديرها وجمعها مسؤولية شرعية، تتمثل في مراعاة العدل والرفق، وتجنب الإعنات على الناس، وأخذهم بالقسط دون ظلم أو إجحاف؛ حيث حذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك؛ فقال: «اللهُمَّ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ» رواه الإمام مسلم.
وقال صلي صلى الله عليه وآله وسلم: «الْعَامِلُ إِذَا اسْتُعْمِلَ فَأَخَذَ الْحَقَّ وَأَعْطَى الْحَقَّ كَالْمُجَاهِدِ فِي سُبَيْلِ اللهِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ» رواه الإمام الطبراني في " المعجم الكبير".
وفيه بين رسول صلى الله عليه وآله وسلم أن إتقان العامل والموظف لعمله وأداءه بإنصاف دون تفريط أو محاباة هو بمنزلة الجهاد في سبيل الله، فينال نفس الأجر والثواب؛ حيث يبذل كلاهما جهده لخدمة الدين والمجتمع.
وإذا رأى من لزمته الضرائب الجور في تقدير نسبتها الواجبة عليه، فإنَّ له أن يرفع أمره إلى الجهات المختصة لاستبيان الأمر، والنظر فيه، دون أن يبادر من نفسه بالتهرب منها، إذ من المقرر أنه لا يصح أن يكون الإنسان خصمًا وحكمًا في آن واحد. ينظر في ذلك: القانون رقم 91 لسنة 2005م، وتعديلاته المتعاقبة حتى قانون 7 لسنة 2025م، واللوائح التنفيذية لهذه القوانين.
الخلاصة
بناءً على ما سَبَق وفي واقعة السؤال: فإنه لا يجوز التهرب من الضرائب التي يفرضها ولي الأمر (مصلحة الضرائب الحكومية)، ويجب على المرء تحري الصدق في كل أحواله وتجنب الكذب والزور والخداع، والالتزام بقوانين الدولة ولوائحها التي تنظم شؤون المجتمع ومصالحه وتهدف إلى تحقيق مصالح المواطنين في الجملة. ويقع على عاتق المسؤولين عن تقديرها وجبايتها وتوزيعها واجبًا شرعيًّا يتمثل في سلوك مسالك العدل والرفق، ومراعاة المصلحة، ولا يجوز التهرب من الضرائب بحال من الأحوال، وإذا رأى أن تقديراتها غير عادلة فعليه أن يسلك المسارات القانونية المتاحة لتصحيح التقديرات وسداد ما عليه من التزامات تجاه الدولة، لا الإتيان بأفعال تنطوي في ذاتها على محرمات شرعية صريحة، وجرائم قانونية واضحة.